مدافع نابليون والكشوف الجغرافية في مواجهة المسلمين !؟
هل هناك علاقة بين جهل الأمة بتاريخها ورجالاته، وبين حالة التردي التي تعيش فيها؟ وهل لهذه الحالة أثر في المسخ الفكري الذي تعاني منه؟ وتتخبط في متاهاته بحيث تصدق أي مقولة تطرح عليها لتُثبت بعد ذلك في أذهان أبنائها على الرغم من زيفها من جراء تكرارها والتأكيد عليها؟!
إن واقعنا اليوم يشير إلى أن كثيراً من الأخطاء التاريخية قد لُبِّسَتْ على الأجيال، وماتزال تسيطر على العقول، وأصبحت مُسَلَّمات لا تقبل عندهم النقض، مما أثر في نظرتهم إلى أمتهم وتاريخها، وإلى أنفسهم ومستقبل أيامهم!
ففي كثير من كتب الأدب التي تدرس للناشئة في بعض مناهج الدول العربية أن عصر النهضة بدأ بدخول حملة الجنرال الفرنسي نابليون بونابرت إلى مصر (1213ه 1798م)، وأنها أدت إلى يقظة الأذهان في المشرق العربي، فأحسّت بالحاجة الماسة إلى نفض غبار الجمود، والأخذ بأساليب حضارية ملائمة لحاجات العصر ومتطلباته.
كما لايزال يتردد أن الدافع الذي كان وراء قيام أوروبا بالكشوفات الجغرافية كان الدافع الاقتصادي مع إغفال الجانب الديني الصليبي وإهماله.. فأين تكمن الحقيقة؟
يقول الأستاذ محمود شاكر (الشامي) مبيناً كِبر هذه المغالطة: إن الدافع الأساسي الذي دفع أوروبا هو الجانب الديني، وإن الجانب الاقتصادي قد نتج عنه، وكان ظله، أو الدرء الذي أخفت أوروبا خلفه حقيقة وجودها خارج بلادها أو في مستعمراتها.
إن الدول الأوروبية قد دفعت الإسبان والبرتغاليين لقتال المسلمين، وأيدتهم بكل ما يحتاجون إليه حتى إن بحارتهم كانوا من غير أبنائهم، وكان نتيجة ذلك الإمداد أن استطاع الإسبان والبرتغاليون طرد المسلمين من الأندلس وملاحقتهم في كل مكان، وكانت خطتهم تطويق المسلمين، وفي أثناء تنفيذ الخطة تمت معرفتهم لمناطق جديدة بالنسبة إليهم، فانطلقوا منها وأغرتهم بغناها، فانطلقوا من الحروب إلى جمع الثروة والتوسع في أراضٍ جديدة، أو لازم أحدهما الآخر، وهذا ما أثار عليهم أصدقاء الأمس الذين حسدوهم في الاستعمار واتهموهم بترك المهمة الأساسية التي ساروا من أجلها، والتي تلقوا المساعدات الكثيرة في سبيل تنفيذها، وهي قتال المسلمين، ولكن المغريات قد عطفت بهم الطريق، وحوّلتهم عن مهمتهم الأصلية بعض التحويل، لذلك قاموا ينافسونهم، فحصل التنافس الاستعماري الذي طغى عليه الجانب الاقتصادي ظاهرياً، هذا الجانب الاقتصادي أو التنافس الاستعماري قد طغى في النهاية على صورة الاكتشافات، وأظهر الاستعمار على أنه ظل له، وأنسى الكثيرين واقعه الحقيقي، فكتبوا عن الاستعمار وأثره في البلاد وأهدافه وغاياته والوسائل التي اتخذها.
وكلما مرت الأيام كشفت عن حقائق أكثر وصور أوضح بحاجة لإضافة بعضها إلى بعض لتتكامل صورة الاستعمار الحقيقية في أذهان الناس، وعندئذ لا يرون إلا الصليبية بحقدها البشع، وأنيابها البارزة، وأعمالها الوحشية.
لقد كانت مهمة إسبانيا الالتفاف على المسلمين من ناحية الشرق، بينما كُلفت البرتغال بالتحرك من الجنوب لإتمام عملية التطويق، وليس من شك بعد هذه الحقائق أن الدوافع الحقيقية لاكتشافات أوروبا الجغرافية هي الروح الصليبية الحاقدة التي كانت فاتحة للحروب الصليبية الجديدة التي عرفت باسم الاستعمار.
وأما الحقيقة التاريخية الأخرى فقد كشف عنها فارس التراث الشيخ محمود محمد شاكر (المصري) وواجه يرحمه الله الزيف الذي ضلل العقل العربي والإسلامي، وغرس في الأجيال الناشئة الاعتقاد بأن النهضة بدأت باجتياح الغزو الصليبي لهذه الديار، وبيّن أنها لم توقظ المسلمين كما يدعون وإنما كانت لتدمير اليقظة التي بدأت في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الهجريين، وهو يقابل نهاية القرن السابع عشر إلى نهاية الثامن عشر، وفي هذين القرنين ظهر خمسة من الأعلام، أسماهم الشيخ صناديد النهضة الإسلامية هم:
1 عبد القادر البغدادي ، صاحب الخزانة المتوفى 1093ه 1683م.
2 الجبرتي الكبير، المتوفى 1118ه 1774م.
3 الشيخ محمد بن عبدالوهاب، المتوفى 1206ه 1792م.
4 المرتضى الزبيدي صاحب تاج العروس المتوفى 1205ه 1790م.
5 الشوكاني، المتوفى 1250ه 184م.
ومن يدرس تاريخ هؤلاء الرجال وما أحدثوه من يقظة يتأكد أن الزحف العسكري الصليبي من هذا التاريخ حملة نابليون على مصر كانت سنة 1798م إنما كانت لتدمير هذه اليقظة، وأن المسافة بيننا وبينهم في هذا الزمن قريبة يمكن أن تدرك بقليلٍ من الجهد.
وهذا المعنى أكده الشيخ محمود شاكر تأكيداً قاطعاً بما رواه من أحداث ثورة القاهرة الكبرى على الوجود الفرنسي، وكان ذلك في 10 جمادى الأولى 1213ه 21 من أكتوبر 1798م، أي بعد ثلاثة أشهر من تدنيس نابليون أرض مصر، فارتكب في قمع هذه الثورة من القسوة والتدمير، وذبح الرجال والنساء، وسفح الدماء الغزيرة ما ارتكب، ونذر أن يذبح عند شروق كل شمس خمسة أو ستة تقطع رؤوسهم ويُطاف بها في أنحاء القاهرة.. ويقول الشيخ: لاشك عندي أن هؤلاء الخمسة أو الستة هم من طلاب العلم في الأزهر، ومن المحرضين على مقاومة هذا الغازي المنتهك لحُرمة ديار الإسلام، وأن الاستشراق هو الذي كان يقدمهم لهذا الجزار، وأنه كان يتخيرهم له، لأنه كان على معرفة سابقة بهم، وأنهم كانوا من الطلبة النابهين من ورثة الجبرتي الكبير، والزبيدي، أي أنهم كانوا من طلائع اليقظة التي جاءت الحملة الفرنسية قبل كل شيء لوأدها في مهدها، ومما لا يُنسى أن الفرنسيين قاموا بقتل ثلث مليون مصري في وقت كانت تعداد مصر لا يتجاوز مليونين و460 ألف نسمة، وهدموا الكثير من القرى التي ثارت ضد جيش الاحتلال، والعديد من أحياء المدن، وكان من أهداف هذه الحملة كما يقول "جورج سوردون" أن الأسلحة الفرنسية استخدمت لتطبيق القانون الفرنسي.. فقانون نابليون هو الثمرة لمدافع نابليون.
إن النهضة ووسائلها لم تكن في حسبان الغازين، فالمطبعة التي أحضرها نابليون من إيطاليا كانت لطبع بيانات التضليل للشعب المصري، تلك التي زعم فيها أنه مسلم أكثر من المماليك، وأنه نصير لخليفة المسلمين، ثم خرجت هذه المطبعة من مصر بخروج الحملة الفرنسية، ومما لا يُنسى أيضاً أن نهاية كليبر خليفة نابليون كانت على يد شاب أزهري هو "سليمان الحلبي" القادم من بلاد الشام.
ويسخر الشيخ من هذا الفساد المخجل الذي نعيشه حين نقول إن غزو نابليون لمصر هو بدء النهضة، ولم يقف الخطأ عند هذا الخزي وعند هذه المهانة وهذا العار الذي دل على جهلنا بتاريخنا ورجالنا الذين أسسوا لنهضتنا، ووضعوا لها المنار، وسلكوا الطريق، ونبهوا وأيقظوا، وجهلنا كل ذلك وجعلنا تاريخ وأد هذه النهضة هو بداية النهضة، وعلى الرغم من شناعة هذه الزيوف واستبدادها بالعقول لم نعدم أقلاماً وعقولاً راجحة، وأفكاراً نيّرة تحاول كشف هذه الأباطيل، وحصرها في زاويتها التي لا تتعداها، وإذا كانت هاتان القضيتان قد وجدتا من يكشف زيفهما فإن كثيراً من القضايا ماتزال تتلبس عقول المسلمين، وتشوه أفكارهم، وتترك أثرها غير الحميد في نفوسهم !؟
وسوم: العدد 888