الحق والواجب في الإسلام
من المعلوم أن كل فكر سديد أو علم صحيح يصدر عن الإنسان لا سداد له، ولا يصح إلا إذا وافق ما في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن الإنسان إنما علّمه ربه ما لم يعلم مصداقا لقوله تعالى : (( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم )). ولا يمكن للإنسان أن يدعي علما خارج هذه السنة الإلهية لأنه يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا مصداقا لقوله عز من قائل : (( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون )) . ومن خلال هذا الجعل الإلهي يحصل العلم والمعرفة الصحيحان للإنسان .
والإنسان إما أن يشغّل هذا الجعل الإلهي تشغيلا موفقا، فيحصّل العلم المطابق لما جاء في كتاب الله عز وجل أو يسيء تشغيله فيتنكب بذلك العلم الصحيح .
والإنسان منذ أن وجد على سطح هذا الكوكب، وهو يحاول فهم كل ما يحيط به وكل ما يدركه عقله من مادي محسوس ملموس أو معنوي مجرد .
وأكثر الناس خوضا في فهم وتعريف ما يدركه العقل البشري هم الفلاسفة وهم نوعان : نوع يطابق فهمه ما جاء في كتاب الله عز وجل و في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، ونوع يتعارض معهما . ومن تطابق فهمه مع ما جاء فيهما مع كونه لا يؤمن بالله عز وجل ففهمه إنما يصدر عن الفطرة التي فطر الله عز وجل الناس عليها .
ومما خاض فيه الفلاسفة من القضايا قضية الحق والواجب ،و قد أفاضوا في تعريفهما حسب مبلغهم من العلم ، وربما اختلفوا في تعريفهما حسب ما يعتقدون أو ما تفرضه عليهم عصورهم وبيئاتهم وقناعاتهم . ولا حاجة للخوض فيما ذهبوا إليه من تعريفات وما اختلفوا فيه .
وكلمة حق لها معان متعددة في اللسان العربي ذلك أنها تطلق على اسم أو صفة من أسماء أو صفات الله تعالى مصداقا لقوله تعالى : (( ذلك بأن الله هو الحق وأن ما تدعون من دونه هو الباطل )) . ويطلق الحق على نقيضه وهوالباطل كما جاء في قوله تعالى ، كما يطلق على كلام الله عز وجل مصداقا لقوله تعالى : (( وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين )) ،وقد جاء في التفسير أن اسم الإشارة في هذه الآية قصد به سورة من سور القرآن الكريم . ويطلق الحق على الإسلام كما يطلق على أمور أخرى منها العدل، والموت ،والحزم، والملك ـ بكسر الميم ، والمال ، والصدق ، والثابت من الموجود ...
والحق كاسم من أسماء الله الحسنى أو صفة من صفاته المثلى يدل على وجوده الوجود الحقيقي وهو وجود بذاته ، ومنه يأخذ كل موجود وجوده وكل ذي حق حقيقته على حد قول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في كتابه : " المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى" .
والحق يطلق على ما يجب للإنسان مقابل ما يجب عليه ،وسمي الأول حقا، والثاني واجبا تمييزا لما هو واجب على الإنسان مما هو واجب له . والحق والواجب صنوان لا يذكر أحدهما إلا وحضر إلى الذهن الآخر .
وبالرغم من أن الإنسان حاز التكريم من خالقه سبحانه وتعالى والتفضيل على كثير ممن خلق ، فإنه بحكم طبيعته الطينية يجمع بين صفات ورد ذكرها في كتاب الله عز وجل تدل كلها على ضعف فيه مصداقا لقوله تعالى : : (( وخلق الإنسان ضعيفا )) . وتترتب عن صفة الضعف هذه صفات سلبية أخرى ذكرها الله تعالى في محكم التنزيل وهي : كفور ، ظلوم ، جهول ، قتور ، هلوع ، جزوع ، قنوط ، يؤوس ، عجول ... وقد جاءت كلها بصيغة فعول التي تفيد المبالغة . وهذه الصفات وغيرها مما ورد في كتاب الله عز وجل من غير صيغة فعول إذا جمعت دلّت على صفة الضعف المتأصلة في الإنسان .
ونظرا لهذه الصفات السلبية ، فإن الإنسان لا يتعامل مع ما يحق له كتعامله مع ما يجب عليه أو يحق لغيره، ذلك أنه يلح على غيره في المطالبة بحقه ، يماطله إن طالبه بما له من حقه عليه .
وأول واجب ينكره الإنسان أو يماطل فيه، هو حق خالقه سبحانه وتعالى عليه وقد مكنه من كل حقوقه في شكل نعم لا يحصيها عد ، ولا يؤدي شكرها شكر . والتقصير في شكرها هو إجحاف في حق المنعم سبحانه وتعالى ، وهو عبارة عن كفران وجحود يتمثل في الاستفادة من نعمه سبحانه دون شكرها ، والأقبح من ذلك استعمالها أو الاستعانة بها على معصيته .
وحق الله تعالى على الإنسان أن يعبده لا يشرك به شيئا ، والعبادة إنما هي طاعة قوامها الائتمار بأوامره سبحانه وتعالى والانتهاء عن نواهيه. وكل من لم يعبد الله عز وجل مطيعا له، فهو مقصر في حقه سبحانه وتعالى ، وهو تقصير لا يضيره لأنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين ، ولكنه يبقى حقا له عليهم.
وكما جعل الله تعالى لذاته المقدسة حقا على عباده ، فقد جعل للعباد حقوقا لهم وحقوقا عليهم تجاه بعضهم البعض إلا أنهم يرغبون فيما لهم منها ، ويرغبون عما عليهم منها بسبب ما جبلوا عليه من ضعف ، ولا عذر لهم في ذلك، لأن التقصير في الواجب مع التمتع بالحق ظلم لا يرضاه الخالق سبحانه وتعالى ، وهو وإن تعلق بالخلق فيما بينهم يعتبر اعتداء على حق الخالق سبحانه وتعالى الذي قضى بينهم بحقوق لهم وواجبات عليهم وجعل حقوقهم من حقه عليهم.
ومعلوم أن مدار ابتلائهم في هذه الحياة الدنيا قبل رحيلهم عنها للمساءلة والمحاسبة والجزاء في الحياة الآخرة هو مدى موازنتهم بين حقوق تحق لهم وواجبات عليهم هي عبارة عن حقوق لغيرهم .
والإنسان غالبا ما يطالب بأكثر مما يجب عليه لأنه ظلوم بطبعه ، والأمثلة على ذلك كثيرة تعج بها حياتهم ، ويطول الحديث عنها . ويوجد خلل كبير في تقويم الإنسان لما يحق له وما يجب عليه ،وهو في ذلك مطفف إذا اكتال الحق يستوفي ، وإذا كال الواجب ينقص وهو على يقين أنه مبعوث ليوم الدين ومعرّض للمساءلة والمحاسبة، وينتهي به المطاف إلى جزاء يكون له أو عليه .
مناسبة حديث هذه الجمعة أننا ألفنا مطالبة الناس فرادى وجماعات بحقوقهم حتى أنهم ابتدعوا ما صار يسمى حقوق الإنسان دون أن يبتدعوا في المقابل ما يسمى الواجب على الإنسان . وقد يخرج الناس في مظاهرات يطالبون بشتى الحقوق منها ما هو مادي ، ومنها ما هو معنوي، فإذا ما سئلوا عما يجب عليهم عمدوا إلى اللف والدوران لتبرير تقصيرهم في الواجب مقابل الإلحاح في المطالبة بالحق . وقلما نجد على سبيل المثال من يرضى على ما يصرف له من مال على ما يقدمه من عمل ،ذلك أن الجميع يرون أن ما يقدم لهم هو قليل بالنسبة لما يقومون به . وهذا إن كان يصح عند البعض أو لنقل الكثير من الناس، فهو لا يصح بالنسبة للبعض الآخر . وعلى غرار الحق المادي يطالب الناس بالحق المعنوي وهو كثير ومتنوع حيث يرغبون في الحصول على الكثير منه، وفي المقابل لا يقدمون منه لغيرهم إلا القليل أو الأقل ، وقلما نجد من يوازن بين ما يحصل عليه، وما يقدمه لغيره بهدي وتوفيق من الله عز وجل .
والغريب أن الموازنة بين الحق والواجب تختل حتى بين أقرب الأقربين بالرغم من صلة القرابة حيث يستفيد البعض من حقوق مادية ومعنوية شتى ولكنهم في المقابل لا يؤدون البسيط وحتى الأبسط مما يجب لغيرهم عليهم .
وأكثر علاقات القرابة اختلال بين الحقوق والواجبات علاقة الزواج حيث يشكو الأزواج ذكورا وإناثا من الحيف في حصولهم على حقوقهم مقابل ما يقدمه بعضهم لبعض من واجبات . ومما يترتب عن هذا الاختلال في هذه العلاقة إما انهيارها انهيارا تاما بانتهائها بانفصال أو بسيرها سيرا متعثرا يسوده ضنك العيش وشقاؤه. وقد تنهي بمآس كان يضع بعضهم لبعض حدا لحياتهم وقد أمرهم الله تعالى بمودة ورحمة فيما بينهم ، وهو حق له سبحانه عليهم .
اللهم إنا نسألك أن تبصرنا بعيوبنا وأنت أعلم بها منا . اللهم اجعل حرصنا على ما يحق لنا كحرصنا على ما يجب علينا معك ومع خلقك . اللهم تجاوز عنا كل تقصير في الواجب مقابل الحق الكامل الذي نحصل عليه . اللهم ارحم ضعفنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 889