التطبيع مع الكيان الصهيوني جريمة لا تغتفر
تعيش القضية الفلسطينية هذه الأيام واحدة من أخطر المراحل صعوبة وتعقيدًا، فالاحتلال يتمدّد بشكل مخيف، والمستوطنات تأكل الأخضر واليابس من أرض فلسطين التاريخية، والدعم الدولي لدولة الاحتلال ما يزال مستمرًا وعلى كافة الأصعدة. فضلًا عن انقسام الشعب الفلسطيني منذ عام 2007.
والذي زاد الطين بلّة، "الخذلان العربي" الذي ترجمته على الأرض خطوات تطبيعية مع الكيان الغاصب انتقلت من السر إلى العلن، حتى غدت صورة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وهو يتجول في شوارع عاصمة عربية أمرًا اعتياديا، وشكلا من أشكال الدعم لجهود السلام.
والذي زاد من المخاوف التي تهدد القضية الفلسطينية وقوى المقاومة فيها، هو الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية هذه الأيام، تحت شعار ما يسمى بـ "صفقة القرن"، التي هي وصفة دولية متكاملة هدفها تصفية القضية الفلسطينية، وتعاون بعض الدول العربية معها.
فما معنى "التطبيع" في الوضع الراهن وفلسطين مغتصبة من قبل الكيان الصهيوني؟
وما الهدف من هذا التطبيع؟
أين الذين كانوا بالأمس القريب يملؤون الدنيا ضجيجًا بشعارتهم البراقة (لا صلح، لا اعتراف...)؟ أليسوا هم أنفسهم الذين يسارعون في التطبيع الكامل مع العدو الغاصب؟!!!
ما الذي يجري؟
مفهوم التطبيع
"التطبيع" هو تغيير ظاهرة ما، بحيث تتفق في بنيتها وشكلها واتجاهها مع ما يعتبره البعض "ًطبيعيا". وكلمة "طبيعي" تعني "المألوف" و"العادي"، ومن ثم فإن التطبيع، هو إزالة صفة الشذوذ والنكارة عن الاتفاق مع العدو الإسرائيلي، ليصبح في حكم المألوف والعادي و"الطبيعي".
وهدف التطبيع؛ الوصول لتحقيق غاية، لا خطوة واحدة عابرة وسريعة. فالتطبيع نهج جوهره كسر حاجز العداء مع العدو الصهيوني بأشكاله المختلفة، سواء كانت ثقافية أو إعلامية أو سياسية أو اقتصادية أو سياحية أو دينية أو أمنية أو استراتيجية ...
التطبيع في المفهوم الجاري هو إقامة علاقات مع دولة إسرائيل وأجهزتها ومواطنيها كما لو أنّ الوضع الراهن كان وضعًا طبيعيًّا! وبالتالي يعني تجاهل مسألة الاحتلال لفلسطين، والتمييز العنصري ضد الشعب الفلسطيني، أو هي محاولة للتعتيم على ذلك أو لتهميشه عن قصد.
والتطبيع ممكن أن يحدث بين دولتين جارتين اختلفتا في المصالح والمواقف ثم تعود العلاقات بينهما إلى حالتها الطبيعية، وليس بين محتل ومغتصب! فهذا لا يسمى تطبيعًا بل هو استسلام وجريمة بحق شعب يعيش تحت الاحتلال.
فالوضع في فلسطين ليس وضعًا طبيعيًا، فالتطبيع قضيّة خطيرة في النزاع السياسيّ في العالم العربيّ اليوم، ومعناه التنازل عن حقوقنا التاريخية في فلسطين، والمقدسات الإسلامية فيها وهذه هي جريمة العصر بلا مراء.
آليات التطبيع الصهيوني
بعد أربعة حروب طاحنة كانت مصر، وسوريا، والعراق أطرافًا رئيسة في الصراع ضد الاحتلال وذلك في 1948 و1956 و1967 و1973 ثم وضع الكيان الصهيوني الخطط اللازمة لتدمير هذه الدول بشكل متتابع دولة بعد دولة، فأسقط مصر باتفاقية كامب ديفيد، والتي مهدت لتوقيع القاهرة وتل أبيب معاهدة سلام في 26 آذار (مارس) 1979، وبموجبها اعترفت مصر بإسرائيل، فكانت أول دولة عربية تُقدم على مثل هذه الخطوة.
والمرحلة الثانية: هي احتلال العراق وتدمير الدولة العراقية وقواته المسلحة لإخراجها من خط المواجهة.
والمرحلة الثالثة: إخراج سوريا من المواجهة، وبذلك باتت الأجواء مناسبة للدول التي كانت تعسى للتطبيع بشكل سري، حيث عاد العرب للهرولة بسرعة ضوئية نحو التطبيع من مؤتمر مدريد إلى وادي عربة وأوسلو وصولا للناتو العربي الإسرائيلي والاستقبال العلني والحافل لقادة الاحتلال ووزرائهم...
وعمد الكيان الصهيوني من خلال وسائل الإعلام العالمي والعربي المتصهين إلى إحداث تغييرات في الاستراتيجية خلال الفترة الماضية منها؛ تغيير الوعي العربي وعقيدة الأمن القومي لدى الدول العربية، التي باتت تروج بأن الصراع مع إيران وتركيا وحتى مع القوى الديمقراطية مقدم على الصراع مع دولة الاحتلال، رغم أننا نعي خطر إيران وأنه لا يقل خطورة عن الخطر الصهيوني بل هو أشد فتكًا، ولكنها كلمة حق أريد بها باطل وذلك لتشتيت العقول وصرف الأنظار عمّا يفعله الصهاينة اليهود والعرب.
وقد مر التطبيع مع العدو الإسرائيلي بثلاثة مستويات:
الأول: هو التطبيع الرسمي العلني أو التطبيع التقليدي، وهو محصور في مصر والأردن، من خلال الاتفاقيات الموقعة بينهم.
التطبيع الثاني: هو التطبيع الخليجي، "التطبيع غير المباشر مع الدول العربية الأخرى، باستثناء سوريا، ولبنان" بمسميات مختلفة (مكاتب اقتصادية وممثليات وجمعيات).
أما التطبيع الثالث وغير المسبوق في الأمة: وهو التطبيع الخليجي العلني مع إسرائيل، فخلال الأعوام الخمسة الماضية تحديدًا، بدأت دولة الاحتلال تتحدث علنًا عن علاقات غير مسبوقة مع دول عربية وخليجية، ومع الإمارات تحديداً، وتم تبادل الزيارات السرية والعلنية. فما حدث خلال المرحلة الأخيرة يكشف الكثير، فنتنياهو زار عاصمة خليجية، ووزيرة إسرائيلية زارت عاصمة خليجية أخرى، وفريق رياضي زار عاصمة عربية أخرى، وزيارة لأمير عربي إلى تل أبيب، وكل ذلك فترة زمنية قصيرة! لتنتقل أبو ظبي إلى المرحلة العلنية في التطبيع مع غاصب محتل، وقد سبق للإمارات أن عقدت في العاصمة البحرينية المنامة بالتنسيق مع واشنطن، ورشة عمل اقتصادية تحت عنوان "السلام من أجل الازدهار يومي 25 و26 يونيو 2019.
ضمن هذا الإطار العام رأت إسرائيل أن الضمان الأهم لاستمرار وجودها هو أن تكون مقبولة من قبل العرب والمسلمين كجزء لا يتجزأ من المنطقة وأن يتم التعامل معها كدولة لها الحق في الوجود والعيش بسلام وفي علاقات اعتيادية مع الآخرين كأي دولة أخرى في المنطقة. ولهذا عملت إسرائيل منذ قيامها نحو البحث عن وسائل انفراج مع العرب وإقامة علاقات غير عدائية بل واعتيادية معهم. وقد تركز جهدها على الشارع العربي، وعلى الإنسان العربي العادي لأنه هو الباقي وليس الحاكم. وهي بذلك كانت بحاجة إلى أمرين:
الأول: قادة عرب لا يتمتعون بغيرة على أمتهم وشعوبهم ومن الممكن تسييرهم.
الثاني: هزائم عسكرية تلحق بالعرب تؤدي إلى إحباطات متراكمة وترسخ فكرة الاستسلام.
فبعدما أنجز أوباما الاتفاق النووي الإيراني، وسمح لإيران في التوسع في المنطقة بعد تسليم العراق لهم على طبق من ذهب، بدأت دول الخليج تتحرك باتجاهات مختلفة في محاولة منها لتطويق دور إيران التوسعي. ما دفعهم إلى الهرولة والارتماء في حضن أمريكا وإسرائيل، حتى توفر لهم الحماية المزعومة، وأصبح حالهم كالمُستَجيرِ مِن الرَّمضاءِ بالنارِ، حيث يرى حكام المشيخات في تحالفهم مع الكيان الصهيوني ضمانة لبقائهم، فيما ترى إسرائيل بالمشيخات الطريق الرئيسي نحو تصفية القضية الفلسطينية، ولكلا الجانبين هدف واحد هو محاولة إنهاء القضية الفلسطينية وتدمير الدول الرافضة للاحتلال والداعمة للقضية الفلسطينية، لما تمثله من رأس الهرم المقاوم في المنطقة، ألا يعلمون أن حماية الاوطان لا تتم من خلال التحالف مع المحتل والأجنبي، بل إن الأوطان يحميها شعوبها.
وبعد استكمال المخطط الصهيوني من خلال الاحتلال وخلق المشاكل للدول المناهضة لمخططاتها والداعمة للحق الفلسطيني وإثارة الطائفية لتفكيك الشعوب العربية، وتنصيب حكام موالين للصهيونية ليس لهم غيرة على أمتهم، قد تكامل المخطط الصهيوني مع الدور القيادي العربي المستسلم وانتهت الأوضاع إلى حيث أرادت إسرائيل- وهو الجلوس على طاولة المفاوضات للتطبيع ولتصنع سلاما على مقاسها، يقوم على الاعتراف المتبادل وفتح الأبواب أمام العلاقات الاعتيادية.
إن رفض جريمة التطبيع العربي مع إسرائيل هو مصلحة عربية بالدرجة الأولى، وليس مرتبطا بالتضامن مع القضية الفلسطينية، وقد سبق وتصاعد "حالة الرفض الشعبي والجماهيري العربي لصفقة القرن ولمؤتمر المنامة الاقتصادي...
وبما تعبر عن صحوة عربية قادمة، هذه الصحوة العربية من شأنها أن تعيد الصراع إلى أسسه وقواعده، وكذلك إعادة اتجاه البوصلة العربية والإسلامية نحو فلسطين والقدس".
إن "النضال، والنضال وحده مقرون بالوحدة بين مختلف المكونات والفصائل والشخصيات الفلسطينية هو الطريق السالك فقط، وهو الأداة الفاعلة لتحقيق النتائج وانتزاع المكاسب من قلب الوحش الإسرائيلي المتفوق، ذلك هو الدرس، وتلك هي النتيجة، ولا أمل لفلسطين بغيرها، وليس من خلال جريمة الاستسلام والتطبيع.
عاشت فلسطين حرة عربية
وسوم: العدد 890