في ميزان الله
ثم نقف الوقفة الأخيرة مع قصة نوح؛ لنرى قيمة الحفنة المسلمة في ميزان اللّه سبحانه:
إن حفنة من المسلمين من أتباع نوح ، تذكر بعض الروايات أنهم اثنا عشر، هم كانوا حصيلة دعوة نوح في ألف سنة إلا خمسين عاماً، كما يقرر المصدر الوحيد المستيقن الصحيح في هذا الشأن...
إن هذه الحفنة - وهي ثمرة ذلك العمر الطويل، والجهد الطويل - قد استحقت أن يغير اللّه لها المألوف من ظواهر هذا الكون، وأن يجعل هذه الحفنة وحدها هي وارثة الأرض بعد ذلك، وبذرة العمران فيها والاستخلاف من جديد..
.. وهذا أمر خطير ...
إن طلائع البعث الإسلامي التي تواجه الجاهلية الشاملة في الأرض كلها، والتي تعاني الغربة في هذه الجاهلية والوحشة، كما تعاني الأذى، والمطاردة، والتعذيب، والتنكيل.. إن هذه الطلائع ينبغي أن تقف طويلاً أمام هذا الأمر الخطير، وأمام دلالته التي تستحق التدبر والتفكير!
إن وجود البذرة المسلمة في الأرض شيء عظيم في ميزان اللّه تعالى ...شيء يستحق منه سبحانه أن يدمر الجاهلية، وأرضها، وعمرانها، ومنشآتها، وقواها، ومدخراتها جميعاً، كما يستحق منه سبحانه أن يكلأ هذه البذرة، ويرعاها حتى تسلم، وتنجو، وترث الأرض، وتعمرها من جديد!
لقد كان نوح يصنع الفلك بأعين اللّه ووحيه، كما قال تعالى:
﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ (هود: 37).
وعند ما لجأ نوح إلى ربه، والقوم يطاردونه ويزجرونه، ويفترون عليه، كما قال اللّه تعالى في سورة القمر:
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ * فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾ (القمر: 9- 10).
عندما لجأ نوح إلى ربه يعلن أنه «مغلوب»، ويدعو ربه أن «ينتصر» هو، وقد غلب رسوله... عندئذ أطلق اللّه القوى الكونية الهائلة لتكون في خدمة عبده المغلوب:
﴿فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ (القمر: 11- 12)
وبينما كانت تلك القوى الهائلة تزاول عملها على هذا المستوى الكوني الرائع المرهوب ...كان اللّه سبحانه - بذاته العلية - مع عبده المغلوب:
﴿وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ ﴾ (القمر: 13- 14).
هذه هي الصورة الهائلة التي يجب أن تقف طلائع البعث الإسلامي في كل مكان، وفي كل زمان أمامها حين تطاردها الجاهلية، وحين «تغلبها» الجاهلية!
إنها تستحق أن يسخر اللّه لها القوى الكونية الهائلة ... وليس من الضروري أن تكون هي الطوفان، فما الطوفان إلا صورة من صور تلك القوى!
﴿وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ (المدثر: 31)
وإنه ليس عليها إلا أن تثبت وتستمر في طريقها، وإلا أن تعرف مصدر قوتها، وتلجأ إليه، وإلا أن تصبر حتى يأتي اللّه بأمره، وإلا أن تثق أن وليها القدير لا يعجزه شيء في الأرض، ولا في السماء، وأنه لن يترك أولياءه إلى أعدائه، إلا فترة الإعداد، والابتلاء، وأنها متى اجتازت هذه الفترة؛ فإن اللّه سيصنع لها، وسيصنع بها في الأرض ما يشاء.
.. وهذه هي عبرة الحادث الكوني العظيم..
إنه لا ينبغي لأحد يواجه الجاهلية بالإسلام أن يظن أن اللّه تاركه للجاهلية، وهو يدعو إلى إفراد اللّه سبحانه بالربوبية، كما أنه لا ينبغي له أن يقيس قوته الذاتية إلى قوى الجاهلية، فيظن أن اللّه تاركه لهذه القوى، وهو عبده الذي يستنصر به حين يغلب، فيدعوه: ﴿أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾..
إن القوى في حقيقتها ليست متكافئة ولا متقاربة.. إن الجاهلية تملك قواها.. ولكن الداعي إلى اللّه يستند إلى قوة اللّه، واللّه يملك أن يسخر له بعض القوى الكونية - حينما يشاء وكيفما يشاء - وأيسر هذه القوى يدمر على الجاهلية من حيث لا تحتسب!
وقد تطول فترة الابتلاء لأمر يريده اللّه ...ولقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، قبل أن يأتي الأجل الذي قدره اللّه، ولم تكن حصيلة هذه الفترة الطويلة إلا اثني عشر مسلماً ...ولكن هذه الحفنة من البشر كانت في ميزان اللّه تساوي تسخير تلك القوى الهائلة، والتدمير على البشرية الضالة جميعاً، وتوريث الأرض لتلك الحفنة الطيبة، تعمرها من جديد، وتستخلف فيها...
إن عصر الخوارق لم يمض! فالخوارق تتم في كل لحظة - وفق مشيئة اللّه الطليقة - ولكن اللّه يستبدل بأنماط من الخوارق أنماطاً أخرى، تلائم واقع كل فترة، ومقتضياتها، وقد تدق بعض الخوارق على بعض العقول فلا تدركها، ولكن الموصولين باللّه يرون يد اللّه دائماُ، ويلابسون آثارها المبدعة.
والذين يسلكون السبيل إلى اللّه ليس عليهم إلا أن يؤدوا واجبهم كاملاً، بكل ما في طاقتهم من جهد، ثم يدعوا الأمور للّه في طمأنينة وثقة، وعند ما يُغلبون عليهم أن يلجؤا إلى الناصر المعين، وأن يجأروا إليه، كما جأر عبده الصالح نوح:
﴿فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ﴾..
ثم ينتظروا فرج اللّه القريب، وانتظار الفرج من اللّه عبادة، فهم على هذا الانتظار مأجورون.
ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة، ويجاهدون به جهاداً كبيراً ..إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن، ومن ثم يتذ و قونه، ويدركونه؛ لأنهم يجدون أنفسهم مخاطبين خطاباً مباشراً به، كما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذو قته وأدركته وتحركت به ..
.. والحمد للّه في الأولى والآخرة...