الغضب لا اليأس
قال الشاب للجندي: «قوصني وريحني، شو ناطر»؟
تراجع الجندي إلى الخلف مذهولاً وعاجزاً عن الجواب.
وفي زاوية أخرى من المشهد، رفع جندي آخر بندقيته وأطلق النار.
الجندي الأول نظر بعينبن فارغتين إلى الشاب الذي طلب منه أن يطلق النار عليه، تراجع خطوة إلى الخلف، وقبل أن نرى ماذا فعل اختلطت الأمور. بدأ رشق الحجارة والعصي رداً على إطلاق النار، واختفى الشاب وسط الحشد الذي كان يحاول صد محاولات مغاوير الجيش منع المتظاهرات والمتظاهرين من الوصول إلى المفترق المؤدي إلى القصر الجمهوري في بعبدا.
لم يصل المتظاهرون إلى القصر كي يُسمعوا رئيس الخراب اللبناني صوتهم بضرورة رحيله. لكنهم كسروا الحاجز الذي وضعته القيادات الطائفية أمام المطالبة باسقاط رئيس الجمهورية. رحيل الرئيس و/أو كف يده عن السلطة صارت اليوم الحد الأدنى الذي يجب أن يُدفع ثمناً لكارثة المدينة المنكوبة.
استهجنت بطانة قيام المتظاهرين بحمل علم لبناني رُسم باللون الأسود، قالوا إنها إهانة للعلم، ولم يسألوا أنفسهم لماذا تلونت حياتنا بالفحم والخراب والشحبار، ولم نعد نرى سوى الأسود.
منذ انفجار 4 آب-أغسطس، ولبنان كله يعيش في عتمة الخوف والدمار والخيبة.
حصاد انتفاضة 17 تشرين لا يُقاس بمدى نجاحها في تحقيق إنجازات ملموسة على مستوى تغيير البنية السلطوية المافيوية الحاكمة. بل يقُاس بمدى قدرتها على تحطيم صورة السلطة بكل مكوناتها، والدوس على رموزها، وجعلها نكتة سمجة لا تُضحك أحداً.
والحق يُقال، فإن هذه السلطة كانت المساعد الأول لثورة الشباب، فلقد بهدلت نفسها، وأثبتت أنها مجرد فقاعة، وجاء انفجار المرفأ الذي أعقبه حريق 10 أيلول- سبتمير، ليقول إننا نعيش في لا دولة. كل شيء في هذه الدولة تعفّن وتفكك.
لكن المستبدين واللصوص اللبنانيين لا يختلفون عن أقرانهم من المستبدين العرب. فعندما يجد المستبد نفسه مضطراً للانحناء وتقديم التنازلات، فإنه لا ينحني أمام الشعب، بل يختار أن ينحني أمام القوى الإقليمية والدول الاستعمارية، معتقداً أنه يستطيع بذلك متابعة لعبته في قمع الشعب واحتقاره.
هؤلاء اللصوص لا يحتقروننا فقط بل يحتقرون موتنا أيضا، مجموعة من القتلة المحترفين الذين يثيرهم مشهد ذلنا وينتشون أمام دمنا ودموعنا.
انظروا ماذا كانت ردة فعلهم أمام نكبة بيروت، رئيسهم فرك يديه معتقداً أن موتنا فك الحصار عن نظامه الهرم المفلس، أما باقي أفراد العصابة فانتظروا الرئيس الفرنسي كي يلموا فتات السلطة من تحت مائدته.
لا خيار أمامهم سوى الاستسلام، وهم محاصرون من كل الجهات. يرتعدون من العقوبات الأمريكية، ويخشون إفلات فرصة إنقاذ ما تبقى، التي قدمها إيمانويل ماكرون.
ما هذا النظام اللبناني «الممانع» الذي ينهبنا ويستأسد علينا، ويقوم بتفليس الدولة، ويستجدي في الوقت نفسه المساعدات من أمريكا التي تهيمن على صندوق النقد الدولي؟
يا لهذه الممانعة الكاريكاتيرية، التي بدلاً من أن تستعد للحصار، أعلنت انهيارها وإفلاسها قبل أن يبدأ الحصار.
نظام الأسد جعل الممانعة مشجباً علق عليه القمع، فانتهى اليوم وسوريا خاضعة لاستعمار أربع قوى خارجية، والديكتاتور يحصي انتصاراته بعدد القتلى والمهجرين واللاجئين من أبناء الشعب السوري.
أما في المقلب الآخر، أي في مقلب الخليج، فهناك العجب العجاب.
هل كان تزامن التطبيع (أو التتبيع) الإماراتي- الإسرائيلي مع انفجار بيروت مجرد صدفة، ثم شاءت الصدفة أيضاً أن يتزامن التتبيع البحريني- الإسرائيلي مع حريق المرفأ في 10 أيلول- سبتمبر.
يا لبلاغة صدفة الانهيار!
وزير خارجية البحرين قال إن التطبيع حدث تاريخي. يبدو أن «معاليه» لا يميز بين التاريخ والجغرافيا. فمن خرج من التاريخ لا دور له سوى أن يكون مجرد بقعة جغرافية، أي ساحة يمتطيها الأمريكي والإسرائيلي.
رجاء، حلوا عن التاريخ.
الذين لم يحاربوا يوماً لا يصنعون سلاماً، بل يستسلمون، ولا يشاركون في صناعة التاريخ بل يصنع بهم التاريخ ما يشاء.
الذين احترفوا الاستبداد والقمع يوزعون فتات دراهم النفط الأسود على شعوبهم، ويبنون ناطحات سحاب الملح والرمل، هؤلاء كانوا وسيبقون خارج التاريخ.
هل اعتقدتم أن نكبات المشرق سلَطَتكم على تاريخ العرب؟
استمتعوا بالحماية الإسرائيلية، ولكن رجاء.. عندما تنهبكم إسرائيل وتنتهككم وتذلكم وتمرغ كبرياءكم الجوفاء بالرمل لا تطلبوا النجدة من أحد.
عودوا كما أنتم، وقبلوا حذاء ترامب، و«تكشنروا» مع صهره، واستمتعوا بنصف ساعة من الشهرة في البيت الأبيض، قبل أن تعودوا إلى عتمتكم.
هؤلاء الذين بنوا أمجادهم السياسية والثقافية على خراب القدس والشام والقاهرة وبيروت وبغداد، سوف يكتشفون أن مجدهم هو العار.
قالت صديقتي إن هذا «السلام» يحررنا من زمنهم.
اليوم انتهت «الحقبة السعودية» حسب صادق جلال العظم.
ما أطلق عليه المفكر السوري اسم «الحقبة السعودية» كان بداية دخول المشرق العربي في عتمة انحطاط جديد غارق بالمال وتسوده الممارسات الأصولية التي تنتهك النساء وتذلّ الرجال.
رجاء، لا تقولوا إنكم مزقتم «مبادرة السلام العربية» من أجل منع ضم أجزاء من الضفة الغربية إلى إسرائيل، ولا تدعوا أنكم رضختم لضم القدس حفاظاً على المقدسات.
مقدسكم الوحيد هو كراسي حكمكم التي يحميها الأمريكي الذي أضيف إليه اليوم سيد جديد هو الإسرائيلي.
أما نحن، هنا في لبنان وهناك في فلسطين، وهنالك في الشام، فلا خيار لنا.
الشاب الذي تحدى الجندي وطلب منه أن يُقوِّصه، كان يصرخ بمزيج من اليأس والغضب.
وحين أطلق جندي آخر النار تلاشى اليأس وجاء الغضب.
عندما ينتصر غضبنا على يأسنا نعرف أننا نستطيع أن نبدأ من جديد.
وسوم: العدد 894