الأشهر الثلاثة قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية

تبلورت مواجهة ما بين إيران ومحور المقاومة من جهة، وبين أمريكا والكيان الصهيوني من جهة أخرى؛ إلى مستوى وصل حافة الحرب الواسعة. فقد اتسمت هذه المواجهة بتطور عسكري ليس له مثيل، وراح يهدد حالة التفوق العسكري الكاسح للكيان الصهيوني على كل الدول العربية.

فبعد أن عاش الكيان الصهيوني من اليوم الأول لإقامته على شنّ الحرب متى شاء، مكتسحاً من يقف أمامه من جيوش أو مقاومة (وأبلغ مثالين تجدهما في حربيْ 1967 ضد مصر و1982 ضد م.ت.ف في لبنان)، اليوم يواحه جبهة عسكرية بزعامة إيران، وبمشاركة سوريا، والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية. وقد وصلت هذه الجبهة بميزان القوى إلى مرحلة شبه التوازن الاستراتيجي، أو شبه الردع الاستراتيجي المتبادل. وها هي ذي سنوات إثر سنوات تمر، والكيان الصهيوني يُحجم عن الحسم بالحرب.

هذا ولا يبالغ المرء إذا قال إن الكيان الصهيوني دخل أسوأ حالاته حين راح يفقد تفوقه العسكري (المريح)، فأصبح مهدّداً من قبل جبهة ليست قوة عسكرية مقدرة فحسب، وإنما أيضاً شديدة الصلابة مبدئياً وسياسياً في الموقف من وجوده من حيث أتى.

هذا ولا يبالغ المرء إذا قال أن نتائج هذه المواجهة ستقرر مصير الوضع في المنطقة لعشرات السنين القادمة. ويجب أن تعامل على هذا الأساس. وتحدد المواقف منها على هذا الأساس.

  وطبعاً يجب أن تتابع، في الوقت نفسه، نتائج الصراع بين تركيا من جهة، وكلٍ من اليونان وفرنسا (أوروبا وأمريكا لاحقاً)؛ لأن مستقبل الدور التركي سيتوقف على نتائج هذا الصراع في معادلة المنطقة العربية- الإسلامية (العربية- التركية- الإيرانية)، كما أن نتائجه ستؤثر أيضاً في وضع كل من الكيان الصهيوني ومصر والإمارات، باعتبار الدول الثلاث أطرافاً مشاركة في الصراع ضد تركيا. ولكنها ما زالت معركة في بدايتها.

هذه المواجهة المصيرية كان من المفترض على الدول العربية أن تفيد منها، من خلال وضع جهود وضغوط إضافية تعزز المسار التراجعي للكيان الصهيوني الذي زُرع وأقيم وسُلّح ليكون المعوّق المباشر في نهوض العرب وتقدّمهم، بل في استنزافهم وتوجيه الضربات العسكرية ضدهم. فالكيان لم يُزرع من أجل فلسطين لذاتها، وإنما أريد منه استراتيجياً، بالدرجة الأولى، أن يكون المانع وبالقوة، ضد تحرر البلاد العربية ووحدتها ونهضتها. وهذا كان الدرس الذي استقته الاستراتيجية الاستعمارية البريطانية- الأوروبية من تجربتها المريرة مع نهضة مصر في عهد محمد علي الكبير (1807-1840)، فتقرر زرع الكيان الصهيوني في فلسطين.

كان من المفروض على الدول العربية، ولم يزل، أن تفعل ذلك، ولا سيما مصر بالذات، لمواجهة الكيان الصهيوني والتخلص من غطرسته وقوته الباطشة، وذلك بعد تجربة مريرة على مدى عشرات السنين. وقد تلقت الضربات العسكرية القاسية، وعانت ما عانت من ضغوط غربية لحسابه اقتصادياً وسياسياً لمنع تقدمها وتطوّرها. وكان لكل دولة عربية، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، نصيب من الأضرار من وجود الكيان الصهيوني.

  فبدلاً من الإفادة من هذه المعادلة، ولو بالوقوف على الحياد، وإذا بمصر السيسي أولاً، وتليها السعودية محمد بن سلمان ثانياً، تنحدران إلى الدرك الأسفل، لتقدما الخدمات (حتى الآن) لمساعي أمريكا والكيان الصهيوني في الإعلان عن اتفاق نتنياهو- الملك حمد، لينضم إلى اتفاق نتنياهو- محمد بن زايد. وهما اتفاقان تخطيا جريمة التطبيع لاقتراف خيانة التحالف مع الكيان الصهيوني. وبهذا يُضرب عرض الحائط حتى بالمواقف العربية الرسمية على هزالها وسوئها (مبادرة السلام العربية)، وبلا أسف عليها أيضاً.

ما كان لحكومة البحرين أن تجرؤ على هذه الخطوة لولا الضغوط الأمريكية الهائلة، ولولا مباركة مباشرة من محمد بن سلمان. وهذه بدورها ما كانت لتحصل لولا تشجيع السيسي عليها، وذلك بإعلان التأييد الفوري للاتفاق الثنائي التحالفي نتنياهو- الملك حمد.

من هنا يتوجب أن تقرأ خطورة موقف السيسي، ولكن ليس باعتباره استمراراً لموقف السادات- مبارك و"المعاهدة المصرية- الإسرائيلية". لماذا؟ صحيح أنه لولا ما فعله السادات ومبارك لما وصلت الأمور إلى ما وصلته الآن، ولكن مع ذلك، يجب أن يُقرأ ما يحصل الآن باعتباره وصفاً لحالة جديدة قائمة بذاتها. وذلك ليس للتخفيف من جريمة الخطيئة الأولى، وإنما من أجل قراءة أكثر دقة للوضع الراهن الذي دخل مرحلة جديدة مختلفة، مما يوجب التفريق بينها وبين الوضع السابق لها، مهما أعيد للأخير من مسؤولية.

لسنا الآن أمام سياسة المحافظة على "المعاهدة المصرية- الإسرائيلية"، وإنما نحن أمام حالة تحالف وتآمر وتواطؤ مع الكيان الصهيوني، افتتحها اتفاق نتنياهو- محمد بن زايد.

والسؤال: هل راح السيسي يمهد لتتزعم مصر هذا التّوجه، أم ثمة احتمال بأن يكون موقف السيسي موقفاً مباعاً، بالقطعة، بطلب أمريكي ملحّ ولحساب دونالد ترامب شخصياً؟

يجب أن تلحظ في قراءة السّياسة الأمريكيّة اليوم ظاهرة تسخير ترامب كل السّياسات الأمريكيّة لمعركته الانتخابية في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر القادم. فهي لا تعبّر عن استراتيجية أمريكيّة متماسكة وذات ثبات لمرحلة طويلة قادمة، وهي حالة شذوذ عجيب في السّياسة، مما يتوجب أخذها بعين الاعتبار، وحصرها بنتائج المعركة الانتخابية القادمة، حتى بالنسبة لدونالد ترامب نفسه، في حالة نجاحه.

فترامب يسخّر كل إمكانات أمريكا، ويستغل كل ضعف عربي، ليدفعه إلى مهرجان انتخابي يوقع فيه "رئيس" على اتفاق مع نتنياهو. ومن ثم يعتبر، ولو بسخافة، إنجازاً تاريخياً يحقّقه ترامب من أجل أن يقدّمه للناخبين اليهود ولا سيما للبروتستانت الصهاينة في أمريكا، فيأخذ المشاركون شكل دمى عربية تقف، بذِلّة وصغار، في ذلك المشهد الهزلي. وقد راح ترامب يُعجِّب عليهم بإشاراته وحركاته، فكل تحليل سياسي يجب أن يحصر نفسه بالأشهر الثلاثة القادمة، أما بعد الانتخابات فلكل حادث حديث سواء أنجح ترامب أم فشل.

على أن المشكل في تقويم سياسة مصر أولاً، وإلى حد أقل تقويم سياسة السعودية: بمعنى هل ستقتصران على دعم موقفيْ كل من محمد بن زايد والملك حمد وتغطيتهما أم تمهدان لتزعم التحالف مع الكيان الصهيوني. وتذهبان إلى المدى الذي ذهب إليه محمد بن زايد؟ أم ستنشأ موازين قوى جديدة تفرض تغييراً آخر؟

ليس من السهل أن نقرأ السياسة مميزين بين حضيض وحضيض أسفل منه، وحضيض أسفل من الأسفل؛ لأن الميل العام يتجه إلى اعتبار أول حضيض بمثابة آخر حضيض، ولكن المشكل في هذا الميل وقوعه في منطق إما أبيض وإما أسود، ولا ألوان أخرى، فيما الحياة مليئة بالألوان، وحتى الأبيض ألوان والأسود ألوان، بل الجنة درجات وجهنم درجات.

يجب أن يُلاحَظ هنا أن انتقال مصر من حالة إعلان دعم وتأييد لخطوة محمد بن زايد والملك حمد إلى حالة تبني هذا الخط وتزعمه؛ سوف يؤدي إلى مرحلة مختلفة في الوضع العربي عن المرحلة الراهنة. ولكن قبل ذلك سيتطلب تغيير نظرة مصر إلى نفسها ودورها؛ لأن تحوّل مصر إلى التحالف مع المشروع الصهيوني وغسل اليدين عملياً من فلسطين وقضيتها غير تحوّل الإمارات.

ففلسطين يفترض بها أن تكون جزءاً من الجيو-سياسة المصرية، بل أرضاً مصرية منذ أيام الفراعنة. فمصر لم تحتمل الوزير شاور عندما ذهب للتحالف مع الفرنجة، كما يفعل محمد بن زايد أو الملك حمد مع الكيان الصهيوني اليوم، الأمر الذي يوجب التأني قبل الذهاب إلى آخر الشوط في قراءة الموقف المصري. ولا حاجة إلى العجلة في إصدار الحكم النهائي، ولكن من دون أن يمنع ذلك من الهجوم الشديد على ما وصلته تصريحات السيسي من حضيض في تأييده لاتفاق الملك حمد مع نتنياهو.

وفضلاً عن التأني، وفي كل الأحوال، فإن الأشهر الثلاثة القادمة يجب أن تمر حتى تبدأ السياسات الأمريكية بالخروج من أسار خدمة الانتخابات الرئاسية، وحتى تتوضح مختلف السياسات التي ستسود في عام 2021. فمرحلة الثلاثة أشهر ستمر سريعاً.

أما عودٌ على بدء، فالحاسم في كل الأحوال هي النتائج التي سيسفر عنها الصراع بين إيران ومحور المقاومة من جهة، ومحور أمريكا- الكيان الصهيوني من الجهة الأخرى؛ لأن اتفاقيْ محمد بن زايد والملك حمد بالكاد يوضعان على هامش الصراع.