عسى أن لاتكون رسالتي الأخيرة
مرحبا عزيزتي الغالية ...
وصلتني رسالتك أمس ...
أجبرني على الرد هذه المرة مافيها من انتشاء النَّظم بحرية التعبير ...
وها أنا أردّ عليك من خلف جدران العراك اليومي الذي نشهده لأجل البقاء!
بخير أنا ، بأحسن حال ، فقد أدركتُ معنى أن ننطق الكلمة وندرك شيئا من فحواها.وربما أردد هنا ماقاله أحد الشعراء : ( لستُ صخري المشاعر ، لست أقوى من أعاصير الهوى مهما أُناور ، بَيْدَ أني أتوارى خلف صمتي ، أترك النارَ تلظى في أحاسيسي وما زلتُ أُكابر ، ولهذا أتلهى بحروفي ، وأحيل اللهفة الهوجاء شعرا في الدفاتر ، ولهذا قال عني الناسُ : شاعر ) ، كنت أتحسس مافي دائرة الضوء من اهتمامات ، وأظن أن مَن سّبَقْنَنِي من فراشات الصباحات الجميلة قد نَعِمْنَ َبما وَجَدْنَ في مغنى الأفراح الذي شدَّ الكثيرات ، إلى مافيه من إعدادات جذابة لرواد الحياة التي خرجت من عباءة العهد الجديد . أنا لاأقول هذا من باب التهكم أو للتقليل من أهمية الالتحاق بالمغنى المذكور ، وليس في جعبتي الثقافية مايدل على حسد أو لامبالاة ، لا . ثم . لا . مازلت كغيري منهن أبحت عن موئل ترتاح فيه نفسي ، ويطمئن قلبي ، وأُلقي في ظله العذبِ عَصَاي . مازلتُ أشعر أننا لم نُخلق للتفاهات ، ولستُ في غيبوبة لها انسيابيتُها ذات النشوة التي تعيش في عقول المغفلين والمغفلات ، والتي يصحو على إثرها من زيف ما أوردتْه من أضغاث الأحلام على فاجعة محملة بالألم الثقيل ، فيجلس (صاحبها ) على رصيف الوجع ، ينتظر مرور قافلة أخرى تختاره ورقةً رابحةً في مضمار المزايدات اللاإنسانية في البريق الأخاذ ، وربما هو نفس السراب الذي تمَلَّاه قبل التحاقه بالمغنى الجميل ! ولكن الذي أفزعني أن الفراشات اللواتي خفقت أجنحتهن لذلك الضوء ، لم يرجعن ، وحين بحثوا عنهن وجدوا بقايا حريق ورماد يحتضن أجنحتهن التي كانت حطبا لتلك النار .
لست أدري متى وصلت لهذه المرحلة من النضج والاستيعاب والرضا !
قلّ حديثي وإنصاتي، وأعرف أنك تضحكين هذه اللحظة . فكم كنت أعشق الثرثرة والجدال في وقت مضى ، كنت مستمعة ... متحدثة جيدة كما تريدين ، لكني صحوت ذات صباح بفكر/ مزاج مختلف ، واكتفيت برسم ابتسامة على وجهي والمضي في طريقي . نسيت أن أخبرك أني توقفت عن وضع المساحيق ، تلك التي تُجمّل مايصعب قوله عارياً( حقيقيا)وبات حديثي قاسيا جافا بدون رتوش! خسرت الكثير ، بل أكثر مما تتوقعين ، وكان وقع خسارتي موجعا في البداية ، لكني تخطيت ذلك فخسارتي أصبحت ربحاً وأصبحت أفضل ولله الحمد .
تقلصت علاقاتي وازدادت وحدتي ، ما عدتُ أُجادل وأشن الحروب لإثبات حقيقة وجهة نظري . لأني ومع مرور الوقت اكتشفت أن الحال يبقى على ماهو عليه . لاشيء يتغير مالم يقدر لنا تغييره ، فكانت حروبي غالبا محسومة النتائج ، ورغم علمي مسبقا بذلك إلاّ أني ما كنتُ أُصاب باليأس ، أتلصص هنا وهناك ، وأشارك بتلك العلاقات الاجتماعيه التي نُرغم على الخوض في غمارها ، ونتبادل تلك اللقاءات التي نعبّر من خلالها عن تفاهاتنا المنطقية ! ننتقد هذا ونسخر من ذاك ! عجباً كيف كنت أعيش تلك الحياة . حاولي فعل ذلك عزيزتي لا تجادلي ولا تثبتي وجهة نظرك مهما كنت محقه ! ابتسمي لمن يكذب ، فبعض الأقنعة بشعة وحقيقتها أبشع ، وطالما أنك لا تملكين تغيير القُبح ، فلا تتكبدي عناء إسقاط الأقنعة من حولك ، هل لازلت تستمعين للأغاني القديمة ، وتشربين القهوة بكوب عميق ، وتمارسين رياضاتك المفضلة ، أنا مازلتُ أتأمل كثيراً . وقد استوعبت أيضاً أن دوام الحال من المحال . أعيش اللحظة وآمل أن يكون الغد أفضل ، رغم أن الماضي بتفاصيله الصغيرة وبكل عثراته وأخطائه كان وسيبقى الجزء الأقرب لقلبي . دائما كوني قريبة مني ، فأنا حريصة جدا على أن نبقى معا ، وعلى أن يخط يراعُنا بِنُبلٍ اللوحات المشرقة الواعدة ، في هذا العالَم ... عالم الكآبات الذي أحدقت فلسفته الباهتة بدنيا أخواتنا اللواتي أذهلهن بريق السراب . أعلم مقدار ماتعانين ، ومقدار ماتتوجسين من نتائج الضجر الذي مسح محياك بالشحوب ، ولقد تحدثتِ عن هذا في سطور رسائلك السابقات . وكنت أحزن وأنا أقرأ عباراتك الثقيلة يحملها التثاؤبُ البغيض ، وكأني أرى مطاردات وعيك بحسرة لنتائج فقدان أمل تتوخين أن تجديه ولو آخر النهار .
عزيزتي الغالية ... كلنا نعيش ... أو كنتُ أعيش غربة أستجير بالله من ظلماتها التي تغمر مشاعري ، وتجرف أحاسيسي إلى مجهول يحبس روحي فلا أكاد أتبين لي دربا إليه أسعى ، أو كُوَّةً ضيقة أخرج منها بعد أن أعصر بكل قوتي آمالي وأحلامي . وكما أخبرتك ذات مرة يوم وجدت نفسي في موسم حصاد لأبناء المراحات الربيعية ، وهم يرددون الأناشيد الموسمية الأخاذة ، ويجمعون جني محاصيلهم من سهولهم التي ماتزال معشوشبة . التجأت إلى ظل شجرة أتمتم بما حفظتُ من أناشيدهم ، شعرت بالنعاس يغلب عينيَّ ، وقد أدمنت عيناي هذا النعاس من قبل ، ولكني أصحو ... أنظر فلا أجد شيئا مما أتمناه ، وكان مجرد حلم ، بل كان حلما بغيضا زاد معاناتي التي تعتنق أجزاء مسيرتي في الحياة . إلا هذه المرة صديقتي الغالية صحوتُ وأنا أشعر بأني أكره أشد الكره موبقاتِ عقوقي لفطرتي ولمحتِدي ذي الملامح الفياضة بالسكينة ، وساورني حزن أبكاني على ما خلا من أيامي التي أضعتُها في انتماءات جائرات لاجدوى من مزاولة طقوسها المبهمة وطلاسمها الجوفاء . عدتُ إلى أهل الموسم إخوتي وأخواتي في حقول ، وأَرَقْتُ في طريق عودتي كل الكؤوس الملأى بغبار السراب ، وعدت إلى جِراري التي باركها رضوانُ الله .
عزيزتي الغالية ... عسى أن لاتكون رسالتي هذه هي الأخيرة إليك ، فأنا والله أحبُّ لك ما أحبُّه لنفسي ، فأنت مَن وقفتِ على مشارف تطلعات قلبي يوم كنا في غيبوبة ، غيبوبة موسومة بالأوصاب والسأم ، وهي بالتالي ليست على أكناف فطرتنا الجميلة الهادئة .
سأنتظر رسائلك فلا تغيبي ... وانتظريني .