الكويت .. " إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً "
الاهتمام الممزوج بالحزن الذي عم العالم العربي لرحيل أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح أفصح عن بعض ما في نفوس مواطني هذا العالم ومسئوليه من حب واحترام للكويت وطنا وقيادة وشعبا . الاهتمام المحزون ليس من الصنف المألوف في حال الوفاة الذي توجبه التقاليد دينيا واجتماعيا وإنسانيا ودبلوماسيا . هو اهتمام صادق يتفجر من النفوس التي أحبت الكويت ، واحترمت مواقفها عقودا طويلة . والقيادة الكويتية والشعب الكويتي هما اللذان خلقا ما لهما من حب واحترام صادقين راسخين . لا أحد يحبك ويحترمك بلا سبب . كيف خلقت الكويت قيادة وشعبا هذا الحب وهذا الاحترام ؟! بالأعمال التي أدتها وبالمواقف التي اتخذتها داخليا وخارجيا . داخليا ، بعد استقلالها عن بريطانيا في 25 فبراير 1961، أسست حكما وإن كان عائليا وراثيا إلا أنه اتخذ الدستورية نهجا ، فكان مجلس الأمة الذي يسائل الحكومة أو السلطة التنفيذية عما تفعل ويحاسب المخطىء ، وأكد المجلس دوره الحاسم في أزمة الحكم في 2006 التي نجمت عن رفض ولي العهد الشيخ سعد العبد الله الصباح التنحي عن الحكم لمرضه ، فنحي بإجماع المجلس ، وهو ما لا يحدث في أي دولة من الدول العربية التي هي إما بلا برلمان أو ببرلمان ليس سيد نفسه ، وليس أكثر من أداة في يد السلطة التنفيذية التي هي الحاكم المستبد المتفرد بكل القرارات ومالك كل الإرادات في البلاد . ومنذ أفاض الله _ تعالى _ على الكويت نعمة مال النفط سارعت تبسط يد العون إلى شقيقاتها المعوزات في كثير من المجالات ، وما انفكت تبسطها إلى اليوم . وعلى خلاف كل دول النفط العربية أظهرت الكويت اهتماما مبكرا بنشر الثقافة على نطاق العالم العربي ، فأصدرت في 1958 مجلة "العربي " ، أول مجلة راقية في العالم العربي مضمونا متنوعا وورقا صقيلا وطباعة متطورة . وحددت لها سعرا رمزيا ليستطيع شراءها أكبر عدد من القراء العرب . واتسع فعلها في بسط الثقافة عربيا ، فصدر عنها سلسة " عالم المعرفة " ، و " المسرح العالمي " الشهريتان اللتان اجتمع في نطاقهما كل مثقفي العرب ترجمة وتأليفا . وفي الصحافة اقتربت الكويت من منافسة بيروت والقاهرة بصدور عدد من الصحف اليومية فيها مثل " الرأي العام " و "القبس " ، وعدد من المجلات الأسبوعية والشهرية مثل " النهضة " و" المجالس " و "عالم الفكر " . واستقطبت هذه الصحف خبرات التحرير والكتابة العربية في جو من الحرية الضرورية لأي صحافة حتى لا تنقلب منشورات غايتها تمجيد الحاكمين الطاغين وتزيين طغيانهم وفجورهم . واشتكى الصحفي المصري علي أمين بعد عودته من منفاه إلى مصر من تفوق الصحف الكويتية تقنيا على الصحف المصرية . ومولت الكويت البعثات التعليمية في الدول العربية الفقيرة ، فدفعت رواتب المعلمين العرب الوافدين إلى هذه الدول مثل اليمن . ولاهتمامها الكبير بتعليم أبنائها استقدمت آلاف المعلمين من فلسطين والأردن وسوريا ومصر ، موفرة لهم العمل والرزق ، ومنتجة ترابطا عربيا تربويا يوحد النفوس والعقول . الطالب لا ينسى معلمه ، وإذا أحبه اقتدى به ، وأحب بلده ، بلد المعلم . والكويت هي البلد العربي الوحيد الذي أذن للفلسطينيين بإنشاء مدارس خاصة بهم سميت مدارس منظمة التحرير الفلسطينية . وفي الكويت غرست أولى بذور حركة التحرر الوطني الفلسطيني بين العاملين فيها من الفلسطينيين الذين كان منهم ياسر عرفات الذي عمل مهندسا مدنيا في وزارة الأشغال العامة . وعلى صغر جيش الكويت في 1967 لم تتردد في إرسال لواء اليرموك بقيادة الأمير فهد الأحمد الصباح إلى مصر للاشتراك في الحرب ضد إسرائيل في الحين الذي مولت فيه دولة عربية نفطية جيش إسرائيل في تلك الحرب . وانضم الأمير فهد بعد ذلك إلى المقاومة الفلسطينية في الأردن وفي لبنان مبديا من الإخلاص القومي والشجاعة الفريدة ونكران الذات ما يؤهله لأن يكون من أعظم القادة العرب ، بل القادة العالميين ، ومن الإنصاف له وللكويت أن تسلط الأنوار على شخصيته وعلى سيرته خاصة في زمن القيادات العربية الرويبضات التي أغرقت الأمة في مستنقع تفاهتها ونذالتها وعمالتها واستخذائها . والمحزن أن هذا القائد الفذ استشهد في 2 أغسطس 1991 أول أيام الغزو العراقي للكويت الذي كان خطأ قوميا مصيريا فادحا . ونأت الكويت دولة ومواطنين عن الانخراط في موجات الخراب والدم والعداوات العربية ، وانصرفت في طهارة وحكمة ومحبة إلى إطفائها ،ومساعدة منكوبيها من المواطنين ، والتوسط بين المتخالفين المتعادين . وصنعت دولة صفر مشكلات مع كل جيرانها . وفي قطاع غزة عرضا وطولا تنبسط يد الكويت السخية البيضاء مستشفيات ومدارس ومنازل وطرقا وتعويضات مالية للمتضررين من عدوان إسرائيل ، ويشارك المواطنون الكويتيون بصفتهم الفردية في هذا السخاء الأخوي العربي الجليل ، وفي منطقة سكني أنشأ مواطن كويتي مدرسة حديثة للبنات في بهاء وردة ربيع نضرة . وعرفانا متواضعا بجميل الكويت الوريف العميم أقيم دوار باسمها في تقاطع شارع 10 مع شارع صلاح الدين ، وفي الدوار نصب عالٍ يزين علم الكويت قاعدته في تكوين زخرفي رخامي متألق ، والعرفان الأكبر هو ما لها في النفوس من الحب والاحترام . وتهب الكويت غزة ما تهبه من ألوان العون دون أي حديث عنه ، ودون أي اتصال مباشر مع إسرائيل . وتأبى قيادة وشعبا الانجراف في تيارالتطبيع مع إسرائيل ، وفي إبائها درس لسائر المطبعين المضيعين ، وفيه بيان أن الدولة مهما كانت صغيرة تستطيع أن تكون كبيرة في سلوكها باتخاذ خط سياسي يصون كرامتها وهويتها الوطنية والقومية بالتحام قيادتها مع شعبها التحاما لا تنفرد فيه القيادة بالقرارات المصيرية دون ذرة اهتمام بإرادة شعبها . منزلة الكويت السامية التي انجلت ساطعة في اهتمام العالم العربي الممزوج بالحزن لرحيل أميرها الجليل صنعتها حكمة قيادتها البصيرة ووعي شعبها وتشبثه بأصالته العربية ، وحب الاثنين لأمتهما والجدية الصادقة في فعل كل ما فيه نفعها وخيرها . وصدق الحق _ جل ثناؤه _ إذ يقول مبشرا :"إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا "، وفي هذا المعنى من الحث على فعل الخير يبشرنا الشاعر الحكيم لبيد بن ربيعة بأن : " من يفعل الخير لا يعدم جوازيه * لا يذهب العرف بين الله والناس " .جزى الله الكويت الحبيبة كل خير ، وعزاها في أميرها الرحيل ، وجعل أميرها الجديد خير خلف لسلفه الخيِر الحكيم .