ينظرون إليها من طرف خفيٍّ
كلما قرأت هذه الآية في سورة الشورى الآية 45 ( وتراهم يُعرضون عليها خاشعين من الذل، ينظرون إليها من طرف خفيٍّ) تذكرتُ أخطائي صغيراً وأنا واقف بين يدي والدي رحمه الله وقد عرضت أمي رحمها الله له ما فعلتُه من مشاغبات أستحق عليها العقوبة ، وهو رحمه الله يتصنّع الغضب ولا يكلمني ويوحي صمتُه هذا بعقاب شديد ، فلا أستطيع النظر إلى وجهه ، بيد أني أسترِق النظرات خائفاً وجلاً أتوقع العقوبة بين لحظة وأخرى ..
قس على ذلك وأنت بين يدي أستاذك وغيره ممن بأيديهم العقوبة لجُرم صغُر، أوكبُر، وأنت تنتظر قرارهم وحكمهم ، ولعلك تفعل مثلي مسترقاً النظر إليهم بخوف ووجلٍ أن تحل العقوبة في أية لحظة .
وتصور نفسك يوم القيامة – والعياذ بالله – تستحق النار ، وقد عُرِضْتَ وأمثالك عليها، تسمع زفيرها ويخيفك توهُّجَها، وترى ألسنة النيران تتطاير نحوك ، وأنت بين لحظة وأخرى ملقِيٌّ فيها ، ولستُ بِدعاً فيما أقول فقد سبقني المحاسبي رحمه الله في كتابه التوهم يخاطبني ويخاطبك : توهّم أنك أمام غضب الديان وعقوبة النار فتذوب خوفاً ، ثمَّ تحمد الله أنك في الدنيا ومن أهل الصلوات والعمل الصالح، وتبقى مع ذلك خائفاً وجلاً.
ثم انظر من بعيد وأنت من أهل الفضل تنظر من علٍ إلى الكفار محشورين أمام النار ترتجف قلوبهم وتتفجر عروقهم وهم ينظرون إلى مصيرهم المحتوم بين لحظة وأختها، يُلقَون في النار والعياذ بالله... صورة مخيفة تهز أركان البشر جميعاً .
والآية الأخرى التي تشابهها في جلال الموقف الرهيب المعبر عن خزي موقف الكفار أهل النار في سورة الكهف الاية 53 ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مُواقعوها ، ولم يجدوا عنها مصرِفاً) ففي هذه الاية يُدنى الكفار من النار فيرونها دون أن يشيحوا بأنظارهم عنها، فهي محيطة بهم إنه –والله- موقف عصيب لا أقدر على تصوير ما في قلوبهم ونفوسهم هذه اللحظة من يأس وفزع ورهبة ،نسأل الله تعالى رحمته وعفوه ، وقد علموا علم اليقين أنهم مرميّون فيها وتأكدوا من ذلك ، إنها أمامهم ، تتميز غيظاً منهم، وكلمة (ظنوا) هنا يقين وعلم ، ألا نقرأ قوله تعالى يصف فوز المسلم بالجنة إذ يقول بعد أن يأخذ كتابه بيمينه ( إني ظننتُ أني ملاقٍ حسابيه) "فالظن" في عديد منها في القرآن يدل على علم اليقين الذي لم يحدث بعدُ، فإذا حدث فهو (علم) يقيني كامل.
ونقف على آية مثلهما تنكسر لها الرُّكَبُ وتنحني لها الظهور ، قوله تعالى في سورة الأنعام الآية 27 (ولو ترى إذ وُقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نُردُّ ولا نكذِّبَ بآيات ربنا ونكون من المؤمنين ) ولو ترى المشركين يوم القيامة لرأيتَ أمراً عظيماً حين يُحبسون على النار ويشاهدون فيها السلاسل والأغلال، ويرون بأعينهم العظيمَ من الأهوال ، إذ ذاك يقولون متحسرين : يا ليتنا نُردُّ إلى الحياة الدنيا ، فنصدّقَ آيات ربنا ،ونعمل بها ..ولكن هيهات، هيهات، سبق السيف العَذَلَ.
هذا بعض تصوير حال أهل النار قبل لحظات من دخولها.
فتعال معي إلى أهل الأعراف نسبر غورهم ونتعرف حالهم في سورة الأعراف الأية 46 ( وبينهما حجاب ،وعلى الأعراف رجال يعرفون كلّاً بسيماهم ونادوا أصحابَ الجنّةِ أن سلام عليكم ، لم يدخلوها وهم يطمعون) يقول المفسرون : بيْنَ أصحاب الجنة وأصحاب النار حاجز عظيمٌ يُقال له الآعرافُ ،عليه رجال يعرفون أهل الجنة بعلاماتهم ، هم بيض الجوه، وأهل النار سوداءُ وجوهُهم ، وأهل الأعراف قوم استَوَتْ حسناتثهم وسيئاتُهم يرجون رحمة الله تعالى، ينادون أصحاب الجنة بالتحية والتهنئة ويرجون الله تعالى أن يعفو عنهم ويجعلهم من أهل الجنّة . ( وإذا صرفت أبصارهم تلقاء اصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) الأعراف 47 ، ونلاحظ أنهم لا يرغبون رؤية أهل النار لكنّ الله تعالى يصرف أنظارهم إليهم ليخافوا ويدعوه أن لا يجعلهم مع القوم الكافرين.
كا أننا نجد في سورة الشعراء الآيات 91-93 الصورة المخيفة نفسها (وبُرِّزَت الجحيمُ للغاوين، وقيل لهم: أين ما كنتم تعبدون من دون الله، هل ينصرونكم أو ينتصرون ) وكلمة بُرّزَت فيها تحدٍّ وتخويف ثم هناك توبيخ وسخرية حين يقال للكافرين أين آلهتكم المزعومة؟ ألا ينصرونكم؟ إنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم.
إنها والله مواقف تصدع القلوب وتمزق نياطَها ،وصور واضحة تصف ذلك الموقف العظيم الذي نؤمن به يقيناً ..
اللهم آمنّا بك ، ولجأنا إليك ، واعتمدنا عليك ... ورجوناك ..فارزقنا رضاك وعفوك ورحمتك وجنتك.
اللهم آمين ..اللهم آمين ..
ملاحظة:
أنصح بقراءة كتاب التوهم للمحاسبي بشرح أستاذنا وشيخنا العلّامة عبد الفتاح أبي غُدّة رحمه الله تعالى.