ملامح المشهد العراقي بعد 17 عاما من الاحتلال

د.ناجي خليفة الدهان

vvnh897.jpg

لا تحتاج الولايات المتحدة إلى الانتصار في الحروب، وكلّ ما تحتاجه هو إغراق الآخرين في الفوضى، بحيث لا يمكن لهم إنتاج ما يكفي من القوة لتحدي هيمنتها (جورج فريدمان، مؤسس موقع ستراتفور.. في كتابه: الأعوام المائة القادمة، استشراف للقرن الحادي والعشرين).

أفرز كل من الاحتلالين الأمريكي الإيراني وحكوماتهما المتعاقبة خلال 17 عاما، ظواهر اجتماعية سلبية أدت إلى تدمير النسيج الاجتماعي للعراقيين قبل سنة ٢٠٠٣، مما أضعفه وجعله متهالكا، بسبب إشاعة الطائفية المقيتة والعشائرية المنبوذة. فضلًا عن الكثير من الظواهر الاجتماعية المتوارثة، ومنها؛ سرقة أموال الدولة والجريمة المنظمة...

واستشرى الفساد المالي والإداري، والقتل على الهوية وغيره... خلال هذه الحقبة منذ سنة ٢٠٠٣ وحتى يومنا هذا. والأخطر من ذلك كله هو السعي في تغيير ديموغرافية العراق وتهجير أهالي المناطق التي وقفت ضد الاحتلال وقاتلته بشجاعة كما حدث في جرف الصخر وصلاح الدين والرمادي والموصل، حيث تم تدمير مدنهم وتهجير أهلها ومنعوهم من العودة إليها حتى يومنا هذا.

التغلغل الإيراني في العراق

في عام 1988 وضعت الولايات المتحدة الأمريكية سيناريو لخلع الرئيس العراقي بجراحة شخصية من الجيش الأمريكي كي يتسنى لها بعد خلعه تدمير العراق وتسليمه للحليف الاستراتيجي إيران، وفي عام ٢٠٠٣ دخل الجيش الأمريكي العراق واحتل بغداد بمساعدة إيران، بعد أن حاصرها ثلاثة عشرة عاما، وحل الدولة والجيش العراقي وهدم بنية البلاد التحتية، واستدعى المعارضين للنظام الموالين لإيران العاملين معها من الذين حاربوا العراقيين مع الإيرانيين في الحرب العراقية الإيرانية وسلمتهم السلطة في العراف ومن ثم سلمت هذه الحكومة العراق كله لإيران، ليدمروا العراق تدميرا كاملا وينهبون أمواله وثرواته كي يتسنى لأمريكا استباحة نفط العراق وثرواته المعدنية.

عملت إيران بهدوء للسيطرة على كل مفاصل الدولة العراقية بموافقة أمريكا، من خلال الأحزاب الموالية لها، فسيطرت على البنوك والمصارف وعلى كل الوزارات من خلال إدخال عناصرها في كل الدوائر، وسيطرت منظمة بدر التابعة لإيران على وزارة الداخلية، التي طالما أدراها وزراء تابعون للمنظمة خلال السنوات التي تلت احتلال العراق بعد عام 2003، وكذلك سيطرت على الجيش من خلال منح الرتب بدون ضوابط وتسليمهم مناصب قيادية وبذلك أحكمت السيطرة على كل مفاصل الدولة، فأي رئيس وزراء يخرج عن الخط الإيراني سوف يتم إسقاطه، أي أقاموا دولة إيران داخل الدولة العراقية وتحول العراق إلى دولة فاشلة بامتياز، تماما كما فعلوا في لبنان فنقلوا تجربة لبنان في سيطرة حزب اللات على مفاصل الدولة وأصبحت لبنان دولة فاشلة، هذا هو حال العراق فكيف يمكن الخروج من هذه الوضع طالما أن ايران قد أحكمت سيطرتها على كل مفاصل الدولة؟

أصبح الأفراد الذين تربطهم صلات بالمليشيات المسلحة، وزراء ومشرعين وقادة في الجيش والشرطة، ومسؤولين كبار في الحكومة، وأن "الآلاف من عناصر الحرس الثوري في الميليشيات يتمركزون الآن داخل المنطقة الخضراء ومفاصل الدولة المهمة، سيطرت كتائب حزب اللات على الأمن داخل المنطقة المحصنة وسط بغداد"، وأصبحت المليشيات هي التي تتحكم في الدولة وهي صاحبة القرار! ولذلك استمر إطلاق الصواريخ على السفارات ومعسكرات التحالف وخطف واغتيال كل المعارضين وفق أوامر إيران دون وازع أو رادع، وعدم إمكانية الدولة في السيطرة عليهم، كونهم يستلمون الأوامر من خارج الحدود.

فالأوطان لا تموت من ويلات الحرب ولكنها تموت من خيانة أبنائها، والنظام الإيراني منذ تأسيسه عام 1979، عمل على زعزعت الاستقرار في الشرق الأوسط، من خلال التحريض على الصراع وإشعاله في محاولة لتأكيد نفسه على أنه القوة المهيمنة في المنطقة، ومن هنا حدث التقاطع في المصالح مع الحلفاء (أمريكا وإسرائيل).

التصعيد الأخير بين أمريكا وإيران

أطلقت إيران العنان لاتباعها في الاستمرار باستهداف المصالح الأمريكية في العراق، من خلال إطلاق الصواريخ الكاتيوشة على السفارة الأمريكية، سعيا منها لرفع الحصار من خلال إزعاج الأمريكان ومحاولة لإظهار ضعفهم أمام حلفائه في منطقة الخليج العربي، وإظهار قوة إيران وقدرتها على التصدي لأي عدوان ولرفع المعنويات في الداخل وإعطاء الأمل للشعب الإيراني على تحمل أعباء الحياة الصعبة التي يعيشها، وللحصول على انفراج في العلاقات مع أمريكا، مع سعيها في الوساطة الأوربية وبعض دول الخليج مع أمريك مستغلة الأوضاع في أمريكا في المرحلة الحالية.

إن استمرار استهداف المصالح الأمريكية والدول الغربية بشكل مستمر، وعجز الدولة العراقية في السيطرة على المليشيات المسلحة، عقّد الوضع واحرج الولايات المتحدة أمام العالم وقلّل من هيبتها، وخاصة هي من احتل العراق وسلمه لإيران على طبق من ذهب، أملا منها في تقاسم الكعكة وفق ما تشتهي، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فطهران تحاول لاستحواذ على كل الكعكة، وبعد زيارة الكاظمي إلى واشنطن في شهر أغسطس من هذا العام ولقائه مع الرئيس ترامب، لم يتمكن رئيس الوزراء العراقي من الوفاء بالوعود التي التزم بها، واصبح ترامب في حرج أمام الشعب الأمريكي وهو مقبل على الانتخابات الرئاسية الثانية.

وقد حذر وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو هذا الأسبوع العراق بأن بلاده ستغلق سفارتها في بغداد إذا لم تتحرك الحكومة العراقية لوقف هجمات الميليشيات المدعومة من طهران على المصالح الأمريكية، وقد سبق تصريح وزير الخارجية الأمريكي تحذير إيران مباشرة من عدم استفزاز إدارة ترامب، لكن تصريحات بومبيو زادت من احتمالية نشوب صراع مفتوح.

إن تصاعد أعمال العنف من قبل الجماعات المسلحة في الأسابيع الأخيرة، على الرغم من وعود الكاظمي بشن حملة ضدها، وكانت هناك 25 هجوما على قوافل تحمل إمدادات إلى منشآت الولايات المتحدة أو التحالف الدولي، إضافة إلى الهجمات في المنطقة الخضراء التي تقع فيها السفارة الأمريكية، فضلا عن الضربات التي تستهدف مطار بغداد.

تشكل المواجهة في العراق مخاطر محتملة في كل اتجاه، فإذا تسببت هجمات الميليشيات المدعومة من إيران بأضرار للمصالح الأمريكية، فمن المرجح أن تقوم إدارة ترامب بهجوم مضاد. وكذلك إذا قام الكاظمي بضرب الميليشيات كما طالبت أمريكا فقد ترد إيران، وقد ينهار النظام في العراق إن الحرس الثوري متوغل في كل مفاصل الدولة كما وضحنا آنفا.

إن التحدي الأبرز بالنسبة لرئيس الوزراء العراقي مصطفى للكاظمي، هو إنهاء نفوذ الميليشيات الموالية لطهران واستبدالها بقوات أمنية تابعة للحكومة، "وهي معضلة خطيرة تضع مصداقيته على المحك أمام الشعب العراقي وواشنطن"، ولن يستقر العراق ويعاد إعماره إلا في إعادة هبية الدولة وحصر السلاح بيد القوات المسلحة والقوى الأمنية، والقضاء على الفساد بسبب هذا الانفلات وعدم هيمنة الدولة.

العراق ساحة الصراع

إن العراق ساحة صراع يمكن أن تنفجر فيها مواجهة أمريكية إيرانية، خلال الأسابيع المقبلة، مما يخلق مفاجأة قبل الانتخابات الامريكية مطلع نوفمبر المقبل، أعلن السفير الامريكي في العراق ماثيو تولر الاربعاء30/9بعد اجتماع موسع مع عدد من رؤساء البعثات الدبلوماسية ، تقرر ما يلي (اغلاق السفارة الامريكية في بغداد ومعها 15 سفارة اخرى بسبب عدم تمكن الحكومة العراقية في الايفاء بتوفير الحماية من الصواريخ الطائشة ) ، وبعد دخول غلق السفارة حيز التنفيذ واشترطت الولايات المتحدة على اخراج جميع الفصائل الولائية من المنطقة الخضراء واحكام السيطرة على مطار بغداد وابعاد الفصائل عنه وقطع اوصال السلاح المنفلت .

إن إغلاق سفارة الولايات المتحدة في العراق، قد يؤدي إلى إغلاق سفارات لدول غربية أخرى وسيكون موقف العراق صعبا لما يترتب على ذلك من تبعات، كفرض عقوبات على مسؤولين حكوميين وعلى مؤسسات حكومية وفي مقدمتها البنك المركزي العراقي، ويحتما أن تشن ضربات جوية على المليشيات المسلحة التي تدعمها إيران والتي أخفقت الحكومة في وضع حد لها! وتوقف الدعم المالي والعسكري عن العراق، فضلا عن الحجر الأموال العراقية في البنك الفدرالي، مما يؤدي إلى تضرر الشعب العراقي وتوقف الحياة في العراق.

أما استراتيجية إيران في الدفاع عن بعد بواسطة أذرعها الخارجية (المليشيات) فقد أدخلت إلى العراق الالاف من الحرس الثوري الإيراني وبالزي العسكري العراقي، والتمركز على الحدود العراقية السعودية والكويتية، إضافة لما موجود في داخل العراق، وما يحدث من صدامات في الناصرية والبصرة مع الحرس الثوري الإيراني لمنعه من استخدام الأراضي العراقية كساحة حرب خير دليل، وسيتم توجيه الضربات إلى الأراضي السعودية والكويتية في حال حدث أي تصعيد مع أمريكا، والسيطرة على الحكم في العراق على غرار انقلاب الحوثي في اليمن، كل ذلك سيحدث باسم العراق وستكون إيران خارج اللعبة وبذلك فإقحام العراق في الصراع نيابة عن إيران.

وما يجري الآن من توجيه ضربات ضد المصالح الأمريكية (كما حدث في اربيل والمنطقة الغربية من العراق) هو للتحرش وإجبار الإدارة الأمريكية على الرد لغرض افتعال الأحداث واستغلالها لتنفيذ الانقلاب وفرض السيطرة الكاملة على الحكومة العراقية، واقتحام السفارة الأمريكية وأخذ رهائن لتساوم أمريكا عليهم كما فعلت في طهران سابقا، وإدخال العراق ساحة صراع للدفاع عن إيران.

استفادت إيران في توحيد الشعب الثائر ضد حكومة الملالي من خلال توجيه الأنظار إلى عدوان خارجي ومن ثم القضاء على المعارضة الإيرانية الداخلية، وبنفس الوقت القضاء على ثوار ثورة تشرين في العراق. والإدارة الأمريكية على علم بذلك، فإن لم يكن موقفها حازما لدعم القوى الثائرة العراقية ضد المخطط الإيراني، فإن الأمور لا تحمد عقباها، وسقف المواقف للقوى العراقية هو استعادة الاستقلال الوطني، نظام مدني وغير طائفي، وحكومة ديمقراطية، رفع التهميش والاستبعاد، والاجتثاث والتخلي عن ثقافة الثأر والانتقام، وأن يكون القانون غير مسيس وهو المرجع الوحيد للأحكام.

حكومة قادرة على توفير الأمن والأمان، وإعادة الثقة للمواطنين، وتوفير المستلزمات الابتدائية لوطن يمكن العيش فيه. وهذه أهداف بسيطة جداً، ولكن ليس بوسع النظام الغير وطني وديمقراطي تحقيقه.

                   عاش العراق حرا عربيا ..... عاش العراق حرا عربيا

وسوم: العدد 897