السيادةُ الوطنية في ظلّ التدخّل الأجنبيّ

إنّ الحديث عن التدخُّل الروسيّ في سورية، لَيُعيدُ إلى الأذهان الحديثَ عن الحالة السياسية التي عاشتها مؤسسة الخلافة العباسية مدة ضعفها، التي اتضحت ملامحها مع بداية حكم الخليفة العاشر المتوكل على اﷲ، حينما أخذت مؤسسة الخلافة تمرّ بمراحل متعددة من فقدان السيادة الوطنية تمثلت بسيطرة القادة العسكريين الأتراك، وأمراء الأمراء، ثم البُوَيْهيين.

لقد مرّ الأمر بمرحلتين، تمثَّلت أولاهما بسقوط البُوَيْهيين أمام قوة السلاجقة، الذين يمثلون مرحلة أخرى من ضعف مؤسسة الخلافة العباسية، وسيطرة أولئك المتغلّبين وتحكّمهم في القرار السياسي للخلافة، والموارد الاقتصادية للدولة، وكيف تعاملوا مع الخلفاء، والوضع المتردي لمؤسسة الوزارة والمؤسسات الإدارية الأخرى.

نعم لقد كانت هناك محاولات لاسترداد تلك السيادة على أيدي المتوكل، والمستعين، والمهتدي، والموفق، والمعتضد، والمكتفي، والمستكفي؛ غير أنّها كانت محاولات يائسة لم تجدِ نفعًا؛ مما جعل الخلفاء خلال تحكّم البُوَيْهيين يحجمون عن المحاولة ثانية.

يشير المراقبون إلى جهود عدد المؤرخين في تفسير ذلك الضعف، وإيجاد مخارج شرعية ومنطقية لتوضيحها للناس، فخلصوا إلى أن بداية عهد الضعف كانت بالابتعاد عن الحكم الرشيد، ثم إعطاء الفرص للعناصر الأجنبية للتدخل في شؤون الخلافة؛ ما جعل من محاولات استرداد السيادة أمرًا غير ذي جدوى، لأنها لم تكن مدروسة ولا متواصلة، وساعد على فشلها فقد اللُّحمة بين مؤسسة الحكم والعامة.

لقد ظلت الخلافة العباسية محتفظة بسلطانها ومجدها إلى أن أضحت عاجزة عن التصدي لمحاولات التدخل والهيمنة على سيادتها، ولم تستطع الاحتفاظ بسلطانها وسيادتها إلَّا مدة قرن تقريبًا، إذ دبَّ فيها الخلاف والفتنة؛ فأدى ذلك إلى ضعف في مؤسسة الخلافة نفسها، وتبع ذلك ضعف في النواحي الإدارية والعسكرية والاقتصادية في الدولة عمومًا.

وكان إقدام الخليفة المعتصم باﷲ على الاستعانة بالجند الأتراك وتمكينهم من السلطة، أقوى ضربة وُجّهت لهيبة الخلافة وأسهمت في إضعافها؛ فقد استبد أولئك الجند وتمكنوا من السلطة؛ فتدخلوا في تعيين الخلفاء والوزراء، واستهانوا بهم؛ فقتلوا عددًا منهم وأهانوا الآخرين.

لقد كانت البداية الحقيقية لمحاولات التدخل والسيطرة على الخلافة في الحرب التي دارت بين الأخوين: الأمين والمأمون، ابني الخليفة هارون الرشيد، التي انتهت بمقتل الخليفة الأمين، وذلك حينما مكّن المأمون لآل سهل (الفرس) من مفاصل الدولة، حين اتخذ من الفضل بن سهل وزيراً له وناصحًا، ومن الحسن بن سهل حاكم على العاصمة بغداد.

لئن كان المأمون والمعتصم قادرين على لجم تلك العناصر، وتحديد نفوذها، فإن مَن جاء بعدهما من الخلفاء قد فقَدَ تلك القدرة، وأضحت مؤسسة الخلافة غير قادرة على الصمود أمام ذلك التدخل؛ فتحول التدخل إلى سيطرة فعلية على مؤسسة الخلافة، تتحكم بالخليفة وبمقدرات الدولة وثرواتها.

وأيًّا ما كانت الأسباب التي دعت المأمون والمعتصم إلى الاستعانة بتلك القوى الخارجية، فإن النتيجة كانت جرّ الوبال على الخلافة، فقد جعل طموحُ أولئك القادة العسكريين من غير العرب، الخلفاءَ الذين خَلَفوا المعتصم غير قادرين على كبح جماحهم وطموحهم، وصاروا شيئًا فشيئًا يفقدون السلطة والقرار والنفوذ وموارد الدولة.

وممَّا زاد في تدهور مؤسسة الخلافة أن الخليفة هارون الواثق، الذي خلف المعتصم باﷲ، لم يعهد لأحد من بعده؛ الأمر الذي جعل هؤلاء القادة يتجرؤون على تعيين الخليفة وفق أهوائهم؛ فجاء تنصيب المتوكل على اﷲ خليفةً معبرًا عمَّا يريدونه في شخصية الخليفة من ضعف وانقياد وسهولة عريكة.

لقد حاول المتوكل استرداد هيبة الخلافة والتخلص من هيمنة هؤلاء القادة؛ إلا أنه لم يكن قادرًا على استعادة القوة المفقودة لمؤسسة الخلافة. فمحاولاتُه تلك، فضلًا على تصرفاته وسيرته جعلته يفقد حياته بمؤامرة مشتركة ضمت هؤلاء القادة وابنه المنتصر، الذي كان يعاني من عبث أبيه به؛ فقد استغلوا تذمّره من محاولة والده نقل ولاية العهد إلى أخيه المعتز، إضافة إلى سوء المعاملة التي كان يلقاها منه.

إنّه بغض النظر عن تعدد الأسباب حول قتل الخليفة المتوكل، فإنّ النتيجة كانت هي التجرّؤ على مقام الخلافة، بقتل الخليفة وتنصيب آخر مكانه، وهذا ما حدث فعلاً، فعينوا المنتصر خليفة؛ فكان صنيعة لا يملك من أمره شيئًا، وسرعان ما اغتالوه بعد ستة أشهر من الحكم بوساطة طبيبه.

وهكذا استطاع هؤلاء القادة فرض إرادتهم في تعيين الخليفة والتخلص منه تبعًا لمصالحهم ورضاهم عن وجوده، ثم حاول المستعين باﷲ، الذي عينوه بعد المنتصر التخلص من ربقة ذلك القيد بجهود كبيرة بذلها للخروج بمؤسسة الخلافة من طغيانهم، فقد أمر بقتل أوتامش أحد كبارهم، وسعى لإبعاد القادة الآخرين عن العراق؛ لكنه فقد عرشه وحياته نتيجة ذلك.

وكذلك كان حال الخليفة المعتز، الذي نصبوه بعده، وأنهوا حياته نهاية مؤلمة، لا يعبر عنها إلَّا ابن الطقطقي بقوله: " فهجموا عليه وضربوه بالدبابيس، وخرقوا قميصه، وأقاموه في الشمس، فكان يرفع رجلاً ويضع أخرى لشدّة الحرّ، وكان بعضهم يلطمه وهو يتّقي بيده، ثم جعلوه في بيت وسدّوا بابه حتى مات، بعد أن أشهدوا عليه أنه خلع نفسه ".

وليت الأمر توقَّف عند مقتله بهذه الطريقة المُهينة، فقد سبقها ما هو أشدّ إذلالاً، يقول ابن الطقطقي: " لمّا جلس المعتزّ على سرير الخلافة قعد خواصه وأحضروا المنجمين، وقالوا لهم: انظروا كم سيعيش، وكم سيبقى في الخلافة؟ وكان في المجــلس بعض الظرفاء، فقال: أنا أَعرَفُ من هؤلاء بمقدار عمره وخلافتـه. فقالـوا له: كـم تقول إنه سيعيش، وكم سيملك؟ قال: مهما أراد القادة الأتراك. فلم يبق في المجلس أحدٌ إلَّا وضحك.

وسوم: العدد 897