الإخوان والدستور
[مختصراً من مجلة الدعوة – العدد 39 – تموز 1995م]
يتجدّد الحديث في المجتمعات الإسلامية عن العلاقة بين القرآن والدستور، وهل يجوز أن يتخذ المسلمون دستوراً مدنياً غير القرآن الكريم، وهل يخالف ذلك قول الإخوان "القرآن دستورنا"؟
وإذا وُجد هذا الدستور فما نطاق اختصاصه وماذا يذكر فيه وماذا يسكت عنه؟
هذه الأسئلة ذاتها أثيرت عام 1952م، فكتب الأستاذ حسن الهضيبي رحمه الله مقالاً نُشر بمجلة "الصباح"، تحت عنوان: "الدستور الجديد لجمعية الإخوان المسلمين"، جاء فيه:
ليست دعوة الإخوان المسلمين شيئاً جديداً، وإنما هي الدعوة التي أمرنا الله تعالى بها إلى آخر الزمان. (ولْتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وقد أذِنَ اللهُ لهذه الدعوة أن تنشأ في مصر ثم تجتاز حدودها إلى جميع البلاد الإسلامية.
ولما كان هذا البعث لا يتفق مع ما وقع فيه المسلمون – بسبب تركهم دينهم وعدم اتباع أوامره ونواهيه - من جهل وذل واستعباد، كان أعداء الإسلام والمستعمرون وطلاب المنافع الحرام والجَهَلة من كبراء المسلمين حرباً على دعوة الدين: يشوّهون مقاصدها، وينسبون لها ما ليس منها، حتى لقد أخبرني بعض العائدين من السويد أن الجرائد نشرت صور نفر من الناس مقطوعي الأيدي يُظن أنهم من مشوهي الحرب وكتبت تحتها: هكذا يقطعون الأيدي في القاهرة من أجل السرقة. وأخبرني بعض مراسلي الصحف الأجنبية أن القوم في إنجلترا يعتقدون أن دعوة الإخوان المسلمين هي دعوة إلى ترك جميع مظاهر المدنيّة والرجوع إلى عيشة البدو في الصحراء.
فرأيت لذلك أن أعبّر عما يمكن أن يشتمل عليه الدستور الجديد من مبادئ مأخوذة من القرآن.
قام القرآن على تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس وتطهيرها، وإصلاح المجتمع من المفاسد والعمل على سد الذرائع للجرائم كافة، وما العقوبات التي وردت فيه إلا عقوبات صارمة، الغرض منها كف الناس عن الشر إن لم يثمر فيهم التهذيب وتجاوزوا حدّهم بعد أن استوفوا حقوقهم.
فنحن حين نطالب بالعمل بكتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم لا نبغي من وراء ذلك تطبيق الأحكام الواردة في القرآن فحسب، ولكننا نرجو أن يجعل القرآن منهاجاً في الحياة ويُطبّق بحذافيره.
وكان هذا حسبنا من كل دستور آخر، لأن القرآن هو الدستور الكامل الشامل الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة في بناء الأمة إلا عالجها، تارة بالتفصيل، وتارة بالإجمال، تاركاً لها أن تمضي في التفصيل على ما تقتضيه مصالحها ولا تتعارض مع الأصول التي وضعتها.
هل الحكم بالقرآن فرض؟!.
ونتذكّر الآيات التي تدل على أن الأخذ بكتاب الله فرض علينا لا يحق لنا أن نتحلل منه بأي وجه من الوجوه، ولا ينبغي أن نتعلل في عدم تطبيقه بالظروف والملابسات. وهذه هي الآيات:
(يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم. فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. ذلك خير وأحسن تأويلاً).
(وأن احكم بينهم بما أنزلَ اللهُ، ولا تتّبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبكم ببعض ذنوبهم، وإن كثيراً من الناس لفاسقون. أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومَن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون؟!).
هذه آيات بيّنات فيها أقطع برهان على وجوب الحكم بكتاب الله. ولا يقول بغير ذلك إلا من رضي لنفسه بالكفر والظلم والفسق، ومحادة الله ورسوله، فهو قليل الحظ من التوفيق والهداية.
أحكام القرآن:
اشتمل القرآن، فيما اشتمل، على أحكام عملية يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- العبادات: وهي ما شرعه الله تعالى لتنظيم علاقته بخلقه، كالصلاة والصوم...
2- المعاملات: وهي الأحكام التي تنظم علاقات الناس ببعضهم وتقيم الروابط بينهم على العدل والرحمة والتعاون والمحبة. ويدخل في ذلك نوعان:
المعاملات المدنية: من بيع وإجارة ورهن وشركة... إلخ.
والأحوال الشخصية: من زواج وطلاق وعدة وثبوت نسب... إلخ.
3- العقوبات: وقد شرعت لحفظ حياة الناس وأعراضهم وأموالهم، تأديباً للناس وزجراً لهم عن ارتكاب الجرائم، مثل عقوبات القتل والسرقة وقطع الطريق والزنى...
4- أحكام نظمت العلاقة بين الحاكم والمحكوم وبيان حقوق ولي الأمر على الرعية، وحقوق الرعية على ولي الأمر، وأحكام الشورى والعدل والمساواة بين الناس.
5- وأحكام أخرى شرعت للحرب والقتال وتنظيم علاقة المسلمين بغير المسلمين... إلخ.
علاقة الحاكم بالمحكوم:
ولما كان الدستور المراد وضعه ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم جرياً على ما تجري عليه الأمم الغربية وتحسب أنها سباقة إليه، كما يحسب جهلة المسلمين، فليس من الممتنع علينا أن نأخذ الأحكام كلها من القرآن ونبرز فيها المعاني المهمة التي تقوم عليها حياة الأمة وصلاح حالها.
- فينصّ فيه على أن الحاكم تختاره الأمة ويكون محاسباً عن أعماله السياسية، وأعماله الجنائية والمدنية، ويحاكم أمام أية محكمة عادية.
- وكذلك ينصّ فيه على أن القوانين مصدرها شرائع الإسلام. فما اتفق منها مع أصولها كان شرعاً بإقرار ولي الأمر له، وما لم يتفق طرحناه، اعتقاداً منا بأن الله ما أراد لنا أن نتجنبه إلا لخير أراده لنا.
- وينص فيه على وجوب تعليم الرجل والمرأة شرائع الإسلام على السواء.
- أما العلوم الأخرى فهي فرض كفاية يتحمل المسلمون إثم التقصير في تحصيلها إلى أن يحصلها من بينهم من يفي بحاجة الأمة في كل فرع وفن.
- وينص فيه على حق الفقراء جميعاً من المسلمين وغيرهم، في العمل وفي المسكن والملبس والمأكل...
- وينص فيه على الاعتراف بالأديان الأخرى وحق أهلها في الاعتقاد، وعصمة أرواحهم وأعراضهم وأموالهم إلا بالحق.
التربية الدينية هي الأساس:
قلت إن الإسلام لم يقم نظامه على العقوبات، بل قام في حقيقة الأمر على تهذيب النفس وتطهير القلب. فالتربية كفيلة بتنشئة المرء على حب الخير ومساعدة الناس وموادتهم والإحسان إليهم.
وهي التي تخلق فيه روح التسامح وتبعده عن روح البغي. وكلما تعصب المسلم لعقيدته بَعُد عن التعصب ضد الناس، واحترم عقائدهم وأموالهم وأعراضهم وأرواحهم. وأما العقوبات فإنما وُضعتْ لشواذ الناس الذين لا تردعهم الموعظة الحسنة.
الأحوال الشخصية لغير المسلمين:
إن ما أتى به الإسلام من أحكام تتعلق بالأحوال الشخصية، لا تطبق على غير المسلمين، بل يطبق عليهم أحكام دياناتهم. أما إذا جاؤونا يطلبون أن نحكم بينهم فإننا نحكم بينهم بما أنزل الله.
المعاملات:
وأما المعاملات من مثل البيع والإجارة والرهن... فليس للمسيحية فيها نصوص. لذلك كان الأخذ بما تراه الأغلبية في مصلحتها واجباً: يأخذه المسلمون على أنه دين، ويأخذه المسيحيون على أنه قانون. ولعله من الخير لهم أن يأخذه المسلمون على أنه دين لأن هذه الفكرة تعصمهم من الزلل في تنفيذه، وعين الله الساهرة ترقبهم، لا رهبة الحاكم التي يمكن التخلص منها في كثير من الأحيان، على أن المعاملات في شريعة الإسلام غاية في السمو والعدالة.
العقوبات:
وأما العقوبات، فأكثر ما يعترض بها علينا قطع يد السارق ورجم الزاني المحصن. وقد بيّنا في كثير من المناسبات أنه لا تقطع يد السارق إلا إذا استوفى حقه من التعليم ومن المسكن والملبس والمأكل والعلاج، وسداد دينه إن كان مَديناً، ولذلك لم يثبت في تاريخ الإسلام، أنه قطعت أيدي أكثر من ستة أشخاص. ورهبة العقوبة مانعة من التعدي. وأما حد الزنى فحسبنا أنه لم يثبت ولا مرة واحدة بشهادة الشهود، وهم أربعة، لا بد أن يروا رأي العين.
فماذا علينا لو تلمسنا الرأي الأنفع فيما عندنا قبل أن نتسول له عند غيرنا، فنكون بذلك قد أرضينا ربنا الذي قال: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله)، ولم يقل بمثل ما أنزل الله.
وبعد، فإنه يجب أن يتبين الناس أغراضنا من الدعوة إلى الإسلام والحكم بشرائعه... إنها الدعوة إلى العلم والعمل، وإلى النظام الإلهي المُحكَم في محاربة الرذيلة والجهل والمرض... دعوة إلى الطهر والاستقامة والخير للناس كافة... والله يتولّانا بتأييده.
وسوم: العدد 898