الفارابي وابن سينا ينزلان في المظاهرات!
كان بين اللافتات التي رفعت في مظاهرات الاحتجاج أمام السفارة الفرنسية في أنقرة لافتة تقول بالإنكليزية: «الاستهزاء بعقائد الآخرين عجرفة وليس حرية» وأخرى بالفرنسية: «احترام نبيّنا احترام للإنسانية جمعاء». أما الذي لفت نظري فهو أن رجلا وامرأة كانا يرفعان نسختين كبيرتين من الرسم الشهير لابن سينا. عجبت للأمر. ما علاقة ابن سينا بالموضوع؟ ألأنه أمير الأطباء (حيث بقي كتابه القانون في الطب مرجعا معتمدا في الجامعات الأوروبية حتى أوائل القرن 18) وأن الرئيس التركي نصح بأن حالة الرئيس الفرنسي تستوجب الفحص الطبي؟ أم لأن الشيخ الرئيس هو أعظم فلاسفة الإسلام والمعلم الثالث (بعد أرسطو والفارابي)؟ أثار الأمر فضولي. إذ أن مشاركة ابن سينا في مظاهرة سياسية لممّا يثير الفضول! رجعت للجرائد ووكالات الأنباء، فوجدت على موقع الوكالة الفرنسية صورا تظهر أن بعض المحتجين كانوا يرفعون رسوما لشخصيات أخرى، ولكن أسماءها لم تكن بيّنة. بعد مشاهدة عدد من الصور المتشابهة لم أظفر بطائل، فقررت التوقف. ولكني فوجئت وأنا ألقي النظرة الأخيرة أنه كان بين المحتجين رجل يرفع رسما لابن خلدون! هنا بدأت تتضح الرسالة: المظاهرة تريد أن تذكّر فرنسا والعالم أن الإسلام شيّد حضارة علم ومعرفة ساهمت في رفع شأن الإنسانية. وبعد شيء من التثبّت، تبين لي أن المحتجين ينتمون للحزب الوطني (القومي اليساري). فدخلت إلى موقع الحزب، وإذا بي أعثر على شريط فيديو يظهر بوضوح أن المحتجين الذين تجمهروا أمام السفارة الفرنسية في أنقرة كانوا يرفعون رسوما لعدد من أعلام حضارة الإسلام، من أمثال الفارابي وابن رشد وابن تيمية إضافة لابن سينا وابن خلدون!
أعلم أن كثيرين سيستغربون وجود ابن تيمية ضمن هذه الكوكبة من الأسماء الفلسفية والفكرية. ولكن لا وجه للاستغراب. فقد برهن المفكر أبو يعرب المرزوقي في عديد المؤلفات، وخصوصا «منزلة الكليّ في الفلسفة العربية» و«إصلاح العقل في الفلسفة العربية» على ما اضطلع به ابن تيمية من دور في إصلاح العقل النظري، وذلك بوضع نظرية للمعرفة تقوم على نفي أساس الفلسفة اليونانية (أي نفي الكليّ في العلم) وعلى تكامله مع دور ابن خلدون في إصلاح العقل العملي (نفي الكليّ في التاريخ). وأيا كان الأمر، فإن المشهد الذي سجلته الصور في أنقرة مشهد من الطرافة والثقافة بمكان. إذ ليس المتعوّد ولا المتوقع من المحتجّين، على اختلاف بلدانهم وثقافاتهم ودياناتهم، رفع صور كبار الفلاسفة والمفكرين، أيا كان سياق المظاهرة وأيا كانت قضية الاحتجاج.
إلا أن المؤسي أن واقع المسلمين الذي تحتكّ به فرنسا والغرب عموما، إما مباشرة أو عن طريق الإعلام، ليس واقعا موسوما بميسم الحوار والحجاج أو «الاحتجاج الفلسفي» الراقي من هذا القبيل، وإنما هو واقع موصوم بفظائع متكررة من عدمية التذبيح والتقتيل. لهذا يصعب تخطئة المؤرخ البريطاني توم هولاند عندما يتساءل: لماذا تثير رسوم الكاريكاتير كل هذا الاستنكار، بينما لا يسمع في العالم الإسلامي بأسره سوى صمت القبور إزاء اضطهاد المسلمين الإيغور في الصين: «حبس مليون مسلم في معسكرات الاعتقال، وتعقيم النساء قسرا، وتهديم المساجد ثم بناء دورات مياه على أنقاضها». كما يصعب تخطئة الناشط دياب أبو جهجه عندما يقول ساخرا إنه لو استخدمت الصين رسوم الكاريكاتير، بدل معسكرات الاعتقال، ضد المسلمين الإيغور فلربّما تجاسر حكام العالم الإسلامي آنذاك على المناداة بمقاطعة السلع الصينية بدل شراء المزيد منها.
ولكن ذلك هو حكم ميزان القوى الدولية. فللصين قدرات خارقة وموقع مكين. تفعل بالمسلمين ما تريد وتتجاهل العالم الإسلامي تجاهلا مطلقا لأنها تعلم أنه لا يقدر على شيء سوى قبول الأمر الواقع صاغرا صامتا. ليس هذا فحسب. بل إن الصين قد ردعت فرنسا ذاتها عن أن تلعب معها لعبة حرية التعبير: إذ تم هذا الشهر إلغاء معرض عن جنكيز خان والامبراطورية المغولية كان من المقرر أن ينظم في متحف التاريخ بمدينة نانت الفرنسية. ذلك أن الصين اشترطت إعادة كتابة العناوين والنصوص المرافقة للمعروضات الأثرية حتى تضمن تغييب اسم المغول نهائيا، أي اشترطت إعادة كتابة التاريخ بغرض تقديم الامبراطورية المغولية على أنها مجرد حلقة في السردية القومية الصينية. أما سبب هذا العدوان على حقائق التاريخ فهو أن الأقلية المغولية في إقليم منغوليا الداخلية قد انتفضت الشهر الماضي ضد قرار بكين فرض تعليم اللغة الماندرينية في المدارس المحلية. المعنى أن المعرض قد ألغي بسبب إصرار الصين، حسب قول مدير متحف التاريخ في نانت، على فرض «رقابة على حرية التعبير» في عقر بيت فرنسا.
وسوم: العدد 901