خلْقُ آَدمُ، وخلْقُ حوَّاء

د. محمد عناد سليمان

تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ

خلْقُ آَدمُ، وخلْقُ حوَّاء

د. محمد عناد سليمان

[email protected]

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}. «النّساء1».

إنَّ اختلاف أهل العلم في تفسير هذه الآية الكريمة، واختلافهم الظَّاهر في حقيقة خلق «حوَّاء»، فمرَّة من «ضلعه الآيمن»، ومرَّة «الأيسر»، واختلافهم في تأويل معنى «الضّلع» و«الكسر»، واضطرابهم في تفسير آية الأعراف عند قوله تعالى{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ }. «الأعراف189». حيث جعلوا «حوَّاء» مخلوقة من جنس «آدم» وليست من «ضلعه»، وهذا اضطراب واضح، لأنَّ النشأة الأولى لا مجال فيها للأخذ والرَّد، ولا يُقبل منهم أنَّهم يرونها من «ضلعه»  في موضع، ومن «جنسه»  في موضع آخر، كلُّ ذلك جَعَلَنا نقف على معنى هذه الآية، ونفسِّرها باعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن»، وقبل الدّخول في معاني هذه الآية، والحقيقة في خلق «آدم» و«حواء»، نشير إلى ما أورده علماء التَّفسير من أنَّ هذه الآية قد وردت في افتتاح سورة «النّساء» وهي السّورة الرّابعة في النّصف الأوّل من «المصحف»، وكذلك ورد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ }«الحج1»، وهي السّورة الرّابعة في النّصف الثّاني من «المصحف».

ولعلَّ أهمّ ما يطالعنا به المفسّرون من أنَّ المقصود بـ«النَّفس» الواحدة هو «آدم» عليه السَّلام، و«زوجها» هي «حوّاء»،  وأنّها خُلقت منه، كما ورد عن «ابن عبَّاس» حيث قال: «خلق الله حوّاء من ضلعٍ من أضلاع آدم القصرى»، وأخرج «ابن المنذر»، و«ابن أبي حاتم»، و«البيهقيّ» عن «ابن عبّاس» قال: «خلقت المرأة من الرّجل، فجعل نهمتها في الرّجل، وخلق الرّجل من الأرض، فجعل نهمته في الأرض، فاحبسوا نساءكم». وقاله أيضًا «قتادة»، و«مجاهد»، و«الضّحّاك».

ومن المفسِّرين «ابن جرير الطَّبريّ» حيث قال: «أي خَلَق من هذه النّفس الواحدة زوجها، ويعني بـ«زوجها»: الزَّوج الثَّاني للنَّفس، وهي حواء، وقد خلقت من ضلعه». وأشار عند تفسير آية «الأعراف» إلى أنَّ ثمَّة قول آخر يرى أنَّ «حوَّاء» مخلوقة من جنسه لا من «ضلعه»، ورجَّح الأوَّل.

وقال «ابن كثير» معنى قوله تعالى: «وخلق منها زوجها»، وهي حوَّاء، عليها السَّلام، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه، وهو نائم، فاستيقظ، فرآها، فأعجبته، فأَنِس إليها وأنست إليه».

وقال «الزَّمخشريّ» في تفسير آية «الأعراف»: «ولم تخلق أنثى، غير حوَّاء، من قصيري رجل، وجاء العطف بـ «ثم» للدَّلالة على مباينتها، فضلاً ومزية، فهو من التَّراخي في الحال والمنزلة، لا من التّراخي في الوجود. بمعنى: أنَّه تأخّر خلْق حوَّاء عن خلْق آدم، وأنَّ منزلتها أدنى من منزلته».

وقال أبو حيَّان: «وظاهر مِنْهَا ابتداء خلْق حوَّاء من نفس آدم ، وأنَّه هو أصلها الذي اخترعت وأنشئت منه، وبه قال ابن عبَّاس، ومجاهد، والسدّيّ، وقتادة، قالوا: إنَّ الله تعالى خَلَقَ آدم وَحِشًا في الجنَّة وحده، ثم نام، فانتزع الله تعالى أحد أضلاعه القصرى من شماله. وقيل: من يمينه، فخلق منها حوَّاء. قال ابن عطية :ويعضد هذا القول الحديثُ الصَّحيحُ في قوله عليه الصّلاة والسّلام: إنَّ المرأة خُلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها؛ ولهذا يقول العلماء: كانت المرأة عوجاء؛ لأنَّها خلقت من ضلع عوجاء. وقال بعضهم: نبَّه سبحانه بقوله: «وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا على نقصها وكمالها، لكونها بعضها». انتهى قوله.

وقال «الألوسيّ»: «المراد من الزَّوج «حوَّاء»، وقد خُلقت من ضلع آدم عليه السَّلام الأيسر، كما روي ذلك عن ابن عمر وغيره. وقال أيضاً: والكيفيَّة مجهولة لنا، ولا يعجز الله تعالى شيء».

وإليه ذهب «الرَّازيّ»، و«البغويّ»، و«ابن الجوزيّ»، , و«أبو حيَّان»، و«البيضاويّ»، و«ابن عاشور»، و«السّمرقنديّ»، و«النَّسفيّ»، و«السّيوطي»، و«الخازن»، و«الثَّعالبيّ»، و«أبو السُّعود»، و«أبو الحسن مقاتل»، و«ابن عبد السَّلام»، و«أبو الحسن الواحديّ»، و«ابن عطيَّة»، و«الشَّوكانيّ»، و«الشَّنقيطيّ»، وآخرون.

بل إنَّ «ابن العربيّ» فصَّل في تفضيل الله «الذَّكر» على «الأنثى» فقال: «فضّل اللّه تعالى الذّكر على الأنثى من ستّة أوجهٍ: الأوّل: أنّه جعل أصلها وجعلت فرعه؛ لأنّها خُلقت منه. الثّاني: أنّها خلقت من ضلعه العوجاء. الثّالث: نقص دينها. الرّابع: نقص عقلها. الخامس: نقص حظّها في الميراث. السّادس: نقص قوّتها؛ فلا تقاتل ولا يسهم لها».

ولم يخالف جمهور المفسِّرين فيما وقفتُ عليه إلا «أبو مسلم الأصفهانيّ»، وبعضهم أضاف «ابن بحر»، والذي أرجِّحه أنَّ «ابن بحر» هو «أبو مسلم» نفسه، حيث يرى أنَّ الله سبحانه وتعالى خلق «حوَّاء» من جنس «آدم»، وليست منه، وساق أمثلة على ذلك منها قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}. «النَّحل72»، وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}. «آل عمران164»، وقوله تعالى:  {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. «التَّوبة128».

إلا أنَّ الوقوف على حقيقة هذه المسألة باعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن» قد يهدم ما أجمع عليه المفسِّرون، ولا نجد دلالة واضحة إلى ما ذهبوا إليه؛ بل نجد ترجيحًا لقول «أبي مسلم» السَّابق، وإن كانت ثمَّة أحاديث وأخبارًا تؤيِّد مذهب الجمهور، وتخالفه، ونحن نؤكِّد موقفنا الثَّابت ممَّا ورد من ذلك، وهو القائل: إنَّ كثيرًا منه مدلَّس وإن كان في «الصَّحيحين»، وقد بيَّنا في أكثر من موضع حقيقة ذلك، فالنَّبيّ صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضوان الله عليهم برَاءٌ ممَّا يُنسب إليهم من خلاف واضطراب.

إنَّ القرآن الكريم يفسِّرُ بعضه بعضًا، واللَّفظة مرادة لذاتها، ومعناها مقصود في موضعها من السِّياق، ولا يحتمل غيره في موضع آخر، ولذلك نرى أنَّ الآية الواردة في سورة «النِّساء» لها شبيه في موضعين من القرآن الكريم:

الأوَّل: قوله تعالى في سورة «الأعراف»: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ }. «الأعراف189».

الثَّاني: قوله تعالى في سورة «الزُّمر»: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ }. «الزمر6».

وباعتماد منهج «تفسير القرآن بالقرآن»، نجد أنَّ آية «النِّساء» قد جَعَل الله فيها «النَّفس» مخلوقة، بلفظ «خَلَقَ»، وكذلك «الزَّوج بلفظ «خَلَقَ»، أما في آيتي «الأعراف»، و«الزُّمر»، فجَعَلَ «النَّفس» مخلوقة بلفظ «خَلَقَ»، بينما «الزَّوج» مجعول بلفظ «جَعَلَ»، ولا شكَّ أنَّ لذلك دلالة كبيرة في التَّفسير والتَّبيين لكلِّ منها، فـ«خَلَقَ»: أي: أوجد ابتداء، بتقدير، وإحكام وترتيب، و«جَعَلَ»: أي: صيَّر وغيَّر، ومنه قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً}. «مريم30». وقوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً }. «النَّحل72»، ولم يأت بلفظ «خَلَقَ»، مع أنَّ المراد كما يراه المفسِّرون الخلق الأوَّل، وهو وهْمٌ واضح؛ لأنَّ «الخلق» يكون ابتداء، و«الجعل» يكون تغييرًا جديدًا في «الخلق الأوَّل»، ونظائره في «القرآن الكريم»كثيرة، من ذلك  قوله تعالى: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ}. «النَّحل81». وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}. «الفرقان54». وقوله أيضًا: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ}. «الرُّوم54». وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. «الحجرات13». وقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً }. «الرّوم21».

وهنا أشير إلى أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يذكر «اللَّيل» و«النَّهار» إلا بـ«الجعل»، وليس بـ«الخلق»، فقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً }. «يونس67»، وقوله تعالى: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. «القصص73»، وقوله أيضًا: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً }. «غافر61»، في دلالة واضحة على أنَّ «الجعل» هو تغيير وتصيير، وليس «خلقًا ابتداء»، فـ«الشَّمس»، و«القمر»، و«الأرض» كما هو ظاهر في «القرآن الكريم» هي «خلْق ابتداء»، أما تعاقب «اللَّيل» و«النَّهار» فهو «جَعْلا»، فلا يمكن تصوُّر وجود «جَعْلٍ» دون سابق «خَلْقٍ»، فالثَّانية مترتِّبة على الأولى، ولولا حدوث الأولى لما كانت الثَّانية، ومثاله قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ}. «الأنعام1».

وبما أنَّ «الجعْلَ» غير «الخلْق ابتداء»، نخلص إلى أنَّ «حوَّاء» لم تخلق من «آدم»، ولم تخلق من «ضلعه»، ممَّا رأى فيه بعضهم انتقاصًا لـ«لمرأة» وحقّها؛ بل إنَّ «حوَّاء» كانت مخلوقة ابتداء، ثم جعلها وصيَّرها الله «زوجًا» له، كما في سورة «الأعراف»: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. «الأعراف189». إذ أنَّه لو كان المراد خلْقها لقال الله تعالى: «وخلق منها زوجها» مكان «جعل»، لما أوضحناه من فرق بين الفعلين في الاستعمال القرآنيّ، ولما لم يكن كذلك، دلَّ على أنَّ المراد جعلها «زوجًا» لـ«آدم» بعد خلْقها ابتداء.

أمَّا صفة «واحدة» الملازمة لـ«لنفس» التي خلقها الله سبحانه وتعالى، فقد وردت في «القرآن الكريم» في أربعة مواضع، وما نريده ما ورد في صفة «خلقها»، و«جعلها»، وقد ورد في ثلاثة مواضع فقط:

الأوَّل: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء }. «النّساء1».

الثَّاني: قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}. «الأعراف189».

الثَّالث: قوله تعالى: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ }. «الزّمر6».

وعند التَّحقيق في هذه الآيات، نجد أنَّ المراد في الأولى هو ذكر الخلقة الأولى التي خلق الله منها «آدم»، و«حوَّاء» ابتداء، لا أنَّ «حوَّاء» من «ضلعه»، وهذه هي «النَّفس البشريَّة» التي أوجدها الله سبحانه وتعالى، وهي آيلةٌ إلى عدم وفناء،{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. «العنكبوت57»، وهذه «النَّفس البشريَّة» تحمل الصّبغتين «الذَّكر» و«الأنثى»، وبثَّ الله منهما «الرِّجال» و«النِّساء» الكثيرين، وهو أوَّل موضع ترد فيه، وترد مفتتحة لسورة «النِّساء »كما مرَّ، في إشارة إلى «الخلق الأوَّل» لكلٍّ من «آدم» و«حوَّاء»، فجاء الفعل بلفظ «خَلَقَ» في كليهما، معطوفًا بحرف «الواو»، بينما في الآيات التَّالية في «الأعراف»، و«الزُّمر» جاء بلفظ «جَعَلَ» الدَّال على التَّغيير والصّيرورة، معطوفًا بحرف «ثمَّ» الدَّالة على التَّرتيب والمهلة. والله أعلم.

ولا وجه لمن ذهب من علماء «اللُّغة» و«النَّحو» إلى أنَّ الفعل «جَعَلَ» إذا كان متعديًا إلى مفعول واحد فهو بمعنى «خَلَقَ»، وإن كان متعديًا إلى مفعولين كان بمعنى «صيَّر»؛ لأنَّ مراجعة هذه الأفعال وتعديتها في «القرآن الكريم» تردُّ ذلك.

ولعلَّ ما أوهم أهل التفسير في ذهابهم إلى مثل هذا في التَّفسير، ما ورد من أحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، تشير إلى أنَّ الله خلق «حوَّاء» من «ضلع» «آدم»، وعند العودة إلى بعض هذه الأحاديث، لا نجد فيها ما يُثبتُ زعمهم ورأيهم؛ ومن هذه الأحاديث:

ما روى «البخاريّ عن «أبي هريرة» رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر، فلا يؤذي جاره، واستوصوا بالنّساء خيرًا، فإنّهنّ خلقن من ضلعٍ، وإنّ أعوج شيءٍ في الضّلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج، فاستوصوا بالنّساء خيرًا».

ومنه أيضًا ما رواه «مسلم» كذلك عن «أبي هريرة» رضي الله عنه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ المرأة خلقت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت بها وبها عوجٌ، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها»

وفي الحديث المتَّفق عليه عن «أبي هريرة» رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «المرأة كالضّلع إن أقمتها كسرتها وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوجٌ»

ومثل هذه الأحاديث كما هو ظاهر لا وجود لإشارة ولا لتصريح بأنَّ «حوَّاء» خُلقت من «آدم»؛ وإنَّما هو بناء من المفسِّرين على ما وصلهم من روايات وأقوال، ومحاولة إقحام «الألفاظ القرآنيَّة»، وألفاظ «الأحاديث» إن صحَّت لقبول هذه المعاني، وهو بعيد.