من الاعتصامات المطلبية إلى الثورات المسلحة
من الاعتصامات المطلبية إلى الثورات المسلحة
د. ضرغام الدباغ
بتاريخ 16 / كانون 2 / 2014، أجرت إحدى الفضائيات العربية معي لقاءاً حول ما تشهده الساحة العراقية من أحداث، وأخرى تلوح مقدماتها في الأفق القريب، وهنا وأمام هذه الأحداث الجسام التي يشهدها الوطن العربي، والوطن العراقي، ليس لنا أن نتحدث إلا بلغة يجب أن تكون مسؤولة، وذات رؤية بعيدة، وتنأى بنفسها عن التعصب للرأي، فما نشهده اليوم ما هو إلا نتيجة علمية لغياب الحكمة، وقبول الرأي الآخر.
لابد من الاعتراف أننا على عتبة حقبة جديدة، فقد مضت دون رجعة عصر التعصب الآيديولوجي، والفكر الواحد، والأنظمة التوتالية، اليوم العالم بأسره أمام فلسفة سياسية وأنظمة حكم تختلف كل الاختلاف عن أنظمة ما قبل عصر النهضة (Renaissance)، التي أنقضى بها أجل هيمنة الكنيسة، أو فيما بعدها، عصر التنوير (Enlightenment)، الذي أنهى نهائياً سيطرة تحالف القيصر(الملوك) وأمراء الأرض (الاقطاع)، وفتح الأبواب والنوافذ أمام شمس الحرية والأنظمة الدستورية.
واليوم تفتح الثورة العلمية التكنيكية(Microelectro Mechanical Technology) آفاقاً لم تكن معروفة حتى القرن الماضي، وهذه تشع بتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة على الشعوب بطريقة لا يمكن تجاهلها بل بالتعامل معها، والتعاطي مع ظواهرها، بمرونة، نحاول من خلالها أن نساير العصر بهويتنا، بثوابتنا، ولا نجعلها عائقاً أمام التواصل مع المسيرة العالمية.
وعندما اشتغلت خلال الأيام الثلاثة المنصرمة بكتابة فحوى المقابلة التلفازية، تذكرت أني كنت قد كتبت مقالاً بعنوان " عصر الثورات العربية " كتبته لأحدى لإحدى المواقع الأمريكية/ واشنطن، قبل سنة وعشرة شهور تقريباً، ووجدته يصلح كل الصلاحية أن يكون مقدمة لمقالتي التي كرستها حول ما يشهده العراق من أحداث، على أني سألحق هذا المقال بآخر متتم له، بل هو المقصود الرئيسي من المقال.
مع تقديري
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عصر الثورات العربية
كنت أتحدث في ندوة تلفزيونية قبل بضعة أعوام، وقلت أن صفحة البحيرة العربية الهادئة سوف لن تظل كذلك، سيجتاحها الإعصار يوماً، فهذه البلدان على موعد مع ثورات شعبية عارمة، ولكن لا أحد يقدر متى ستنفجر وكيف. فالاحتمالات التي طرحتها كانت تدور أساساً حول احتمالين:
الأول: حينما يبلغ عمود التراكم (Column accumulation) حداً لا يحتمله نظام علاقات، فتنفجر ثورة لتعيد تصحيح المسار التاريخي.
الثاني: وهو احتمال(كنت قد ضمنته في كتابي، قضايا الأمن القومي والقرار السياسي / بغداد 1984) يبدأ بحدث بسيط، تبخس السلطات القمعية قدره والتعامل معه بسبب الإفراط بالثقة بنفسها، فيتصاعد لهيب الحدث ليفجر التناقضات الكامنة التي تعتمل في داخل المجتمع، وفي مقدمتها الاقتصادية والسياسية.
وقد تفاوتت الأسماء التي أطلقت على الرياح العاتية، فالبعض أسمها انتفاضات، والآخر أطلق عليها صفة الثورة، وأطلقت عليه الصحافة الغربية بالربيع العربي، تشبيهاً بربيع براغ (1968) وهو بتقديري تسمية لا علاقة بالواقع العربي، ولا يشابهه لا من قريب ولا من بعيد.
أما الأنظمة العربية المستهدفة وأنصارها القليلون، فأطلقوا على الثورات أوصاف لم تخلو من الخطأ : بين مؤامرة، تدخل خارجي، أعمال شغب، إرهاب للقاعدة، ردة سلفية ولكني أعتقد أنها في معظمها بعيدة عن الواقعية، وبعيدة جداً عن العلمية كأن يطلقوا عليها : مؤامرة، تدخل خارجي، ثورة، انتفاضة، حركة، ربيع، وبالطبع لكل من هذه التسميات قوانين وقواعد وشروط، وبالتالي فالأمر أبعد ما يكون عن تسميات عشوائية منطلقة من عواصف الكبت أو الإعجاب بالفعل البطولي، إلا إذا شئنا المبالغة، والمبالغة التي تبعدنا للأسف عن التقييم العلمي، وعن مستحقات الأحداث.
ولكننا هنا معنيون بتحليل ظاهرة اتسعت وضربت عاصفتها أكثر من ساحة عربية، وبغير اللجوء إلى مناهج التحليل العلمي، فإن الأمر سيصبح ضرب من كتابات أدبية وانتقادات تخلو من الموضوعية. أو حفلة شتائم وسباب لا طائل منه، فالحركة هي غير الانتفاضة، والانتفاضة هي غير الثورة، وينبغي توخي الدقة في الحديث عن هذه الظاهرة الكبيرة في فعلها ونتائجها الحالية منها والمستقبلية.
ربما لا يختلف أحد بالقول أنها حركات شعبية عريضة، والأنظمة الديكتاتورية كانت قد وجهت طغيانها إلى أوسع الجماهير ومن هنا جاءت العاصفة. أجهزة الأمن كانت مخلصة للديكتاتور، فلم تبق حركة سياسية قادرة على الوقوف على قدميها، والمعارضة لا تسقط نظاماً ديكتاتورياً من الخارج، لذلك انطلقت الثورات العربية بصفة عفوية (Spontaneous)غاب عنها التخطيط، انطلقت من تونس حيث العنصر الأول فيها كباعث هو القهر السياسي والاقتصادي، ثم انتقلت بطريق العدوى (Infection) إلى برميل البارود الليبي، فالطغيان هناك بلغ حدوده القصوى في عبث وفساد فاق الحدود.
في مصر واليمن كان الفساد والتمسك بالسلطة، وأنباء التوريث قد عبأت الشارع ضد النظامين منذ سنوات، فيما عجزت الإدارات الحكومية عن فهم نبض الشارع الغاضب، فانفجرت الثورة كحريق خارج السيطرة.
من المؤكد أن أسباب الثورات متعددة، داخلية منها وخارجية، بعضها بفعل عوامل خارجية، وأخرى توارثها النظام العربي، لم يستطع أن يتجاوزها في تطوره المعاصر بعد الحرب العالمية الأولى، ومن ذلك انقطاع الفكر السياسي العربي عن التطور خلال قرون عهود الحقب العثمانية، وإذا كانت تركيا الحديثة قد تمكنت تداركها، حيث أرست أسس لنظام جديد، لم تتمكن الأقطار العربية التي دخلت مرحلة جديدة من الاستعمار البريطاني والفرنسي، والنفوذ والهيمنة الأجنبية منه، ولم تتخلص منها ليومنا هذا، لتنجز مهمة تطوير فكر سياسي / دستوري حديث يضع أسس دول حديثة مؤسسة على خصائص مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
الديمقراطية التي يروج لها الفكر السياسي الغربي، ليست سياسية، متمثلة بآليات الانتقال السلمي للسلطة السياسية فحسب، بل وأيضاً هي مجموعة من نظم وقواعد اقتصادية في جانبها الأعظم، قد لا تتناسب مع ظروف مجتمعاتنا العربية، ونجد أن الفكر العربي الإسلامي قادر بجدارة أن يصيغ مبادئ وقوانين وقواعد فكرية / سياسية / اقتصادية تمثل البديل الديمقراطي للتداول عشوائي للسلطة القائم على العنف في الغالب استلاماً وتسليماً، ونعتقد أنها أكثر ملائمة لمجتمعاتنا العربية الإسلامية لأنها نابعة من صميم معتقداته، وحاجاته، وهنا تكمن مهام علماء السياسة والقانون والاقتصاد العرب في صياغة نظريات تتفاعل فيما بينها وتتكامل لتؤدي في نهاية المطاف إلى نظرية حكم عربية إسلامية تحل فيها هذه الإشكالية التي ما برحت تمثل الثغرة الأخطر على الأمن القومي العربي.
المشكلة الأساسية للأنظمة أنها لا تريد أن تصدق أن العالم قد تغير، وأن هناك أنظمة توتالية (Totalism) محكمة اكثر بكثير من الأنظمة المتهرئة، المثيرة للاشمئزاز، انتهت رغم أن لها خط اجتماعي وفلسفي جذاب ومهم، ولا تريد أن تعرف تأثير الثورة التكنولوجية العالمية تسهل للملايين الاتصال فيما بينهم وتوزيع البيانات والنشرات بلمسة أصبع، الأنظمة لا تريد أن تصدق أن الأثير مليء بالفضائيات، العربية منها تتجاوز الثلاثمائة محطة، والكثير منها بعيد عن القبضة الحديدية، وأما الإذاعات فقد أصبحت لعبة صبيان.
علم السياسة لا يعجز عن إيجاد حلول لكل مشكلة مهما بلغت درجة تعقيدها. ولكن لابد بادئ ذي بدء أن يعترف من لا يشاء الاعتراف بالشعب كقوة عليا، وهو من يقرر مسار الأمور، وقبل الشروع بوضع خارطة طريق للخروج من الأزمة مكتفين بهذا القدر من المأساة، فهل هناك من يسمع ؟
من المعلوم أن الفقه الدستوري تطور كما لم يتطور فرع من فروع القانون العام، فالبشرية تعرف القانون الاساسي أو ما يطلق عليه أيضاً بالقانون الدستوري، وهو أبو القوانين، ذلك لأن شرعية كيان الدولة يستمد من هذا القانون. ومن أهم ما طرأ على أفكار وفقه القانون الأساسي من تطور جوهري منذ زمن حمورابي(1790 ق ب)، هو تعاظم سلطة الشعب، لدرجة أن عبارة " الشعب مصدر السلطات " أصبحت اللازمة الضرورية في فقه القانون الدستوري، وبقدر ما تضعف إرادة الشعب في صياغة الدستور، أو عندما لا تكون تلك الإرادة ظاهرة جلية لا لبس فيها في فقراته الحاسمة، يكون الدستور موضع شبهة في نزاهته، وبالتالي في شرعيته، أما التصويت وحجم الأصوات فهذا شأن تدبره الأنظمة الديكتاتورية بشطارة لا تحسد عليها.
ولابد من القول هنا والتذكير، أن الشعب السوري حكم بدون دستور حقيقي لعقود طويلة، رغم وجود كراس بهذا المسمى، إلا أن الإرادة الشعبية كانت غائبة كلياً، ولم تكن الاستفتاءات التي أجريت على الدستور تجري إلا على طريقة، خذه أو أتركه " Take it or live it "، والاستفتاءات لم تكن سوى شكلية شأنها شأن الانتخابات لمجلس الشعب، فالشعب السوري نسي مفردات الديمقراطية وثقافتها التي كانت تحبو في البلاد، بعد الاستقلال، وربما حتى أواسط الخمسينات، وبعدها نمت أجيال كاملة لا تعرف الديمقراطية، تذهب لصناديق التصويت ولا يهم بماذا تدلي، المهم أن نسب الفوز الساحقة كانت مقررة سلفاً، وأسماء الفائزين محسومة قبل الانتخابات.