قدوة القيادة في الإسلام 6

قدوة القيادة في الإسلام

الحلقة السادسة: المنهج والأسلوب

د. فوّاز القاسم / سوريا

الركن الثالث من مقومات نجاحه صلى الله عليه وسلم في هذه الفترة،  هو الأسلوب الرائع ، والمنهج الراشد ، الذي قاد به هذه المرحلة ، والذي تميز بالميزات التالية :

 أ. الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة :

قال تعالى :((أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن ))  . النحل (125) .

وقال :(( فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)). الحجر (15)

فلقد جمع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في فترة الاستضعاف المكية ، بين ركنين أساسيين من أركان الدعوة :

* ركن القوة والوضوح في تبليغ حقائق العقيدة وأركان الدين الأساسية ، دون أية مواربة أو اجتزاء أو تدليس .

وهي التي عبر عنها المصطلح القرآني المكي بـ( الصدع) . ((فاصدع بما تؤمر)) . الحجر (94)

* وركن الصبر واللين والحكمة ، في التعامل مع ردات الفعل التي يتوقع أن تنتج عن المشركين إزاء تلك القوة وذلك الوضوح في عملية الصدع بهذا الدين . ((وأعرض عن المشركين)) .

ولا يوجد تعارض بين الركنين أبداً . فلا الصدع بحقيقة العقيدة وجوهر الدين وكامل مقوماتهما ، يعني الغلظة ، أو الخشونة ، أو الجلافة ، وقلة الذوق .! 

ولا الحكمة والحسنى ، تعني التد سس الناعم ، وكتمان الحق ، واجتزاء النصوص ، والالتفاف على المبادئ …

ولقد رأينا من قبل ، كيف أن نفراً من أشراف قريش ، كانوا قد عرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يعطوه من المال حتى يكون أغناهم ، وأن يزوجوه أجمل أبكارهم ، على أن يترك شتم آلهتهم وتسفيه أحلامهم . فلما رفض إلا الدعوة إلى الحق الذي بعث به كاملاً . قالوا فتعبد آلهتنا يوما ونعبد إلهك يوماً ، فرفض ذلك أيضاً، في إصرار عجيب على الحق ، وتمسك كامل بالدعوة ..

حتى جاء الوحي يؤيد منهجه ويدعمه : (( قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ...)) الكافرون.

ب. عدم المواجهة المسلحة :

لقد تميز أيضاً أسلوبه صلى الله عليه وسلم ، في هذه المرحلة ، بالاضافة الى الحكمة والموعظة الحسنة، بالصبر والهدوء ونبذ العنف وعدم المواجهة المسلحة.

* كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة .

((ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)).النساء(77 )

لقد كان الظلم الذي يصبه المشركون على المؤمنين عموماً، بمن فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى المستضعفين منهم خصوصاً، لا يطاق .

ولقد رأينا نماذج مما تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الصفحات السابقة .

أما أصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، فقد تجرع كل منهم ألواناً من العذاب حتى عمي منهم من عمي، وفُتن منهم من فُتن ، واستشهد منهم من استشهد .

فقد روى ابن هشام عن ابن اسحق قال : ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم ، بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم. هشام1 (317 ).

ولقد تكلمنا من قبل عن محاولات اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي إحداها وبينما كان أحد المشركين يحاول خنقه صلى الله عليه وسلم ، أقبل عليه أبو بكر رضي الله عنه ، وهو يبكي ويقول :

أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله .!؟

قال ابن اسحق : وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر أنها قالت: لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه مما جبذوه بلحيته، وكان رجلاً كثير الشعر . هشام1 (290) .

وكان بلال بن رباح لبعض بني جمح ، وكان صادق الإسلام وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له : لا والله لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى ، فيقول وهو في ذلك البلاء العظيم :  أحدٌ ..أحدْ ..!

وما زال يفعل به ذلك ، حتى مرَّ به أبو بكر الصديق رضي الله عنه فأعتقه . وكان الصديق رضي الله عنه ، قد أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ، ست رقاب ، بلال سابعهم .

قال ابن اسحق : وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر وبأبيه وأمه وكانوا أهل إسلام ، إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة،  فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول : 

(( صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة )).

فأما أمه فقد قتلوها وهي تأبى إلا الإسلام ، رضي الله عنهم جميعا.

وهكذا كان  أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعذبون ويُفتنون. وكان أبو جهل هو الذي يغري بهم في رجال من قريش .

فإذا سمع بالرجل قد أسلم ، وله شرف ومنعة ، أنّبه وأخزاه ، وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك ، لنُسفهنّ حلمك ، ولنُفيلنّ رأيك ، ولنضعنّ شرفك . وإن كان تاجراً ، قال له: لنُكسدنّ تجارتك ، ولنُهلكنّ مالك . وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به.

ولم تكن تقتصر الإساءة على المستضعفين فقط من المسلمين ، بل كانت تطال أصحاب الشرف والمنعة أيضاً .

فقد روى ابن هشام عن ابن اسحق : أن رجالاً من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد ، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد ، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا ، فقالوا له :

إنا قد أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا ، فإنا نأمن بذلك في غيرهم .  قال : هذا فعليكم به فعاتبوه ، وإياكم ونفسُه،  إحذروا قتله . فأقسم بالله لئن قتلتموه ، لأقتلنَّ أشرفكم رجلاً . فتركوه ونزعوا عنه ، وكان ذلك مما دفع الله به عنه …هشام1 (321 ).

ولقد كانت درجات التعذيب تبلغ حداً لا يطاق .

فقد روى ابن هشام ، عن ابن اسحق ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لعبد الله بن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من العذاب ما يعذرون به على ترك دينهم .!؟

قال : نعم والله .. إن كانوا ليضربون أحدهم ، ويُجيعونه،  ويعطشونه ، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة .

حتى يقولوا له : أللات والعزى إلهك من دون الله .!؟

فيقول : نعم .! حتى إن الجُعل ليمرُّ بهم ، فيقولون له : أهذا الجُعل إلهك من دون الله !؟ 

فيقول نعم .! افتداءً منهم مما يبلغون من جهده .!!!

ويتساءل المرء : أكل ذلك كان يحدث للصحابة الكرام !؟

فأين إذاً الحمية للدين !؟ وأين الغيرة على العقيدة !؟ وأين الانتصار للشرف والكرامة !؟ وكيف يصبر العربي وهو يرى المشركين يقتلون أباه ، ويفتنون أخاه ، ويغرزون نصال رماحهم في قبُل أمه .!؟

إن من طبيعة العربي ومن تكوينه النفسي والروحي ، أنه يأبى الضيم، ويرفض الذل ، ولا يطيق الظلم . وهو مستعد أن يشعل الحروب الطاحنة ، ويجري أنهاراً من الدماء ، من أجل فرس ، أو من أجل ناقة ، بل من أجل ضرع ناقة .!

فما الذي غيره هذا التغيير الهائل !؟ وما الذي ضبط أعصابه هذا الضبط الصارم، حتى يصبر على ذلك كله !!؟

قد يقول قائل : بأن المسلمين كانوا ضعفاء ، وهم غير قادرين على الرد .! ونحن نقول : كــــــلا   ..!

فلم يكن كل المسلمين ضعفاء ، وغير قادرين على الرد .

بل كان فيهم من يمتلك من العصبية القبلية ، ما يستطيع أن يرد بها الصاع صاعين.!

كان فيهم الحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، مصارع الأسود ، الذي أهان أبا جهل ، زعيم الشرك ، وأذله وأجرى دمه في ناديه وبين رجاله  _ لما بلغه أن هذا الأخير كان قد تعرض لابن أخيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإهانة والأذى _ وكان هذا الحادث السبب المباشر لإسلامه .

وكان فيهم عمر بن الخطاب ، الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله به الإسلام .

كان فيهم الهاشمي ، والأموي ، والأسدي  .

وكان فيهم من بني عبد شمس ، ومن بني نوفل ، ومن بني عبد الدار، ومن بني زهرة ، ومن بني مخزوم ، ومن بني عدي،  ومن بني تيم ، ومن بني عامر ، ومن بني الحارث ، وغيرهم ..

وهذه هي غرر بطون قريش وأفخاذها ..

إذاً ، ثمة سبب آخر هو الذي أحدث هذا التحول الهائل في عقلية ونفسية هؤلاء الرجال ، فضبط أعصابهم ، وأغمد سيوفهم ، وكف أيديهم .!! إنها العقيدة الجديدة ، والفهم الجديد ، والمنهج الجديد .!

إن العربي اليوم ، لم يعد ذلك العربي الفارغ ، الذي يعيش بلا قضية ولا نظام . والذي يثور لأتفه الأسباب ، منتصراً لفرسه ، أو ناقته ، أو حتى لشخصه وعشيرته .!

إنه المؤمن المُنظّم ، الذي ينتمي إلى جماعة ، ويخضع لقيادة ، ويسير على خطة ، ويلتزم بمنهج .

والقيادة الراشدة هي التي تقرر الأسلوب الأمثل ، والمنهج الأكمل للحركة ، حسب الظرف والمرحلة التي تمر بها ، آخذة بعين الاعتبار،  مصلحة الجماعة ، والدعوة ، والأمة .

لا مجرد تحقيق رغبات ، واندفاعات ، ونزوات ، فرد فيها ،  كائناً هذا الفرد من يكون .!!!

ولعل سائل يسأل : تُرى .. ما الحكمة ، إذاً ، من وراء هذا الأسلوب وهذا المنهج ، الذي يأمر المسلمين بكف الأيدي ، وإقامة الصلاة ، والصبر على الضيم ، واحتمال الأذى ، حتى وبعض المسلمين يلقى من الأذى مالا يطاق ، فمنهم من يُفتن عن دينه ، ومنهم من يموت تحت التعذيب .!؟                                                                                                                                              

لن نتألى على الله وندعي أننا نستطيع أن نحيط بالحكمة الحقيقية ، ونستقصي كامل الأسباب والعلل التي أرادها الله ورسوله ، من وراء هذا الأسلوب السلمي غير التصادمي في مرحلة الاستضعاف المكية.

فربما كان ذلك ، لأن فترة الاستضعاف المكية كانت فترة إعداد وتربية، ومن أهدافها تربية نفس المسلم على الصبر على  ما لا يصبر عليه عادة ، من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به ، ليتخلص من شخصه ، ويتجرد من ذاته ، ولا تعود ذاته أو عشيرته محوراً للحياة في نظره ، ودافعاً للحركة في حياته .

وتربيته كذلك على ضبط أعصابه ، فلا يندفع لأول مؤثر ، ولا يهتاج لأول مهيج ، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته .

وتربيته على أن يتبع جماعة منظمة ، لها قيادة يرجع اليها في كل أمر من أمور حياته ، ولا يتصرف الا وفق ما تمليه مصلحة الجماعة،  وتأمر به القيادة ، لاوفق ما تمليه مصلحته الشخصية ، وتأمر به أهواؤه ونزواته .!

وربما كان ذلك أيضاً ، لتجنب إشعال حريق داخل الوطن ، وتجنب إنشاء معركة ومقتلة داخل كل حي وكل بيت فيه .

فعندما لا يكون هناك تمايز و مفاصلة بين المسلمين وبين أعدائهم ، ويكون هناك تداخل في الخنادق والمواقع ، فان أول الضحايا سيكون الوطن نفسه..

وسيكون المدنيون ، من الأهل والأصدقاء والمتعاطفين أكثر المتضررين،كما يحصل الآن في بعض البلاد العربية والإسلامية ..!

وقد يكون –وربما هذا هو الأهم –من الأسباب هو قلة عدد المسلمين، وضعف عدتهم ، مقارنة مع أعدائهم،  مع عدم وجود مناصر خارجي لهم .

فقد كانت الجاهلية تسيطر على أرجاء الأرض ، وكان المسلمون أشبه بواحة صغيرة معزولة ، وسط صحراء مقفرة .

ففي مثل هذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى قتل المجموعة الصغيرة واستئصالها ، حتى لو قتلت هي أضعاف أضعاف من سيُقتل منهم ، ولكن في النهاية سيبقى الشرك مزهواً مختالاً، وتنمحي الجماعة المسلمة ، ويصاب أتباع الحق ، وأنصار الخير ، بالمرارة والإحباط ..!

من أجل ذلك فقد أجمع جمهور الفقهاء ، على أن المسلمين إذا كانوا من قلة العدد وضعف العدة ، بحيث يغلب الظن عليهم أنهم سيُقتلون ويُستأصلون ، عندما يخوضون معركة مع أعدائهم ، من غير أن يحُدثوا أية نكاية في أعدائهم ، فيحرم عليهم خوض مثل هذه المعركة،  بل يجب عليهم –والحالة هذه – تجنب الصدام مع العدو بكل الأشكال والوسائل ، حتى لو أدى الأمر إلى انهزامهم ، لما في ذلك من مصلحة تقديم حفظ النفس .

لأن المصلحة المقابلة وهي حفظ الدين موهومة ، أو منفية الوقوع ..

ويقرر العز بن عبد السلام ، حرمة الخوض في مثل هذا الجهاد فيقول : (فاذا لم تحصل النكاية في العدو ، وجب الانهزام ، لما في الثبوت من فوات النفس ، مع شفاء صدور العدو،  وإرغام أهل الاسلام ، وقد صار الثبوت هنا مفسدة محضة ، ليس في طيها أدنى مصلحة). بوطي ص95 . قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/95).

* الصبر على الأذى ، وعدم اللجوء الى العنف ، حتى ولو اقتضى  الأمر ، التنازل الوقتي عن بعض الشكليات غير الأساسية في الدعوة :

فقد روى ابن هشام عن ابن اسحق قال : حدثني رجل من أسلم ، كان واعية : أن أبا جهل مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره ، من العيب لدينه ، والتضعيف لأمره ، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم . هشام1 (291 ).

ولقد رأينا من قبل كيف كان المسلمون يردّون بمنتهى الهدوء والصبر، وضبط النفس ، على استفزازات أعدائهم ، تجنباً لأية مواجهة معهم . حتى ولو اقتضى الأمر تنازلاً عن بعض من كرامتهم، وحقوقهم الشخصية .

بل تنازلوا حتى عن حقوقهم في العبادة وإظهار الشعائر، فامتنعوا عن إقامة الشعائر الدينية بصورة جماعية وبشكل علني ، وكانوا يسرّون بها في بيوتهم ، أو في شعاب الجبال ..!!

ولقد وصلت العنجهية بالمشركين أن يطالبوا المسلمين بالكف عن قراءة القرآن والتغني به أمام الناس ، بحجة الخوف على غلمانهم وعبيدهم ونسائهم من الفتنة .! 

ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان بالدين ، ولم يمر يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طرفي النهار  بكرة وعشية ، فلما ابتُلي المؤمنون ، خرج أبو بكر مهاجراً إلى أرض الحبشة ، حتى إذا بلغ برك الغماد ، لقيه ابن الدغنّة ، وهو سيد القارة ، فقال: أين تريد يا أبا بكر .!؟  فقال أبو بكر : أخرجني قومي ، فأريد أن أسيح في الأرض وأعبد ربي . فقال ابن الدغنة : إن مثلك يا أبا بكر لا يَخرج و لا يُخرج .

إنك تكسب المعدوم ، وتحمل الكلّ ، وتُقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فأنا لك جار ، ارجع واعبد ربك ببلدك ..

فرجع أبو بكر، وارتحل معه ابن الدغنة ، فطاف عشية في أشراف قريش وقال لهم : إن أبا بكر لا يَخرج مثله ولا يُخرَج .

أتخرجون رجلاً ، يكسب المعدوم ، ويصل الرحم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق .!؟

فلم تكذب قريش بجوار ابن الدغنة … وقالوا له : فأمر أبا بكر ، فليعبد ربه في داره ، وليصلّ فيها ، وليقرأ ما شاء ، ولا يؤذينا بذلك  ولا يستعلن ، فإنا نخشى أن يفتن نساءنا وأبناءنا ، فقال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر . فلبث أبو بكر بذلك يعبد ربه في داره .!   

كما روى ابن هشام أيضاً : أن أبا جهل لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مرة أخرى فقال له : والله  يا محمد ، لتـتركن سب آلهتنا ، أو لنسبنَّ إلهك الذي تعبد .!  فأنزل الله : (( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ، فيسبوا الله عدواً بغير علم )).الأنعام (108 ) 

فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كفَّ عن سب آلهتهم،  وجعل يدعوهم إلى الإسلام فقط .

ومن هذا نفهم أنه يجوز للمسلم في مرحلة الاستضعاف ، بل قد يجب عليه ، تخفيف لهجة خطابه السياسي والدعوي ، وتقليل عناصر الإثارة فيه ، طالما كان ذلك يخدم المنهج السلمي غير التصادمي . وفي نفس الوقت ، لا يمس بجوهر العقيدة ، ولا يتناقض مع أصول الدعوة …

أما اذا وصل الأمر الى جوهر العقيدة والمبادئ ، فلا أنصاف حلول، ولا مداهنات ، ولا تنازلات .

فقد روى ابن هشام : أن مجموعة من كبراء قريش ، اعترضوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يطوف بالكعبة ، فقالوا :

يا محمد ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فان كان الذي تعبد خيراً مما نعبد ، كنا قد أخذنا بحظنا منه . وان كان الذي نعبد خيراً مما تعبد ، كنت قد أخذت بحظك منه .!! فأبى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأنزل الله : ((قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون … )) . هشام1 (362 )

* استثمار الظلم المفرط من قبل الأعداء لصالح الدعوة :

ما أكثر أن يكون الباطل جندياً من جنود الحق .!

فقد روى ابن هشام : أن نفراً من كبراء قريش ، اجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم ( موسم الحج )،  فقال لهم : يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا ، فيكذب بعضكم بعضاً . قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل ، وأقم لنا رأياً نقول به .

قال : بل أنتم فقولوا أسمع . قالوا : نقول كاهن ، قال : لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان ، فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه .

قالوا : فنقول مجنون .!

قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته .

قالوا : فنقول شاعر .! قال : ما هو بشاعر . لقد عرفنا الشعر كله ، رجزه وهزجه ، وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر . قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس .!؟

قال : والله إنّ لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً ، إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا ساحر. جاء بقول هو سحر ، يفرق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس الذين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه وذكروا له أمره،  حتى فشى ذكره في بلاد العرب كلها . هشام1 (272 ).

وهكذا فقد عمل المشركون دعاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، من حيث لا يشعرون ، حتى صار الذي لم يسمع به من قبل ، من الأعراب ، يسأل عنه ، ويتحين الفرصة للقائه والسماع منه عن أمر هذا الدين الذي جاء به . فقدّمت هذه الدعاية المجانية ، خدمة هائلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، سهلت له فيما بعد ، مهمة عرضه نفسه على القبائل لطلب النصرة ، وقبول الأنصار له ، وربما كانت من الأسباب المهمة لهجرته الشريفة إلى المدينة المنورة ، كما سنرى لاحقاً .

قال ابن هشام : فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في العرب وبلغ البلدان ذُكر في المدينة ، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذُكر ، وقبل أن يذكر ، من هذا الحي من الأوس والخزرج . فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه،  وإعزاز نبيه ، قذف في قلوب هذا الحي من الأنصار حب الإسلام ، والرغبة في نصرته ، فكان ذلك المقدمة الأولية للهجرة الشريفة . ومع الهجرة انتهت مرحلة الاستضعاف ، وبدأت مرحلة التمكين والإعزاز …

ولقد كانت قصة إسلام حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، ومن بعدها قصة إسلام عمر الفاروق رضي الله عنه ، الشبيهة بها ، دليلاً واضحاً على إمكانية أن يسخّر الباطل عنجهيته وغباءه لخدمة الحق، و نصرة أهله . هشام1 (292)

وكذلك كانت قصة نقض صحيفة الحصار الظالمة ، من قبل مجموعة من المشركين ، على رأسهم : هشام بن عمرو ، وزهير بن أمية ، والمطعم بن عدي ، وأبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود …

قال ابن هشام : فاتّعدوا خطم الحجون ليلاً بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم ، وتعاقدوا على نقض الصحيفة ، فلما أصبحوا  أقبل زهير بن أبي أمية على الناس ، فقال : يا أهل مكة ، أنأكل الطعام ، ونلبس الثياب ، وبنوا هاشم هلكى ، لا يُـباع ولا يُـبتاع منهم ، والله لا أقعد حتى تُشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة .!! 

ثم تتابعت الأحداث ، حتى فرَّج الله بهؤلاء المشركين ، عن عباده المؤمنين ، وأخرجهم من أبشع سجن جماعي في عصرهم .

* عدم الانجرار العاطفي من قبل القيادة بسبب مواقف مؤلمة ، الى قرارات ، ومواقف ، قد تكلف الجماعة والأمة ، ثمناً باهظاً :

لا يوجد ما يثير العواطف ، ويلهب المشاعر ، ويشعل الحماس ، مثل الظلم والتحدي من قبل الأعداء . فهو الشرارة التي تستفز الشباب في كل الأزمان والأمصار . فإذا لم تكن القيادة على درجة كبيرة من الوعي والحضور والسيطرة وضبط النفس ، فان كارثة محققه ستقع لا محالة . وستُستَدْرجُ الجماعة إلى قرار لم تتهيأ له ، وستدخل في ورطة لم تحسب حسابها ، وستقع في الفخ الذي نصبه لها أعداؤها..!

ولقد كانت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين في مرحلة الاستضعاف، مثالاً فريداً لهدوء الأعصاب ، وضبط النفس ، وتقدير الأمور ، وإحكام الخطة ، وعدم الانجرار إلى معارك جانبية .

ولقد قطعت الطريق على استفزازات العدو، ومحاولاته المستميتة، لاستدراج الحركة الإسلامية ، إلى معركة دموية خاسرة ، قد تكون فيها نهايتها …

فلقد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم شخصياً ، من قبل أعدائه المشركين ، إلى ألوان من الأذى ، وأشكال من الفتنة ،  ما اهتز له عرش الرحمن .!!!

فها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أكمل الخلق ، وحبيب الحق ، يعود أدراجه من الطائف ،  وحوله ( زفة ) من الصبيان والعبيد والمجانين ، يرشقونه بالحجارة ، فلا تترك مكاناً لا تدميه من جسده الشريف . وينال منه التعب والإرهاق والإحباط ما يشل أعصابه.! وتذلق الحجارة رجليه الضعيفتين ، حتى لا تقويان على حمله . ويتطوح الحبيب ويقع على الأرض .! 

ولقد كان في سقوطه كفاية للأكفاء والفرسان من الرجال ، الذين يقدرون قيمة سقوط الفرسان .!! 

ولكنهم الصبيان والمجانين والحمقى والموتورون ، يتقدمون إليه ويرفعونه من إبطيه ، حتى يستوي واقفاً من جديد ، لتستمر المأساة ، ويتلذذ القتلة .! وتنهال عليه الحجارة من جديد .! ويتطوح الحبيب .! ويسقط المرة تلو المرة …!!!

يا اللـــــــــــــــه … يا حي يا قيـــــوم .!

إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني .!؟ إلى عدو يتجهمني .!؟ أم إلى بعيد ملكته أمري .!؟

اللهم إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي .

ولكنّ عافيتك هي أوسع لي . 

أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة . من أن تنـزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك ، لك العتبى  حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك .!‍‍‍‍

وفي هذه اللحظات الحاسمات ، وعند هذا الكرب المزلزل ، تُعلَن حالة الطوارئ في الملأ الأعلى .! ويهبط جبريل ومعه ملك الجبال ، يقودان المعركة بنفسيهما .! وينادي جبريل :

يا محمد .! يا حبيب الله .! لقد نظر الله لحالك ، وسمع رد قومك عليك ، وها أنذا جبريل ، وهذا ملك الجبال معي ، قد أرسله الله إليك،  ليكون طوع أمرك ، فأمره بما شئت .!

ويسلم ملك الجبال على الحبيب ، ويقول : يا محمد .!

لقد نظر الله لحالك ،وسمع رد قومك عليك ، وقد أرسلني إليك لأكون طوع أمرك ، فأمرني بما شئت ، فوالله إن شئت لأطبقن عليهم الأخشبين لفعلت .!

ولكنه الرسول الرحيم ،  والداعية الكريم ، والقائد الحكيم ، يأمر بكف الأيدي ، ومنع إطلاق النار .! ولا يزيد على أن يقول :

(( إني لأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يوحد الله )) .!!!

كما تعرض أصحابه الكرام ، أيضاً ، إلى ألوان من الأذى والظلم ، ما لا يقوى على احتماله قلب بشر .!

فلقد أورد الشيخ منير في منهجه الحركي نقلاً عن أهل السير :  وانكفأت كل قبيلة على أبنائها ومواليها ، تذيقهم ألوان العذاب وصنوفه ، لتصرفهم عن دين الله وتصدهم عنه .!

فكان أبو جهل –كما ذكرنا – إذا سمع برجل قد أسلم وله شرف ومنعة ، أنبه وأخزاه ، وإن كان تاجراً وذا مال أوعده بكساد تجارته،  وخسارة أمواله ، وإن كان ضعيفاً ، ضربه وأغرى به .!

وكان عمّ عثمان بن عفان رضي الله عنه ، يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخن من تحته .!

ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته ، وأخرجته من بيته،  وكان من أنعم الناس عيشاً ، فتخشّف جلده تخشّف الحية .!

وكان بلال مولى أمية بن خلف ، فكان أمية يضع في عنقه حبلاً ثم يسلمه الى الصبيان يطوفون به في جبال مكة ، كما يطوفون بالحيوانات ، حتى يظهر أثر الحبل في عنقه .!

وكان أمية يشده شداً ، ثم يضربه بالعصا .

كما كان يخرجه إذا حميت الظهيرة ، فيطرحه في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا والله لا تزال هكذا حتى تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى .! فيقول بلال وهو في هذا البلاء العظيم : أحدٌ ..أحدْ ..!

حتى مر به أبو بكر يوماً ، فاستنقذه منهم ، فأعتقه..

وكان عمار بن ياسر ، مولى لبني مخزوم ، أسلم هو وأبوه وأمه ، فكان المشركون ، وعلى رأسهم أبو جهل  يخرجونهم الى الأبطح ، إذا حميت الرمضاء ، فيعذبونهم بحرِّها ، ولقد مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوماً فقال لهم :

((صبراً آل ياسر فان موعدكم الجنة)) .

أما ياسر فقد مات من شدة التعذيب .! وأما سمية فقد طعنها أبو جهل بحربة له ، فماتت من فورها .! وأما عمار ، فقد شددوا عليه العذاب،  بالحرّ تارة ، وبوضع الصخرة الكبيرة على صدره أخرى ، وبالتغريق ثالثة ، ثم قالوا له :

لن ندعك حتى تسب محمداً ، وتعبد اللات والعزى .!

وكان أبو فكيهة ، واسمه أفلح ، مولى لبني عبد الدار ، فكانوا يشدون في رجله الحبل ثم يجرُّونه على الأرض ، كما يجرُّون الكلاب الميتة.!

وكان خباب بن الأرت ، مولى لأم أنمار بنت سباع الخزاعية ، فكان المشركون يذيقونه ألواناً من التعذيب . يأخذون بشعر رأسه فيجذبونه جذباً ، ويلوون عنقه تلوية عنيفة .ولقد أضجعوه مرة في حر الشمس،  ووضعوا على صدره صخرة كبيرة حتى لا يستطيع أن يقوم .!

وكانت زنّيرة ، والنهدية ، وابنتها ، وأم عبيس ، إماء أسلمن ، وكان المشركون يسومونهن من العذاب أمثال ما ذكرنا .

ولقد أسلمت جارية لبني مؤمل ، وهم حي من بني عدي ، فكان عمر بن الخطاب  وهو يومئذ مشرك ، يضربها ضرباً مبرحاً ، حتى إذا ملّ تركها وجلس يستريح  وهو يقول : والله ما تركتك إلا ملالة .!!

وكان المشركون يلفّون بعض الصحابة في إهاب الإبل والبقر ، ثم يلقونهم في هجير الصحراء .. ويلبسون آخرين دروعاً من حديد ، ثم يلقونهم على الصخرة الملتهبة في حر الشمس .!

ولقد اشترى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أغلب هؤلاء العبيد والإماء فأعتقهم.

ولعل أفظع هذه المشاهد وأبشعها ، ما ذكرناه من رواية سعيد بن جبير ، قال : قلت لعبد الله بن عباس : أكان المشركون يبلغون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ،ما يعذرون به في ترك دينهم !؟ قال : نعم والله .! إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه ، حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة . حتى يقولوا له : أللات والعزى إلهك من دون الله !؟  فيقول نعم .!!! حتى إن الجُعل ليمر بهم ، فيقولون له : أهذا الجعل إلهك من دون الله !؟

فيقول نعم ، افتداءً منهم مما يبلغون من جهده .!!

يا اللــــــه … كل ذلك كان يحصل لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحبابه ، وجنوده ، الذين آمنوا به ، واتبعوه ، وفدوه بمهجهم وأرواحهم .!!؟

ترى .. فما لذي أبقاه طواغيت مكة لمن جاء بعدهم من الطواغيت.!؟

لقد عذبوا المسلمين بالحديد والنار ، ونكّلوا بهم حد الموت .!

ولقد جوّعوهم ، وعطّشوهم ، وسجنوهم في سجون جماعية وانفرادية.!

وانتهكوا أعراض نسائهم ، حتى غرزوا حرابهم في فروجهن .!

وفتنوهم في دينهم وعقيدتهم ، حتى كفروا بالله ، وألهّوا الجُعلان .!!!

فهل بعد كل هذه الإثارة وذلك التحدي من مزيد .!؟

فما لذي كان يمنع ، إذاً ، أولئك المظلومين ، من إطلاق النار ، وتفجير المعركة ،  والدفاع عن أنفسهم .!؟

هل هو الجبن والخوف .!؟

وهل هناك أعذب من الموت في جاهلية آلهتها الجُعلان .!؟

أم هل هناك أشرف من الشهادة ، فداءً للأعراض ، والإخوان ، والعقيدة.!؟

لا.. لا .. لا أصدق أبداً ان الجبن والخوف والضعف ، هي الأسباب التي كانت وراء ضبط النفوس ، وكف الأيدي ، وإغماد السيوف .!!

ولكن قل : هي الخطة ، وهو المنهج ، وهو النظام ، والالتزام …

إنه فقه المرحلة (مرحلة الاستضعاف) ..!   

إن الله هو الذي قال لهم : (( كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة )) . فما شهروا بعد ذلك سيف ، ولا أطلقوا طلقة  .!!!

لقد كان فقه مرحلة الاستضعاف ، يعالج كل هذا الظلم والإرهاب ، بالمزيد من الصبر ، وضبط النفس .! 

فمن وجد في نفسه الطاقة على الصبر فليصبر ، فأنها حلقة في سلسلة، ومرحلة في خطة ، ثم يأتي فرج الله .

وأيمُ الله .. ليتمن الله هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء ، إلى حضرموت ، لا يخشى إلا الله ، والذئبَ على غنمه ..

ومن لم يجد .. فليخرج من الصف ، بهدوء ، وبدون ضجيج ، ولا إثارة ، ولا مزايدات ، بدعوى الشجاعة والجهاد  .. 

لأن مصلحة الجماعة والأمة ، أهم بكثير من رغبات الأفراد ، مهما تكن درجة شجاعتهم ، ومهما يكن مستوى إخلاصهم …

خياران لا ثالث لهما .. ولا يسمح بغيرهما إطلاقاً ، مهما تكن الظروف والملابسات .

أما المواجهات المتفرقة التي كانت تحدث بين الفينة والأخرى ، فهي مواجهات فردية ، وذات صبغة شخصية ، ولا تعبر عن خط الجماعة وسياستها ، وهي ليست مستمدة من خطة القيادة ، وقرارها .. 

فقد روى ابن هشام عن ابن اسحق قال : وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلّوا ، ذهبوا في شعاب الجبال ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب  رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلحي بعير فشجه ، فكان أول دم هريق في الإسلام .

هشام1 (263 ).

كما روى عنه أيضاً قال : حدثني يحي بن عروة بن الزبير ، عن أبيه قال : كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

قال : اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : والله ما سمعت قريش هذا القرآن يُجهر لها به قط ، فمن رجل يسمعهموه .!؟

فقال عبد الله بن مسعود الثقفي : أنا . فقال له أصحابه : إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه .

قال : دعوني فإن الله سيمنعني . قال : فغدا  ابن مسعود حتى أتى المقام (مقام ابراهيم) في الضحى  وقريش في أنديتها حتى قام عند المقام ، ثم قرأ :(( بسم الله الرحمن الرحيم)) رافعاً بها صوته .

(( الرحمن ، علم القرآن … )) ..قال : ثم استقبلها يقرؤها .

قال : فتأملوه  فجعلوا يقولون : ماذا يقول ابن أم عبد .!؟

ثم قالوا : إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد ،  فقاموا إليه ، فجعلوا يضربونه في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ . ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه.  فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك . فقال : ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غداً .

قالوا : لا .. حسبك  .. قد أسمعتهم ما يكرهون . هشام1 (314 ).

كما روى عنه أيضاً في خبر إسلام عمر قال : وأسلم عمر بن الخطاب ، وكان رجلاً ذا شكيمة لا يُرام ما وراء ظهره ، امتنع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبحمزة حتى عازّوا قريشاً (غلبوهم) .. وكان عبد الله بن مسعود يقول : ما كنا نقدر على أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب ، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة ، وصلينا معه … هشام1 (342 ).

كما أورد الشيخ منير في كتابه (الفقه الحركي) نماذج أخرى مثل قصة عثمان بن مظعون يوم عاد من الحبشة ودخل في جوار الوليد بن المغيرة ، ثم ترك جواره إلى جوار الله ، ورد على الشاعر لبيد مقالته ، فثار الناس إليه ، فضربهم وضربوه ، حتى اخضرت عينه من الضرب .!

والذي نستنتجه من هذه النماذج وأمثالها في فترة الاستضعاف ما يلي: 

ان المواجهة كانت تنفيساً طبيعياً لنفوس المسلمين المترعة بالظلم والقهر والإذلال الذي كان يمارسه عليهم المشركون في مكة صباح مساء ..

كما كانت مواجهات فردية ، ومتفرقة ، وذات صفة شخصية ، ولا تعبر عن خط الجماعة وسياستها ، وهي ليست مستمدة من قرار القيادة ، بل أملتها اجتهادات شخصية بحتة . .

كانت هذه المواجهات تطوعية لا إجبارية ، ولذلك لم يندب نفسه إليها إلا من وجد في نفسه الشجاعة والقوة والقدرة على الصبر واحتمال الاذى مهما كانت ردة فعل الأعداء عنيفة ، حتى لو أدى الأمر الى تضرر المتطوع أو استشهاده ..

أو تكون له منعة وعشيرة تحميه وتذب عنه ..

ضمن هذا الفهم الواضح نضع هذه الحوادث في إطارها الصحيح من هذه المرحلة المهمة من حياة الدعوة ، حتى لايتّكيء عليها من أراد أن يسوغ لنفسه تعجله ، وتهوره ، وقلة انضباطه ، بخط الجماعة ونهجها وقرارها، والذي جرّ عليه وعلى الأمة أنهاراً من الدماء  لاترقأ . وأوقعها في حالة من الضعف والعجز والإحباط ، لا تُقال .!

ج .استغلال كل منبر متاح للدعوة :

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم  في مرحلة الاستضعاف المكية ، داعية  نهازاً للفرص من طراز متميز .. فهو لم يترك مجالاً للدعوة الا استثمره ، ولم يدع منبراً للتعريف بدينه إلا ارتقاه …

فقد بدأ في البداية سراً ، حيث اقتضت مصلحة دعوته ذلك ، فلم يكن يدعو إلا من تربطهم به صلة قرابة أو صداقة أو معرفة سابقة ..

ثم جهر بها عندما أمره الله بذلك في قوله تعالى :

((فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)) . وقوله تعالى :

(( وأنذر عشيرتك الأقربين ، واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ، وقل إني أنا النذير المبين)) .

فصعد على الصفا ، وجعل ينادي ، يابني فهر ، يا بني عدي ، حتى اجتمعوا . فجعل الذي لم يستطع ان يخرج ، يرسل رسولاً مكانه لينظر ما هو .؟

فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم ، أكنـتم مصدقي .؟  قالوا : ما جربنا عليك كذباً . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد )).

متفق عليه . بوطي ص99 .

ثم نزل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وجمع من حوله من ذويه وأهل قرابته وعشيرته فقال : يا بني كعب بن لؤي ، أنقذوا أنفسكم من النار . يابني مرة بن كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني عبد شمس ، أنقذوا أنفسكم من النار . يا بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار .يا بني عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار ..

 يا فاطمة بنت محمد ، أنقذي نفسك من النار، فاني لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها (أي سأصلها بصلتها) .

متفق عليه . بوطي ص99 .

ولقد روى ابن هشام في سيرته : أن الإسلام لما فشا في مكة بين قبائل قريش ، اجتمع أشرافهم عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض ، ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك . فاستغلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصة سانحة ، وجاءهم مسرعاً وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه من أمــر الدعوة بداء ، وكـان حريصاً عليهم ، يحب رشـدهم ، ويعز عليه عنتهم . هشام1 (295)

كما روى أيضاً أن قريشاً لما اشتكى أبو طالب وبلغها ثقله ، قال بعضهم لبعض:  إن حمزة وعمر قد أسلما ، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها ، فانطلقوا بنا إلى  أبي طالب ، فليأخذ لنا على ابن أخيه ، وليعطه منا ، والله ما نأمن أن يـبتزّونا أمرنا . قال : فمشوا إلى أبي طالب وهو على فراش مرضه ، فكلموه وطلبوا منه أن يرسل في طلب محمد ، فلما جاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ان أشراف قريش مجتمعين عند عمه أبي طالب ، استغلها فرصة سانحة وجاءهم مسرعاً .ولما كلمهم وكلموه ، عرض عليهم الإسلام وحببهم به. فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم : والله يا ابن أخي ما رأيتك سألتهم شططاً . قال : فلما قالها أبو طالب،  طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه ، واستغلها فرصة سانحة لدعوته أيضاً ، فقال : أي عم ! فأنت فقلها (أي شهادة أن لا اله إلا الله ، وأني رسول الله ) أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة . قال : فلما رأى أبو طالب حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، قال : يا ابن أخي ! والله لولا مخافة السبّة عليك وعلى بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعاً من الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك بها .!

قال : فلما تقارب من أبي طالب الموت . نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، فأصغى إليه بأذنه ، ثم صاح يا بن أخي ، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم أسمع .!

ولما توفيت خديجة رضي الله عنها وأبو طالب ، في العام العاشر للبعثة الشريفة ، وتجمد موقف الدعوة في مكة ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يبحث عن قاعدة جديدة لها ، فهاجر إلى الطائف ، وعرض دعوته على ثقيف ، ولما لم يجد ضالته فيها ، لم ييأس من روح الله ، ولم يقنط من رحمته .

بل ظل يغشى الناس ، ويعرض نفسه على تجمعاتهم ومواسمهم ، حتى جاء الفرج ، وكانت بيعة الأنصار في العقبة ، ثم كانت الهجرة المباركة ..

د. الإفادة من قوانين الجاهلية :

لكل جاهلية في القديم والحديث أعراف وتقاليد أشبه بالقوانين الثابتة يؤمنون بها ، ويحترمونها ، ويحرصون على تطبيقها ..

والداعية الحصيف ، هو الذي يعرف كيف يستثمر هذه القوانين ويسخرها لمصلحة دعوته .. ومن هذه الأعراف والقوانين التي أفادت منها الدعوة في مرحلة الاستضعاف :

1.الحماية :

وهي تعني أن تحمي القبيلة أبناءها ..

وهو قانون معمول به منذ القدم ، ولقد رأينا في فقرات سابقة كيف أن كل نبي كان يبعث من قومه ، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم  قال وهو يتكلم عن سيدنا لوط عليه السلام ، الذي كان يخاطب أهل سدوم ، المنحرفين : (( لو أن لي بكم قوة ، او آوي الى ركن شديد)).هود (80)

قال :(( ما بعث الله من بعده من نبي إلا في ثروة من قومه )).رواه الترمذي

ولقد أفاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا القانون أيما إفادة ، فقد أمضى اكثر من عشر سنوات في مكة ، يدعو إلى الله ، ويجهر برسالته، ويمارس عباداته، وهو محمي بسيوف أبي طالب وقرابته من بني هاشم وبني عبد المطلب ، ولطالما وقف أبو طالب مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : إذهب يا ابن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً .

وكذلك كان يفعل الكثير من أقربائه ، حميّة ، لا إيماناً ..

فقد روى ابن هشام عن ابن اسحق قال : ثم إن قريشاً تذامروا بينهم على من في القبائل منهم ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم .

ومنع الله رسوله منهم بعمه أبي طالب ، وقد قام أبو طالب - حين رأى قريشاً يصنعون ما يصنعون – في بني هاشم ، وبني المطلب فدعاهم الى ما هو عليه ، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقيام دونه فاجتمعوا إليه ، وكانوا معه ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، حتى إنهم جميعاً دخلوا الشعب مع المسلمين لما فرض المشركون عليهم الحصار ، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله الملعون. 

وليس الرسول صلى الله عليه وسلم وحده هو الذي استفاد من هذا القانون ، بل هناك غيره من أصحابه من استفاد كذلك ..

ولقد رأينا من قبل كيف رفض هشام بن الوليد وهو على شركه ، تسليم أخاه المسلم ، الوليد بن الوليد ، الى المشركين مـن قومـه ليقتلـوه ، وقـال محذراً لهم : احذروا على نفسه ، فأقسـم بالله لئن قتلتموه ، لأقتلنَّ أشرفكم رجلاً ، فتركوه ونزعوا عنه.هشام1 (321)

2. الإجــــارة :

وهي تعني أن يجير رجل قوي ، رجلاً من قبيلة أخرى غير قبيلته ، فيمنعه من كل من أراده بسوء ، حتى لو كانوا أفراد قبيلة المستجير أنفسهم …

فقد روى أصحاب السير ، أنه لما توفي أبو طالب ، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم تكن تطمع به في حياته ، فخرج الى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله . ولكنهم ردوا عليه أقبح الرد وألأمه ، في القصة المعروفة . فلما يئس منهم وقفل عائداً إلى مكة ، قال له زيد بن حارثة الذي كان يصحبه : كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك.!؟ فقال :  (( يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً،  وإن الله ناصرٌ دينه ، ومظهرٌ نبيه )).

ثم أرسل رجلاً من خزاعة إلى مطعم بن عدي ، يخبره أنه داخل في جواره، فاستجاب مطعم لذلك ، ووقف موقفاً مشرفاً ، إذ أمر أبناءه فتقلدوا أسلحتهم ووقفوا حول البيت ، ثم نادى هو في قريش ، ألا إني قد أجرت محمداً فلا يتعرض له أحد .

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وطاف في البيت تحت حماية السيوف المشركة ، ثم ذهب إلى بيته . هشام1 (381).

ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن شدّة وفائه ، لم ينس للمطعم موقفه النبيل هذا ، فلقد وقف بعد نصره الساحق في معركة بدر يخاطب الناس ويقول عن أسرى المشركين فيها : لو كان المطعم بن عدي حياً ، لوهبتهم له .! 

ولقد روى ابن هشام قصة إجارة ابن الدغنة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه لما أراد الهجرة الى الحبشة ، والتي ذكرنا تفصيلها في الصفحات السابقة ، حيث لم يقبل هذا الرجل ، أن يهاجر أمثال أبي بكر ، الذي يكسب المعدوم ، ويحمل الكل ، ويقري الضيف ، ويعين على نوائب الحق … واعتبر ذلك عاراً على قريش والعرب جميعاً .

كما روى أيضاً ، أنه لما بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا الى الحبشة إسلام أهل مكة  أقبلوا راجعين ، حتى إذا دنوا من مكة ، بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلاً ، فلم يدخل منهم أحد إلا بجوار أو مستخفياً . هشام1( 364)

3.النصــرة :

وهي طلب الحماية من غير قبيلة قريش ، ومن خارج مكة .

فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أن جهر بالدعوة بعد ثلاث سنوات من البعثة الشريفة ، يرتاد مواسم العرب وأسواقهم ، فيدعوهم الى الإسلام ، ويطلب منهم النصرة والحماية له حتى يبلغ رسالة ربه …

يقول المقريزي في إمتاع الأسماع : ثم عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل أيام الموسم ، وهو موسم العام العاشر للبعثة ، ودعاهم إلى الإسلام .

ولقد اقتص الواقدي أخبار هذه القبائل ، قبيلة  قبيلة ، حيث بدأ بكندة فدعاهم إلى الإسلام ، ثم أتى كلباً ، ثم بني حنيفة ، ثم بني عامر، وغيرهم ، وهو يقول :

(( من رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ رسالة ربي ، فان قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي )). غضبان ص141

وقبل أن أنهي هذه الفقرة ، أود تسجيل أهم ما لفت نظري من دروسها وعبرها :

1.يجوز في مرحلة الاستضعاف ، الاستعانة بالمشرك ، سواء كانت هذه الاستعانة ، حماية ، أو إجارة ، أو نصرة. فلقد كان كل الذين استعان بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أجاروه ، أو طلب هو نصرتهم حتى الآن ، مشركين..!

2.على الداعية أن يكون عنده من الذوق ، والحكمة ، واللباقة ، بحيث لا يحُرج من تطوع لنصرته ، أو تكفل بحمايته .

وعليه أن لا يرهقه بالتوسع في الأمور الثانوية ، أو بممارسة بعض التصرفات الاستفزازية .

بل عليه أن يراعي الظرف العام ، ويحترم حاجات المرحلة ، حتى ولو اقتضى الأمر التنازل عن بعض الفرعيات ، أو التخفيف من نبرة الدعوة . فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداري ظرف عمه أبي طالب ، ويحرص على أن لا يسبب له أي إحراج أو إرهاق . وعندما دخل مكة بعد رحلته الشهيرة إلى الطائف ، في جوار المطعم بن عدي ، لم يزد على أن طاف في البيت ، وصلى فيه ، ثم ذهب إلى بيته ، وبدأ يفكر بتغيير قاعدة الدعوة ، وإيجاد مخرج مشرف لمحنة أصحابه .