طبيعة الملكية ( الحقوق ) الفكرية
طبيعة الملكية ( الحقوق ) الفكرية
المستشار أسامة القباني
النقيب العام لمستشارى التحكيم الدولى و خبراء الملكية الفكرية
الملكية الفكرية : حقوقٌ معنويَّةٌ مُقَرَّرَةٌ، وليست حقوقاً مُجَرَّدةً، وقد ظهرت هذه الحقوق في هذه العصور المتأخِّرة نظراً لتطور الحياة المدنية والاقتصادية والثقافية الحديثة، وأقرَّتها القوانين العصرية والنظم الحديثة، واعتبرتها سلطات قانونية مُقرَّرة لأشخاصٍ على أشياء معنويَّة غير ماديَّة، صنَّفها بعض القانونيين على أنَّها نوعٌ مستقلٌّ من أنواع الحقوق المالية ؛ لما تتصف به من خصائص، تميِّزها عن الحقوق العينية والشخصية ؛ لكون محلِّها غير ماديٍّ .
وصنَّفها البعض الآخر على أنَّها من الحقوق العينية ؛ لأنَّ الشيء الذي تنصبُّ عليه السلطة في الحقِّ العيني عندهم أعمُّ من أن يكون ماديَّاً أو معنويَّاً، وجُلُّ هؤلاء على أنَّ طبيعة هذه الحقوق حقوق ملكية، أو نوع خاصٌّ من الملكية، يطلقون عليه الملكية الأدبية والفنية والصناعية، أو الملكية الذهنية، أو الملكية المعنوية، أو الملكية الفكرية، أو حقوق الابتكار، على ما سبق بيانه .
وأيَّاً ما كان الاختلاف في طبيعة هذه الحقوق، وتكييفها إلى حقوق ملكية أو لا، فإنَّ الحقوق الفكرية تُعَدُّ أموالاً في نظر أغلب القوانين والنُّظم البشرية المعاصرة، تضع لها من الضمانات والأنظمة ما يحميها، ويثبتها ويجعلها مختصَّة بأصحابها .
أمَّا في الفقه الإسلامي، فإنَّ دائرة المال والملك أوسع وأشمل منها في نظر القانون الوضعي ؛ فالشريعة لا تشترط أن يكون محلُّ الملك شيئاً ماديَّاً معيَّناً بالذَّات، إنَّما هو كلُّ ما يدخل في معنى المال من أعيان ومنافع، مما له قيمة بين الناس، ويُباح الانتفاع به شرعاً، وتجري فيه المعاوضة، على ما سبق بيانه في تعريف المال الراجح عند جمهور أهل العلم .
وعلى ذلك : فمحلُّ الحقوق المعنوية داخل في مسمَّى المال شرعاً ؛ لأنَّ لها قيمةً معتبرة عند الناس، ويباح الانتفاع بها شرعاً بحسب طبيعتها، فإذا قام الاختصاص بها لشخصٍ ما، تكون حقيقة الملك قد وُجِدَتْ .
والاستئثار المقصود في الملك في الفقه الإسلامي ليس معناه احتواء الشيءِ من قِبَلِ المالك، إنَّما معناه : أن يختصَّ به صاحبه دون غيره، فلا يعترضه في التصرُّف فيه أحدٌ، والتصرُّف يكون في الأشياء بحسب طبيعتها ؛ لذلك يختلف مدى التصرُّف في أنواع الملك في الإسلام من نوع لآخر، كما أنَّ الشريعة الإسلامية
لا تشترط التأبيد لتحقيق معنى الملك، بل إنَّ طبيعة ملك المنفعة – مثلاً – تقتضي أن يكون مؤقتاً ؛ كما في ملك منفعة العين المستأجرة، فإذا كان لا بُدَّ أن يتأقَّت الحقًّ المعنوي بمدَّةٍ معيَّنة، بحجَّة أنَّ صاحب الحقِّ المعنوي قد استفاد من جهد غيره، فهو ليس جهداً خالصاً له، كما أنَّ جهده ضروري لرُقِيِّ البشرية وتقدُّمها، ومقتضى ذلك ألاَّ يكون حقُّه مؤبَّداً، فإنَّ هذا التأقيت لا يخرجه عن دائرة الملك في الشريعة .
والخلاصة في طبيعة الحقوق الفكرية : أنَّها حقوق معنويَّةٌ مالية، تُنَظَّمُ باعتبارها نوعاً من أنواع الملك في الإسلام ؛ للاعتبارات التالية :
الأول : أنَّها حقوق، والأصل في الحقوق أنَّها أموالٌ، سواء أكانت أعياناً أم منافع أم حقوقاً مُجَرَّدةً (82) ؛ لأنَّ مناط المال ليس مقصوراً على الأعيان، بل يشمل المنافع ؛ وهي أمور معنوية، والحقوق ؛ وهي مجرَّد روابط واعتبارات شرعية يجري فيها الاختصاص والملك، والحقوق الفكرية جارية على هذا الأصل؛ لأنَّها حقوق ذات صلةٍ بأصلها الذي نشأت عنه، وعلاقة صاحبها بها علاقة مباشرة وظاهرة، مما يقتضي اختصاص صاحبها بها، ومنع غيره من العدوان عليها، وتتحقَّق فيها المنفعة المشروعة، وذلك كلُّه علامة الملك، والملك مالٌ ؛ لأنَّ كلَّ ما يجري فيه الملك ويختصُّ به صاحبه فهو مالٌ، سواء أكان عيناً أم منفعة أم حقَّاً مُجَرَّدَاً .
الثاني : أنَّ الحقوق الفكرية لها قيمتها الكبيرة في عُرف الناس، ويُباح الانتفاع بها، وقد قام اختصاص صاحبها الحاجز بها، والصفة المالية – كما سبق في تعريف المال في اصطلاح الفقهاء - تثبت للأشياء بتحقُّق عنصرين ؛ الأول : المنفعة المشروعة ( أو القيمة )، والثاني : العرف البشري الذي يستند إلى المصلحة المرسلة التي تدلُّ على القيمة المالية لهذا الشيءِ أو ذاك.