عودة للكرياب والمرابيع..
الطيب عبد الرازق النقر
الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
لعل من الحقائق التي لا تقبل الإنكار أو الجحود، أن ولاية الخرطوم التي لا نريد تجسيم مساويها، أو تصخيم عيوبها في هذا المقال، قد عجزت أن تتخذ ملجأً تهرب إليه من فداحة النقد، وفظاظة الامتعاض، جراء عجزها البين عن درء مخاطر السيول في الخريف المنصرم، سوى التبشير بمن تشرئب لمقدمهم الأعناق، وتتوق لطلعتهم الأبصار، أفذاذ أوربا الذين يرجعون إلى عقل أصيل، ولب رصين، هم معقد الآمال في وقف زحف مياه السيول، ووأد هديرها الصخاب، نعم إن هذه الأحلام الجزلة، والعقول النيرة، بما حباها الله من علم راسخ، وإلمام واسع، ستجعل مساقط الغيث لا تجد وادياً ممرعاً ترتع فيه، أو قرية وادعة تعبث بها، وليس في ذلك الزعم ضرباً من المبالغة أو الإغراق، فحكومة هذه الولاية التي جعلت جذوة الصبر تتقد في صحن كل بيت، تبغض أن تتعرض سمعتها لشوائب الأراجيف والشائعات، لذا فهي حتماً سوف تنهي طواف الأذهان حول مدلول السيل الذي لن يبقى منه إلا ما اختزنته الحافظة من ذكريات مريرة.
إن المهندس السوداني الذي كنا نخاله أعظم نعمة جادت بها على الأرض السماء، برهنت لنا ولاية الخرطوم أن هذا الاعتقاد لا يسنده منطق، ولا تسعفه حجة، ولا يواتيه برهان، ولقد سعيت لاستدعاء كل الملابسات والظروف التي جعلت من هذه الأمة تضفي على قبيلة المهندسين حلل القداسة والإجلال، فوجدت أن المهندس السوداني عظيم الحظ من النبوغ والذكاء، يجيد تحليل الشائك، والغوص في أعماق المعضلات، ولكنه أقصر باًعا، وأضيق ذراعاً، من أن ينهض بهذه المهمة الصعبة، وليس من تثبيط الهمم في شيء أن تدعي حكومة ولاية الخرطوم أن البون شاسع بين المهندس السوداني الذي لا يبعث على الاطمئنان والرضا، وبين نظيره الأوربي الذي يملأ شعاب القلب بالإعجاب، إذن لم يبقَ لنا إلا أن نأخذ عنها ما قالته، راضين به، مطمئنين إليه، ولكن الأمر الذي ليس من شأنه أن يريحنا ويحملنا على الدعة والسكينة مضاعفة حظنا من المشقة والعناء، فقد انتظرنا في أمل مشرق، ورجاء بسّام، أن تتمخض تلك اللجان التي ألفتها ولايتنا الفتية في إسعاد من تساقطت أنفسهم غماً وأسفًا، وتقطعت أحشاؤهم حزنًا ولهفًا، على دُورهم التي اجتاحتها مياه السيول، هذا إذا تجاوزنا سوء التخطيط الذي كان في الأساس سبباً في إزهاق هذه الأنفس، ووأد تلك الأرواح، كنا نعتقد من سادتنا بعد أن ثقل على هؤلاء المنكوبين فداحة هذه الجائحة، أنها سوف تخف لقضاء حوائجهم برحابة صدر، وسعة ذراع، وشهامة طبع، إلا أنها قد امتحنت صبر أنضاء الفاقة، وأسرفت في امتحانهم، وفتنت ربائب الملق، وغلّت في فتنتهم، وتركتهم على هذه الحال المزرية، يتوسدون الأرض، ويلتحفون السماء، بعد أن سمعت منهم، وتحدثت إليهم، وملأت أطباق الدنيا، وأجواز السماء، بوعودها البراقة، إنّ الحقيقة التي لا يرقى إليها شك، والواقع الذي لا تسومه مبالغة، أنه ليس من اليسير أن نتعرف بالتفصيل على عزم حكومة الخضر في مساعدة من تقوضت عرى آمالهم، وتقلصت حصون أمانيهم، ولا ينبغي لنا أن نسألها ماذا صنعت؟ وإلى أين انتهت؟ في حل هذه المعضلة، ما يجب علينا فعله أن نربت على الآمال الواسعة، والأماني العريضة، التي تطوف فوق رؤوسنا، وأن نوطد بين حنايانا يقيناً جازماً في سعة درايتها وحذقها في معالجة هذه الخطوب، كما يجب أن نبقي هذه الجموع التي بات الهم ضجيعها مطمئنة ساكنة، وهادئة وادعة، وأن تترك سوء الظن والحدس والتخمين، وتتيقن بأن حكومة الخضر ناصرتها ولو بعد حين.
المبدأ الذي ارتضته الدولة ودرجت عليه هو تكليف المواطن ما لا يطيق كلما دهمتنا غاشية أو اعترانا خطب، فقد اعتدنا أن الدور الذي يتقنه أرباب الحكم والتشريع في مثل هذه النوازل هو تخير الألفاظ الموسومة بالرصانة والرنين، أما العبء الأكبر فيقع على كاهل المواطن البائس... ارحموا هذا الشعب من شآبيب البلاء.