الصحافة والثقافة (رمال وشموس)
كيف لنا أن نفصل شأن (الإعلام) عن (الثقافة)، وعن (المعرفة)؟
تُرى أمهمَّة (الإعلام الصحفيِّ) ما تنفكُّ دائرةً في نطاق نقل الخبر، والإثارة السريعة، أم كان يمكن أن تتَّجه وجهةً ثقافيَّةً جادَّةً، تنحو إلى الطَّرح الفكريِّ والمعرفيِّ، ولاسيما في ملحقاتها المتخصِّصة؟
لكن من جهةٍ مقابلةٍ يتبادر التساؤل المشاكس:
أ ما زال جديدٌ يُذكَر في كثيرٍ من الشأن الأدبيِّ تحديدًا: الرواية، أو القصيدة، أو الظواهر الأدبيَّة، المطروحة في الطريق؟
هل بقي فيها ما يهمُّ أكثر من شريحةٍ محدودةٍ من القرَّاء؟
أسئلةٌ ظلَّت عالقةً في سماء الصحافة والثقافة، عبر تاريخها في العهد السعودي المعاصر، كما ظلَّت كذلك عبر التاريخ العربي الحديث.
إن الحسابات المقروئيَّة- حتى حينما كانت الصحيفة تسعى إلى رواج التوزيع الورقي- ربما خانت التوقُّعات النمطيَّة، حين تتناسى أن صحافة اليوم غير صحافة الأمس. فلا تجابِه السؤال: مَن منَّا يتأبَّط الصحيفة الورقيَّة منذ سنين؟ إلَّا مَن لم يَرْضَ عنه والداه، فكان عقابه أن ظلَّ يعيش في عصرٍ مضى، قبل عصر الفضاء، و"الإنترنت"، والصحافة الإلكترونيَّة، ووسائل التواصل الحديثة!
هذا الرأي جاء، بطبيعة الحال، قبل ظهور الفضائيَّات، و"الإنترنت"، والهاتف الجوَّال، وبالجُملة قبل ثورة الاتصالات الراهنة. أمَّا اليوم، فالسؤال صار أكثر إلحاحًا، ومنذ سنوات: مَن يهتمُّ بشراء صحيفةٍ ورقيَّة، ما فيها يصله بالهاتف الجوَّال- لو شاء- أو عبر "الإنترنت"، ويشاهده حيًّا بالشاشات المتعدِّدة التي تحتلُّ حياتنا اليوميَّة؟ بل إنَّ السؤال الآن أصبح: مَن يحفل بمطالعة صحيفةٍ إلِكترونيَّةٍ، تنشر موادَّها "البائتة"، بعد أن طارت الطيور بأرزاقها، ولم يَعُد لديها من جديدٍ يستقطب المتابعين؟ ألا يُعَدُّ مِن تضييع الجهد والمال الدوران في هذا الفَلَك من الإعلام الصحفيِّ الذي عفَّى عليه العصر؟
ولهذا أخذتْ بعض الصحف، التي وعت هذا التحوُّل، تهتمُّ بصفحاتها الثقافيَّة المتنوِّعة. ومن ثَمَّ جاء، منذ حين، مفهوم "كتاب في جريدة"؛ فجعل القارئُ يرمي الصحيفة ويكتفي بملحقها، الذي صار هو الصحيفة والصحيفة صارت الملحق! إلَّا أنَّ بعض تلك الملحقات، بدَوره، ما فتئ منشغلًا بالأخبار الخفيفة، والموضوعات الطريفة، والموادِّ المثيرة لقارئٍ مفترَضٍ منقرِضٍ، على غرار ما كانت صحافتنا العتيقة تفعل. على الرغم من أنَّ قنواتٍ فضائيَّة، ومواقع شبكيَّة، متخصصة في إشباع تلك الرغبات، ومواقع تواصلٍ حيَّة، ولا سيما "تويتر" و"فيسبوك"، أضحت تحتلُّ هذا الميدان. وإنَّما تتكئ بعض تلك الملحقات الصحفيَّة في موادِّها، التي تظنُّها طريفةً، على النقل عن تلك الوسائل؛ فإذا هي لا تأتي بطريفٍ مرتقَب، ولا تتقلَّد عِقد الأصالة.
من هذه المنطلَقات يمكنني القول: إنَّه قد آنَ الأوان أن تضطلع الصحافة، في ثيابها الإلكترونيَّة القشيبة، بمهمَّاتٍ أعلى، ووظائف أكبر وأهم، تتفرَّد بها، وتُحسَب لها. ذلك، مثلًا، عبر إثارة الحوارات المعمَّقة، والنقاشات الموسَّعة، حول القضايا الفكريَّة والاجتماعيَّة والوطنيَّة، التي تهمُّ شرائح المتلقِّين المختلفة. وكذا طرح الأعمال التعليميَّة، والمعرفيَّة الجادَّة، وبخاصَّة مع التحوُّل الرقمي والتعليمي الذي يشهده العالم. ذلك أنه، بالإضافة إلى ما سبق من أسباب لضرورة هذا التغيير، فالواقع أنَّ الصحيفة التي تملك بوَّابةً إلِكترونيَّة حيويَّةً ومستقرَّةً تغدو وعاءً معلوماتيًّا مستمِرًّا؛ بحيث تمثِّل موادُّها وثائق عِلميَّة للباحث، في أي زمانٍ ومكان؛ إذ لم تَعُد وظيفتها ذات الوظيفة الإخباريَّة اليوميَّة العتيقة، أيَّام "الجرنالات"، التي تنتهي أهميَّتها العِمليَّة بصدور العدد الجديد.
أقول هذا وفي ذهني بعض ملحقاتنا الأدبيَّة والفكريَّة المميَّزة في الصحافة السُّعويَّة، منها المستمرُّ ومنها المتوقِّف أو المتذبذب. مثل "المجلَّة الثقافيَّة"- بصحيفة "الجزيرة"، و"ثقافة اليوم"- بصحيفة "الرياض"، وملحق "الأربعاء" و"الرسالة"- بصحيفة "المدينة"، و"الثقافيَّة" بصحيفة "اليوم"، وغيرها. ولقد كانت- خلال القرن الماضي وعِقدَي هذا القرن- تكتسح اهتمامات القرَّاء الطليعيِّين، مراوِحةً في منزلتها من صدارة متابعاتهم بحسب ما تثيره من قضايا حيويَّة، لها نبضها في المشهد الثقافيِّ والفكري، أو لها مرجعيَّاتها في رصيد الباحث المعرفي.
إنَّ وظيفة الصحافة الآن- إنْ ظلَّت لها من وظيفة- قد اختلفت عن ذي قبل. ولكي يبقى لها وجودٌ حقيقيٌّ في حياة الناس، يجب أن تواكب تحوُّلات العصر والإنسان، فلا تدسُّ رؤوسها في رمال الماضي القريب، فضلًا عن الماضي البعيد.
وسوم: العدد 903