رحيل الشاعر السوري الكبير محمود السيّد ‏ صاحب (مونادة دمشق)‏

maghng904.jpg

فوجئت كغيري بخبر رحيل الشاعر السوري الكبير محمود السيّد وأنا أقرأ مصادفة ما كتب عنه ‏ماهر شرف الدين في مجلة الغاوون، وما كتبته الشاعرة اللبنانية سهى شامية في جريدة القدس، ‏وقد أثار هذين المقالين الإجحاف، والإهمال، والظلم، التي أصابت هذا الشاعر، ليس في رحيله ‏فقط وإنما أيضاً في حياته، وأستميح الكاتبين في اقتباس ما جاء في مقالتيهما عن هذا الشاعر ‏الصوفي الرائع مع بعض التصرف.. ‏

محمود السيد شاعر كبير صاحب رائعته (مونادة دمشق)، هكذا يغيب ولا من يُشير إلى غيابه، ‏لا في بلده سورية، ولا في العالم العربي. ‏

هناك الظلم الأول (وظلم ذوي القربي أشد مضاضة)؛ فلم نقرأ في إعلام بلدي خبر، ولا مقالة، ‏ولا تعليق، ولا رثاء، عنه، لا شيء! وهذا في النهاية قدر الكبار الذين يعملون في ظلالهم وبعيداً ‏من الأضواء المزيفة، والمنابر الإعلامية الخشبية، والرواد الذين لم تعد تسعهم الدنيا، ليسرقوا ‏بعلاقاتهم ومواهبهم الأضواء عن شعراء مثل محمود السيّد الذي في بعض تجلياته يفوقهم ‏ابتكاراً، وشغفاً، وقوة، وجدة. إنها العزلة العالية التي أقام الشاعر الرائع، محمود السيّد، ومن ‏عزلته أضاء طويلاً، بنصوص، تمكن فيها، برهافة، وبحساسية، وبذائقة، أن يصوغ لغة، كأنها ‏من تحافير طبقات فوق طبقات، وسفليات، ودواخل، وشغف بالفنية الطالعة من عمق التجارب، ‏وبجمالية لا تسقط في الشكلانية. كأن محمود السيّد من أواخر الذين ما زالوا يؤمنون بأن الشعر ‏قضية اللغة أولاً وأخيراً، حتى عندما تنفى هذه اللغة كمفهوم بلاغي أو إنشائي. ‏

محمود السيّد كتب النص المركّب، مبتعداً عن الاستسهال والإسهال، والتبسيط التي وقع فيها ‏بعض ما يسمى نصوص (الركاكة) أو النصوص المهلهلة التي تدعي خروجاً من البلاغة وقد ‏صارت بليغة من شدة تكرارها وتعليبها وامتجاجها، واجترارها كنموذج مهتز. والبلاغة هي النص ‏الذي إذا ما اكتشفناه وقعنا في تقليده. وكل تقليد شاعر لنفسه هو البلاغة المقنعة بامتياز.‏

في مجموعاته الشعرية التي تمتدّ من (مركبة الرغوة) الصادرة عام 1967م إلى مجموعته‎ ‎الأخيرة ‏‏(سهر الورد ـ تجليات السهروردي في الورد والدم) الصادرة عام 1998م، مروراً‎ ‎بـ (مزامير ديك ‏الجن) ورائعته (مونادا دمشق) ثم (تتويج العشب)، صنع محمود السيد أساطيره الخاصة عبر ‏مزج فريد من أساطير وصوفيات وأمكنة وطفولة أيضاً، فثمة فضاء طفولي شاسع تسرح فيه ‏قصائده ذات الأبعاد والأوجه الثقافية والمعرفية الكثيرة، هكذا كنّا: عصافير صباح/ قبّراتٌ ‏وعنادلُ وحساسين تغازل/ نرسم الأرض خميلة / فرحاً يركض، شمساً وفضاءات طفولة / ثم، ‏جاءتنا البنادق../ يبس العشب، هرَّ الورد، حشرجْ‎/‎‏ سحق البغل البنفسجْ / سحقتنا طغمة الليل، ‏وزعران القبيلة / ومشى الرمل فتوكاً، فوق‎ ‎أشلاء الحدائق). ‏

لا يخفى الحس الشعري الانثوي الكبير في قصيدة السيد، وربما يكون‎ ‎مرد ذلك إلى ما هو أبعد ‏من الجملة الشهيرة والرائعة لابن عربي: (ما لا يُؤنَّث لا‎ ‎يُعوّل عليه)... فالشاعر تلقى تربيته ‏على يد عمّته ( البدراء) التي كان لها أثر‎ ‎كبير في حياته، وقد كانت تُلقي على مسامعه قصائد ‏الخنساء وزهير بن أبي سلمى وولادة‎ ‎بنت المستكفي. وما رائعته (مونادا دمشق) إلا ذروة لهذا ‏الافتتان الصوفي بتأنيث العالم.‏

و(مونادا دمشق) هي قصيدة نثرية مطوّلة نشرها محمود السيد في دمشق سنة‎ ‎‏1969م، وتُعتبر ‏مفصلا مهماً في الكتابة الشعرية السورية الحديثة، وقد كتبها الشاعر‎ ‎مستهدياً بفلسفة لايبنتز ـ ‏كما يذهب نبيل صالح ـ وهي قصيدة وعرة مغامرة عن‎ ‎‏(المونادا) التي صيّرها الشاعرُ. (المرأةَ ‏المملّحةَ بالتضحية... منتعلة بخور‎ ‎النبوة، تهشّ الرعاة حتى نجمة الصبح).‏

ولد محمود السيد في مصياف سنة 1935م، وبعد‎ ‎نيله الشهادة الثانوية قدم إلى جامعة دمشق ‏ومنها حصل على الإجازة في الحقوق، وفي عام 1960م كانت بدايات عمله في الصحافة في ‏جريدة (الوحدة)، وقد سُرِّح منها بعد وقوع الانفصال، فالتحق بمجموعة من الصحافيين لإصدار ‏مجلة (ليلى) الأسبوعية التي تولّى إدارتها بنفسه. وفي سنة 1963م عمل في جريدة (الثورة) ‏كمشرف فني ومخرج في تصميم الصفحات، ثم تولى الإشراف على ملحق (الثورة) الثقافي، ‏الشهير آنذاك الذي‎ ‎استقطب الكثير من الأسماء المهمة أمثال ادونيس وفاتح المدرّس، ثم تولى ‏رئاسة‎ ‎تحريرها إلى أن قرّر سنة 1989م (في بادرة نادرة عربياً) الاستقالة من منصبه للتفرّغ ‏لمشروعه الشعري والفني.‏

وفي هذا السياق هناك حادثة طريفة وقعت في سورية يوم‎ ‎تولّى محمود السيد (وهو غير شاعرنا ‏الراحل) وزارة الثقافة، حيث استبشر المثقفون‎ ‎خيراً وراحوا يمتدحون الوزير الشاعر فور الإعلان ‏عن تشكيل الوزارة الجديدة... إلى أن عرفوا الحقيقة فأصيبوا بالخيبة كالعادة‎.‎

‏(سهروردي‎ ‎دمشق)؛ الاسم الذي أطلقه عليه الشاعر السوري أكرم قطريب الذي أخذ الشاعر ‏الراحل‎ ‎بيده في بداياته كما أخذ بأيدي الكثيرين من الشعراء الشباب من خلال نشر أعمالهم في‎ ‎مجلة (ألف باء) التي كان يترأس تحريرها أوائل تسعينيات القرن الماضي، والتي قدمت‎ ‎العديد ‏من الأسماء والتجارب الجادة‎.‎‏ ‏

فمحمود السيّد، المجافي الشلل، والعلاقات، والحزبيات، ربح شعره، ولم يخسر العالم. ‏

رحل الشاعر الرائع محمود وحيداً لكن قوياً بوحدته، كما كان قوياً في حياته بعزلته. ألف رحمة ‏عليك يا شاعر الشام.. يا أحد كبار شعراء سورية والعالم العربي. ‏

وسوم: العدد 904