من ذكريات المولد النبوي الشريف
معمر حبار
رباه أساتذته وشيوخه، مذ كان صبيا، أن الاحتفال بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضائل، التي تعبّر عن حبّه، ووسيلة لإقتفاء أثره، وفرصة للتمسّك بما استطاع المرء، أن يتمسّك به من خصاله.
نما الطفل على حب سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستدعي لحضور المسابقات التي كانت تقام بالمناسبات الخاصة بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ظلّ الطفل يفتخر بالجوائز التي تحصّل عليها، خاصة وأنه مازال لحد الساعة، يعتمد على المنجد الممنوح له في مسابقة أقيمت قبل زلزال أكتوبر 1980. ومازال يذكر باعتزاز شديد، شيوخه وأساتذته ، حين يقدّمونه على الأقران، ويفتخرون بصوته، وهو يتلو القرآن.
كانت ساحات حي بن سونة، تعج بالديك الرومي قبل ذبحه، وكل طفل يقود ديكه مفتخرا به، وبريشه. فالأطفال يومها، أبدعت أناملهم الرقيقة في تحويل الأسلاك المعدنية إلى أشكال تحمل مايضىء الحي ليلا. وكل الألعاب كانت تصنع بقطع محلية، ولم تكن يومها ألعاب مستوردة. فكان المولد فرصة لتفجير الطاقات اليدوية البسيطة، ومناسبة لأن يبدع الأطفال، فيما يمكنهم الإبداع فيه.
إذا حان وقت المغرب، انطلق كل طفل لبيته، يعيش مع والديه وأخوته، ليلة المولد النبوي الشريف. فتقدّم الصحون، وتوزع الحلوى المحلية غير المستوردة، ويقدم الكسكس بأيدي الأم الغالية، وبنكهة محلية لاتعرف الاستيراد، والحنّاء تزيّن الأيدي البريئة، وكل ينتظر شمعته، فيفتخر على أترابه، أنها كانت آخر الشموع انطفاء. ويسود الفرح، وتعم البسمة، ويحمدون الله على نعمة المولد، التي بسببها كانت كل هذه النعم.
وفي الصباح، يأخذ كل طفل كيسا مملوء بمختلف الحلويات، يتبادلون الأطفال فيما بينهم أشكالها وأنواعها، دون تفريق ولاتمييز، فلم تكن هناك طبقات، تتميّز عن بعضعا، بل طبقة واحدة ينطلق منها الجميع، ويعودون إليها لتجمع من جديد، رغم قلّة الحاجة، وضيق الجيب.
وفي المساجد، تقام الدروس الخاصة بتلك المناسبة، فيتطرق الإمام والخطيب إلى فضائل سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن تربى على فضائل نبيه ولو بالمناسبات، سيظل متمسكا ومعتزا بها. فكيف بمن كانت حياته كلها للسيرة النبوية العطرة.
تعلّم الطفل منذ الصغر، أن الاحتفال فضيلة. وبعد مرور 43 سنة، يعلّمها الآن لأطفاله. وقد سبق أن ذهب البارحة ليحتفل مع أخيه الأكبر، رفقة أبناءه الأربعة، فأعاد نفس الجو، مذ كان صبيا لايعي معنى الاحتفال.
من الفضائل التي مازال الطفل متشبثا بها، رغم مرور العقود من الزمن، أنه لايعيب على من يرفض الاحتفال بمناسبات سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحترم موقفه وماذهب إليه، لأن السماحة كانت المهد الذي احتضنة، والصدر الذي ضمّه. فالتنافس يكون في حب سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل يختار الوسيلة المستمدة من هذا الحب الخالد، ليعزّز بعد ذلك هذا الحب الدائم.
إن الاحتفالات المتكررة، والدروس الملقاة على مسامعه، بخصوص المناسبات المختلفة، والمتعلّقة بسيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، طوال سنوات الطفولة والمراهقة، غرست في الطفل عشق قراءة الكتب والمقالات، التي تتطرق للسيرة النبوية، فقرأ منها العشرات والمئات، القديمة منها والحديثة، المؤيدة منها والمخالفة، العربية والأجنبية، فأكسبته الحب والمناعة، ومنحته حب القراءة وأدب النقد. ولعلّ آخرها الكتاب الذي انتهى منه منذ ساعة من الزمن: " سلوة الكئيب بوفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم"، للحافظ محمد بن عبدالله القيسي المعروف بابن ناصر الدّين الدمشقي، المتوفي 843 هـ، تحقيق الأستاذ: صالح يوسف معتوق، دار البحوث للدراسات الاسلامية وإحياء التراث، الطبعة الثانية: 1422 هـ - 2002، من 253 صفحة.