كتب الله عز وجل الخلود للغة العربية بحفظه للذكر الذي أنزله بها للعالمين
جرت عادة الناس أن يتخذوا من أيام معينة في الحول مناسبات للاحتفال بأحداث تمر بهم ،وتكون إما سارة أو محزنة . ولا يكاد يمر يوم من أيام السنة في عالم اليوم دون أن يكون قد صادف حدثا من الأحداث المحتفل بها، والتي يطلق عليه اسمها لاشتهاره بها . وتوجد اليوم لدى شعوب المعمور الكثير من الأيام التي تضفى عليها صبغة العالمية، لأن هيئة الأمم المتحدة تقرر ذلك بإجماع أعضاء الدول المنخرطة فيها .
ومن تلك الأيام العالمية يوم عالمي خصص للغة العربية ، وكانت بداية الاحتفال به هو الثامن عشر من شهر دجنبر سنة 1973 بناء على طلب من المملكتين المغربية والسعودية تقدمتا به إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التي قررت أن يكون هذا اليوم هو اليوم العالمي للغة العربية ،وجعلتها لغة رسمية ضمن اللغات الرسمية المستعملة في دوائرها .
وهذا اليوم إن يغفل عنه بعض أبناء هذه اللغة ، فإنه راسخ في أذهان محبيها منهم . ولقد شرفها الله عز وجل بإنزال آخر رسالة سماوية إلى البشر بها ، وهي بحفظه سبحانه وتعالى لهذه الرسالته العالمية الخاتمة المنزلة على النبي العربي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ستظل خالدة ومشمولة هي الأخرى بحفظه جل وعلا ،تقاوم ما لا طاقة لغيرها من اللغات بمقاومته من صروف الدهر التي أفنت كثيرا منها ،ولم يعد لها ذكر في الناس .
وعند التأمل نجد أن اللغة العربية هي أكثر لغات العالم تداولا خلافا لما يعتقد البعض، والسر في ذلك أنها وعاء الذكر الحكيم المنزل من رب العالمين ، فباعتبار عدد المسلمين في العالم اليوم، وهم يمثلون خمس سكان المعمور أو يزيد كلهم يستعمل اللسان العربي يوميا حين يتعلق الأمر بعبادة الصلاة التي تؤدى خمس مرات في اليوم من خلال تلاوة ما تيسر من القرآن الكريم المنزل باللسان العربي المبين سواء العرب منهم أو غير العرب ، وأقل ما يستعمله هؤلاء من اللسان العربي يوميا وبتكرار مقدمة فاتحة الكتاب " الحمد لله " ،تحية " السلام عليكم "وعبارات أخرى من قبيل " بسم الله " ... وما شابه ذلك .
ولا توجد لغة تعمق الباحثون في معرفة طبيعتها كاللغة العربية، وذلك لارتباطها بما جاء في القرآن الكريم وهو الذي شغل ويشغل الناس جميعا في كل زمان ومكان . وحرصا على استيعاب ما جاء في هذا الكتاب الكريم بذل العلماء قصارى جهودهم لمعرفة وعائه الذي هو اللغة العربية .
ولقد كان للقرآن الكريم فضل على هذه اللغة حيث كشف عن أسرار فصاحتها وبلاغتها، وهو الذي استعملها ووظفها في أوج الاستعمال لبيان إعجازه الذي حير العالمين جميعا وقد تحداهم به رب العزة جل جلاله . ومع أن العرب قبل نزول القرآن الكريم تفننوا في أساليب لغتهم من خلال أشعارهم ،علما بأن الشعر كان هو علمهم الوحيد كما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قولته المشهورة " الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه " إلا أنهم رفعوا أيديهم استسلاما عاجزين أمام استعمال الله عز وجل للسانهم في تبيلغ رسالته العالمية للعالمين ، وقد تحداهم هم والبشرية جمعاء ،ومعها جميع الجن أيضا أن يأتوا بمثل مضامينه في مثل قوالب اللسان العربي الذي جعل لها وعاء .
ولقد كانت أشعار العرب لا تتجاوز شهرتها حدود بلاد العرب في شبه جزيرتهم إلا أن نزول القرآن بلغتهم جعلها لغة عالمية منذ خمسة عشر ثرنا قبل أن تفكر الجمعية العامة للأمم المتحدة في اعتبارها كذلك منذ ما يقل عن خمسة عقود من التاريخ الحديث.
ولقد كان القرآن الكريم سبب اشتغال عناصر غير عربية باللسان العربي شعرا ونثرا وعلما ومعرفة ، ولولا الوحي المنزل لما اشتغلوا به .
ولا توجد لغة تعرضت لشتى المؤامرات منذ فترة نزول الوحي بها كاللغة العربية ، ولا زال حالها كذلك إلى اليوم . ولقد مرت بفترات تاريخية عصيبة بسبب تلك المؤامرات خصوصا في القرون الثلاثة الأخيرة من العصر الحديث، علما بأن سبب استهدافها هو كونها وعاء القرآن الكريم الناطق باسم الإسلام . وكل عداء لهذا الدين يحاول النيل من كتابه الكريم ومن ثم النيل من وعائه الذي هو اللسان العربي المبين ، ولهذا يستهدف بالتهميش الممنهج بشتى الطرق والأساليب منها العمل على صرف كل من يريد جعله وسيلة أو وعاء لنقل مختلف المعارف والعلوم على غرار ما تنقله ألسنة الأخرى لمجرد أنه وعاء لكلام الله عز وجل .
ومن التآمر على هذا اللسان الذي لا يوجد لسان مثله في نقل الكم الهائل من العلوم والمعارف التي نقلت البشرية من طور حضاري إلى آخر كما يشهد بذلك أهل العلم المنصفون ، ولا اعتبار لما يقوله غيرهم من الجاهلين بقيمة ما نقله هذا اللسان من العلوم والمعارف التي اغترفت منها كل اللغات الحالية وسارت بها مسارات بعيدة في التطور العلمي والمعرفي اعتمادا على الانطلاق من مسارات اللغة العربية ،وقد كانت منطلقها و لولاها لما حصل هذا التطور الهائل في المعارف والعلوم كما هي عليه اليوم . ومن الجحود ونكران الجميل أن يتجاهل البعض فضل اللغة العربية على البشرية فيما تعرفه اليوم من تطور نقل حياتهم من ضيق العسر إلى سعة اليسر .
وأكثر ما تهمش به اللغة العربية يحصل في بلدان الناطقين بها ، ويعتمد من يتعمّدون تهميشها أسلوب مزاحمتها في المناهج الدراسية بلغات أجنبية تصنف إلى لغات أجنبية أولى وثانية حسب الماضي الاستعماري لكل بلد من البلدان العربية ، وقد أدى ذلك إلى عجمة أصابت أجيالا من الناشئة العربية المتعلمة الذي صارت تجهل لغتها الأم جهلا فظيعا ، وقد ضللها خصومها بأن العيب كامن فيها وفي قواعدها وأساليبها ،ووجد ذلك تجاوبا وهوى في نفوسها حتى تحول إلى قناعة راسخة لديها من الصعب تخليصها منها .
ومما زاد من تهميش اللغة العربية في المناهج الدراسية في البلاد العربية اقتصار تدريس مواد علوم المادة بها على فترات التعليم ما قبل فترة التعليم العالي التي لا مندوحة خلالها على تدريس تلك المواد باللغات الأجنبية المنحصرة في لغات المحتل تحديدا ، ولا ينجوا المتعلمون في بعض البلاد العربية وبلدنا من ضمنها من معاناة مع لغة المحتل التي لا تفيدهم في تحصيل علوم ومعارف معينة إلا بلغات أخرى تفوقها تطورا تصلح أوعية لتلك العلوم والمعارف .
ومما تعاني منه اللغة العربية مزاحمة ربيباتها العاميات لها ،والتي تختلف من حيث الأداء أو لنقل من حيث اللحن الناكب عن فصاحتها وبلاغتها في ربوع الوطن العربي باختلاف الجغرافيا الطبيعية والبشرية فيها ، وقد ارتفعت أصوات بعض من يستهدفون العربية الفصحى بخبث ومكر مكشوفين مطالبة بإحلال الربيبات العاميات محلها في التعليم بذريعة صعوبتها مقارنة بتلك العاميات ، وهي ذريعة واهية لا أساس لها من الصحة .
وتزداد معاناة اللغة العربية بسبب ركوب البعض الآخر موجة ما يسمى بالدفاع عن بعض الهويات اللغوية التي تعايشت لقرون طويلة مع الهوية الإسلامية الجامعة لكل الهويات اللغوية دون أن يثار مشكل تلك الهويات ،وهو مشكل مصطنع تقف وراءه أهداف إيديولوجية وطائفية وسياسوية وحزبوية بما لهاتين الصيغتين من دلالة على الانتهازية البخسة.
إننا ونحن نحيي يومه في وطننا العربي من محيطه إلى خليجه اليوم العالمي للغة الضاد التي تنافسها الأضداد بضراوة مطالبون بحكم البر باللغة الأم، وهو من أوجب الواجبات أن نتصالح معها أولا من خلال الإقبال عليها تعلما، وتعليما ،قراءة، ورسما ،وتعريبا للمعارف والعلوم، وبرمجة في مناهجنا الدراسية .
ولا شك أن دعم اللغة العربية لمواجهة ما يعترضها من عراقيل مختلفة يقف وراءها خصومها في الداخل والخارج إنما يتحقق بالصلح مع كتاب الله عز وجل الذي جعلها سبحانه وتعالى وعاء له ،من خلال معاشرته اليومية، ذلك أن العي في اللغة العربية بين أبنائها ،ولكنتهم ،ورطانتهم فيها إنما هي نتيجة لهجرانهم القرآن الكريم تلاوة، وحفظا ،ودراسة، وتدبرا ،وتمثلا وتنزيلا في واقعهم، ولا خلاص من غربتهم عنها إلا بربط الصلة بها من جديد عن طريق ربط الصلة بالذي جعلت وعاء له، وهو كتاب الله عز وجل . ولهذا لا بد من عودة أسلوب بداية تعليم الناشئة عن طريق فك عقد ألسنتها في السنوات الأولى من عمرها بتلقينها اللسان العربي المبين من خلال طريقة الاستعمال القرآني له لأنه قمة بيانه وبلاغته وفصاحته، ولن تصيب اللكنة أو العي أو الرطانة ألسنة تروض به في المراحل الأولى من العمر ، وقد أثبتت التجارب ذلك، وشهدت عليه النتائج الملموسة في الواقع ، والتي لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر .
ولا بد من إنفاق الذهب الإبريز على ما يحقق للغة القرآن الكريم التعزيز عوض إنفاقه بسخاء على ما لا طائل من ورائه، ولا فائدة ترجى منه كما هو معروف اليوم في بلاد العروبة التي ينفق فيها على كل توافه الأمور باستثناء الانفاق على لغة القرآن الكريم الذي به تصلح كل الأمور .
وسوم: العدد 908