شيءٌ عن طلائع الحُريّة
علاء سميح الأعرج
يعجب متعجّل من امرئ يطلق لحنجرته العنان رفضاً للاستبداد في وجه دبابة تهدر، ويتساءل عن مردود هذا الصوت ونتائجه في إعادة تشكيل الواقع، ظنّاً منه أن جدوى هذا الصوت تُقاس -بشكل مجرّد- بمقدار الأرض التي يحققها أو المُكْنة السياسة المرئية التي يستوجبها، وعليه يحق له بعدها أن يحكم بانتحار صاحب الصوت حين تخطفه رصاصات الطاغوت.
بل ويجد الحريص العَجِل في إعراض أتباع الطاغية عن الحق رغم وضوحه آيةً على ما يقول، ويرى في إخفاق شلال الدم السيّال بكل ما يحمله من آهاتِ وأنّاتِ ثكلاه وزفراتِ ضحاياه في استنهاض ضمائر من ساندوا سافكيه شاهداً على عبثية التضحية به. ومن ثم ينطلق فريقان؛ واحدٌ يطالب بإيثار السلامة وآخر ينشد استعجال حَمْل السلاح رغم جزمه بأنه لن يحسم المعركة.
وبعيداً عن الحسابات السياسية الآنية، ثمة ما هو أهم من الأحداث ونقاشها، بل ومن أشكال المواجهة وإن كان مرتبطاً بها. نعم، إن ثمة ما هو أهم من المُنْتَج والصورة، وأقصد المنهج والفكرة، فالأوّلان انعكاس للأخيرَيْن. فالمصريُّ الذي انتقل من اعتناق ثقافة التبرير لجماعته وهي تختار مخلصةً مجتهدةً تأجيل المواجهة و العمل على الإصلاح من الداخل بات اليوم يدرك أنه لا إمكان لحلول وسط بين الجاهلية والإسلام، وأنه لا مكان للون الرمادي في معركة الأسود والأبيض، وأن النتيجةَ الحتمية لغياب النَّفَس الثوري عقودٌ جديدة من مبايعة الاستبداد قصد المبايِعُ ألم لم يقصد.
إن صاحبنا أو قل سيّدنا الذي يقف بصوته ليقول "لا" أمام دبابة الدكتاتور يحمل على عاتقه مسؤولية تغيير الفكر، ومسؤولية حمل الناس على المفاصلة وتحديد اختيارهم، ومسؤولية نقل الأمة من دونية ساحات مخافة دفع ضريبة التغيير إلى معالي قرار النهوض والتمكين الحضريّين، ومسؤولية تدريبها على الثورة وهي تجلس في بيوتها في غير أقطار المواجهة، ومسؤولية تعرية أهل الباطنية والذرائعية السياسية وأصحاب مبدأ السلامة الدينية حتى لا يبقى على ساحة العمل منهم متستّر يملأ عقول الخلائق إفساداً وتثبيطاً ويأطرهم بليّ أعناق النصوص على الركود في عباءة الباطل أطْراً.
ولمّا كان تحديد شكل المواجهة يحتاج إلى كثير من فقه الموازنات وفقه الواقع وإدراك مخزونك الذاتي، كان لزاماً على من ينتصب ليجلد ظهور المقهورين بسوط "حبذا لو تركتم السلمية" أن يقدّم رؤية تفصيلية موزونة تتجاوز التحفيز العاطفي والاستشهاد بنصوص الجهاد العامّة، وكأن من يقف مُجرّداً إلا من إيمانه وعزيمته أمام القتل المُحقّق يخشى لو حمل السلاح أن يُقتل أو كأنه وهو بالصدر العاري يستقبل الطاغية "بالأحضان" ! إنني لا أعني أن خيار السلمية خيارٌ مقدسٌ، فهو "خيار" وليس ثابتاً من الثوابت، لكني أنعي في من ينادي بغيرها اعتباطاً عُمْقَ إدراكه للمواجهة.
أخيراً، وجب التنويه إلى كارثة كثرة السؤال بـ : متى ؟ فإن تطهير أدران قرون من موات فكرة الحرية ربما لا يسعه عمر جيل من الثوار، ومن أدرك جلال المهمّة الموكلة إليه بثوريته أدرك لزوم طول نفسه، وأن ظاهرة بعد جموع عن الحق لا تنفي أن الزمن كفيل بقرع أجراس قلوبها، فإذا كان مِن أصحاب رسول الله مَن قد أخّرتهم عقابيل الجاهلية عن أن تصفوا نفوسهم عقداً أو عقدين، فكيف بمن لم يدركوا أنواره ؟! على الثائر أن يدرك أن غاية ما يجب أن ينتظره هو شعوره باستفراغ الوسع لنصرة قضيته ومناغاة السُّنن علّه يُحاكي سَيْر المنتصرين.