الإسلاميون والعلمانيون نحو رؤية توافقية
د.أحمد محمد كنعان
تمهيد :
خلال الربع الأخير من القرن العشرين شهد العالم صحوة دينية واسعة الانتشار حتى في البلدان العريقة في علمانيتها ، مقابل انحسار نسبي في النزعة العلمانية ، وهذا ما أشار له الباحث الأمريكي "George Weigel" المتخصص في علم الاجتماع السياسي الذي رأى أن هذا الانحسار يعود إلى ما نتج عن العولمة من نتائج سلبية باتت تشكل تهديداً مباشراً للقيم الدينية والأخلاقية في المجتمع(1) .
ولم تكن الساحة العربية والإسلامية بعيدة عن هذه الظاهرة ، فقد شهدت كذلك انتشاراً واسعاً للحركات الإسلامية على المستوى الشعبي بسبب معارضتها الحازمة للأنظمة العلمانية التي مارست أسوأ أشكال الدكتاتورية والفساد لأكثر من نصف قرن ، وعملت على إقصاء الأمة عن دينها وأخلاقها وعاداتها وتقاليدها ، وقد تعرض الإسلاميون من جراء ذلك للإقصاء والتهميش والتعذيب والتشريد والسجن ، وظلت الأنظمة الحاكمة تحول بينهم وبين الوصول إلى السلطة في جميع الحالات التي فاز فيها الإسلاميون بالانتخابات (جبهة الإنقاذ في الجزائر مثالاً) وحتى في الحالات التي وصل فيها الإسلاميون إلى السلطة عبر الانتخابات الحرة انقلب عليهم العسكر وأودعوهم السجون (الإخوان المسلمون في مصر مثالاً) .
وفي الواقع لم يسلم من بطش تلك الأنظمة الدكتاتورية حتى بعض العلمانيين الوطنيين الذين تعرضوا كذلك للاضطهاد والإقصاء والتعذيب والسجن والتشريد ، كما فعلت الدكتاتورية بالإسلاميين ، وقد دفعت هذه المعاناة التي عاشها الوطنيون الشرفاء من التيارين الإسلامي والعلماني إلى وقفات تأمل ومراجعات جادة من كلا التيارين ، لكشف مواضع الخلل في مواقفهم الفكرية وممارساتهم ، وأصبحت هذه المراجعات أكثر إلحاحاً مع انطلاق "الربيع العربي" أواخر عام 2010 ، الذي أخرج إلى السطح المزيد من علل التيارين ، وسوف نحاول في هذه الإطلالة أن نعرض بعض هذه العلل ، لا بقصد اللوم والتجريح وتبادل الاتهامات ، وإنما بقصد المساهمة في تشخيص أسباب هذه العلل ، تمهيداً لعلاجها وتحويل الصراع المزمن بين التيارين إلى تنافس على الإنجازات بدلاً من التنافس على المكاسب والمناصب كما هو حاصل حتى اليوم على أقل تقدير .
(1) تاريخ العلمانية :
العلمانية نزعة فلسفية ، تعود جذورها إلى الفلاسفة اليونان القدماء من أمثال أبيقور ، لكنها بدأت تكتسب صيغتها الحديثة خلال عصر الأنوار الأوروبي على أيدي عدد من الفلاسفة من أمثال الفرنسيين فولتير ، روسو ، مونتيسكيو ، والأمريكي توماس جيفرسون ، وغيرهم من الفلاسفة والمنظرين السياسيين .
والعلمانية فلسفة تدعو للفصل بين الدين والسياسة ، وهو ما عبرت عنه تعاليم الكنيسة : أعطِ ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله . فالعلمانية ترى أن الأنشطة البشرية والقرارات السياسية ينبغي أن لا تخضع للمؤسسات الدينية ، بل تخضع لرأي غالبية المجتمع ، وقد لخص الفيلسوف الإنكليزي جون لوك مفهوم العلمانية بقوله : "من أجل الوصول إلى دين صحيح ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينياً أو فكرياً أو اجتماعياً ، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط ، لا أن تنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف ، يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة ، وأن لا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر ، هكذا يكون العصر هو عصر العقل ، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحراراً ، قادرين على إدراك الحقيقة(2) .
ويرى بعض الباحثين العرب المعاصرين أن مصطلح "العلمانية" قد تعرض للتحريف عند ترجمته إلى العربية من أصله الإنكليزي "Secularism" أو أصله الفرنسي "laïque" وكلاهما يعني الدنيوية ، ولا يعني اللادينية كما شاع في الثقافة العربية ، بينما يرى عبد الوهاب المسيري وهو أحد المتخصصين في تاريخ العلمانية أن هناك علمانية جزئية تقول بفصل الدين عن الدولة فحسب ، وعلمانية شاملة لا تتوقف عند فصل الدين عن الدولة وإنما تدعو إلى فصل كل القيم الإنسانية والأخلاقية والدينية لا عن الدولة فقط وإنما عن الطبيعة وعن حياة الإنسان في جانبيها العام والخاص ، بحيث تنزع القداسة عن العالم وتحوله إلى مادة استعمالية يمكن توظيفها لصالح الأقوى(3) .
والجدير بالذكر أن مفهوم العلمانية قد تطور بمرور الوقت مع تهميش دور الكنيسة في أوروبا والبلدان التي تعلمنت ، ولم يعد هناك غلاة يطالبون بإقصاء الدين إقصاء كلياً عن الحياة كما كانت الحال أول نشوء النزعة العلمانية ، فقد بدأ الناس هناك يدفعون ضريبة تخليهم عن الدين فاتورة مكلفة من انهيار الأخلاق ، وانتشار الإباحية والجرائم ، وضعف الأمن والسلام الأهلي ، أما في البلدان العربية والإسلامية فمازال هناك غلاة من العلمانيين الذين يصرون على إقصاء الدين عن السياسة وعن المجتمع إقصاء تاماً ، وهو موقف يستحق المراجعة لأنه يتجاهل ما جرى للعلمانية عند الآخرين .
ومن المعلوم تاريخياً أن أول صدام بين الإسلام والعلمانية يعود إلى العام 1925 عندما ألغى مصطفى كمال أتاتورك" نظام "الخلافة" وإقام نظاماً علمانياً في تركيا ، فهدم بذلك مفهوم الأمة الإسلامية الجامعة ، ولم يكتف بهذا ، بل هدم المساجد ، ونكّل بالعلماء ، وأغلق مدارس تعليم الدين ، وأسس دكتاتورية طاغية أصبحت فيما بعد قدوة لدكتاتوريات عربية عديدة ، بالرغم من أن العلمانية نشأت أساساً لمحاربة الدكتاتورية والطغيان كما زعم مبدعوها ، وقد اكتسبت العلمانية المزيد من السمعة السيئة عندما هجم الاستعمار الأوروبي على الوطن العربي واحتل العديد من البلدان منتهزاً تفكك الخلافة على يدي أتاتورك ، ونشط نشاطاً محموماً في نشر الفكر العلماني المحارب للإسلام ، وقد سارعت بعض الشخصيات العربية إلى انتهاز هذه الفرصة فتبنت العلمانية وراحت تدعي أن الأمم الأخرى لم تتقدم ولم تتحضر إلا حين أخذت بالعلمانية وفصلت الدين عن الدولة والمجتمع ، وقفزت هذه الشخصيات إلى السلطة من خلال انقلابات عسكرية مدعومة بشكل أو بآخر من الاستعمار وأعوانه ، واستفردت بالحكم ، وأقصت مختلف الحركات السياسية الأخرى ونكَّلت بها ، لاسيما منها الحركات الإسلامية التي وقفت في وجه هذه الهجمة العلمانية حين رأت أنها لا تهدد دين الأمة فحسب ، وإنما تهدد كذلك هوية الأمة ووحدتها ووجودها ، وكانت النتيجة أن أصبح عامة المسلمين ــ الذين يعتزّون بدينهم وتراثهم الذي بنيت عليه حضارة عظيمة ــ يرفضون العلمانية جملة وتفصيلاً باعتبارها جزءاً من تراث الاستعمار .
وقد تزايد رفض الإسلاميون للعلمانية نتيجة بعض الأحداث الكبرى التي تعرض لها الوطن العربي بعد ذلك ، لعل من أبرزها نكبة 1948 في فلسطين على أيدي جيوش هزيلة ليس لها عقيدة قتالية تموت في سبيلها ، ثم هزيمة الحركة القومية في حزيران 1967 أمام الهجمة الصهيونية ، وقد جعلت هذه الوقائع وأمثالها شريحة واسعة من الشعب العربي تلتحق بالحركات الإسلامية لإيمانها بأن الدين هو الملاذ القوي في مواجهة الخطر الصهيوني وغيره من الأخطار الكبيرة التي باتت تهدد الأمة .
ثم أسهمت ثلاثة أحداث أخرى كبيرة بتكريس الصراع بين الإسلام والعلمانية ، أولها حادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 الذي ضرب فيه بعض الإسلاميين مركز التجارة العالمي في عمق الولايات المتحدة ، ما جعل السياسيين هناك يتنبهون لخطر الحركات الإسلامية على مصالحهم ومشاريعهم الاستعمارية ، وقد ظهرت في أعقاب ذلك الحادث الذي هز العالم دراسات وبحوث عملت جاهدة على إلصاق تهمة "العنف" بالإسلام حتى تصدّر مصطلح "الإرهاب الإسلامي" وسائل الإعلام العالمية ، وانتشر على نطاق واسع مصطلح الخوف من الإسلام "إسلاموفوبيا" ما جعل الشريحة الواسعة من الأمة تستشعر المؤامرة العالمية التي بدأت تحاك ضدها ، وجعل جماهير الشعب العربي تلوذ بالإسلام باعتباره السند الأساسي لوجودها وقوتها.
أما الحدث الثاني فهو الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ، واعتماد سياسة تمزيق المجتمع العراقي ، وانتهى ذلك الغزو الغاشم بتشكيل واجهات سياسية طائفية الروح والهوى ، ما أثار حمية الحركات الإسلامية التي وجدت في هذا الحدث مؤامرة خطيرة لا تستهدف تمزيق المجتمع العراقي فحسب وإنما تستهدف تمزيق العالم العربي والإسلامي !
ثم جاء الحدث الثالث والأهم ، وهو انطلاق "الربيع العربي" أواخر عام 2010 ، وما تمخض عنه من صعود الإسلام السياسي وتسلمه السلطة في تونس ومصر ، مع حضور واضح للإسلاميين في بقية الدول العربية التي شهدت تسونامي الربيع العربي ، الأمر الذي أظهر أن الحركات الإسلامية هي الأفضل تنظيماً ، والأكثر حضوراً وتأييداً شعبياً ، بالرغم من مطاردة هذه الحركات من قبل الأنظمة الدكتاتورية ومحاولات تصفيتها والقضاء عليها ، ولا شك بأن هذه الميزة التي اكتسبتها الحركات الإسلامية تعود بالدرجة الأولى إلى اهتمام هذه الحركات بهموم الناس أكثر من اهتمامها بالتنظير الفكري ، فلا غرابة إذن أن تحقق فوزاً ساحقاً في الانتخابات الحرة النزيهة التي جرت حتى اليوم ، لأن هذه الحركات هي الأقرب إلى الناس الذين يشكّل الإسلام مرجعيتهم الدينية والفكرية والحضارية ، فعندما تكون المنافسة بين الإسلامي الذي ينادي بالعدالة والحرية وبين العلماني الذي ينادي بالعدالة والحرية وإبعاد الدين عن السياسة فإن المسلم بلا تردد سوف يختار الاسلامي ، لا لأن المسلم عانى من الأنظمة العلمانية الويلات فحسب ، بل لأنه لا يرضى أن يتخلى عن دينه الذي بنى له حضارة قامت على الحرية والعدالة ولا تزال أمثلتها الناصعة حاضرة في الذاكرة ، هذا إلى جانب ما رآه المسلمون من زيف الشعارات التي رفعتها الأنظمة العلمانية الحاكمة طوال عقود طويلة من حكمها .
(2) إشكاليات العلمانية والإسلام :
إن هذا التاريخ الحافل بالاستبداد من قبل الأنظمة العلمانية جعل الإسلاميين يقفون مواقف رافضة ومتشددة ضد العلمانية ، منها أن العلمانيين في البلدان العربية والإسلامية تجاهلوا السبب الحقيقي الذي دفع لنشوء العلمانية في أوروبا ، وهو الرغبة بالخلاص من "كهنوت" الكنيسة التي فرضت وصايتها على عقائد الناس التي هي شأن خاص بين الإنسان وربه ، ولم يتعرض العلمانيون هناك للتديّن الشخصي إلا في حالات نادرة كما حصل لفترة من الزمن في فرنسا ، وكما فعل أتاتورك في تركيا ، ويرى الإسلاميون أن العلمانيين العرب قد تجاهلوا عن قصد أن الإسلام ليس فيه "كهنوت" ورجال دين كما هي الحال عند الكنيسة التي ثار عليها علمانيو أوروبا ، وتجاهل العلمانوين كذلك أن الإسلام يعطي مساحة واسعة للعقل والاجتهاد ، وقد كان حرياً بالعلمانيين الاستفادة من هذه السمات الإيجابية في الإسلام بدلاً من محاربته ، فقد كانت تلك فرصتهم التاريخية لعقد توافق بناء بين الإسلام والعلمانية ، لكنهم اختاروا الطريق الأقصر ، والأخطر ، إذ راحوا يفرضون العلمانية على الأمة فرضاً ، فأعادوا بهذا الفعل القهري سيرة الكهنوت الكنسي ، ولكن بلباس علماني !
ويرد العلمانيون بالمقابل أن تاريخ الإسلام قد شهد كهنوتاً لا يختلف عن كهنوت الكنيسة تمثل بظهور "فقهاء السلاطين" الذين ظلوا يبررون لولي الأمر أفعاله مهما كانت خارجة عن أخلاقيات الإسلام وضوابطه الشرعية ، وبذلك أسسوا للاستبداد الديني في التاريخ الإسلامي كما فعلت الكنيسة ، وأضفوا على الاستبداد صبغة شرعية زائفة ، ومسخوا الفقه السياسي في الإسلام بحيث لم يكتب فيه سوى بضعة كتب ، مقابل عشرات الآلاف من الكتب التي حررت في فقه الطهارة والعبادات والمعاملات والأحوال الشخصية !
ويرد الإسلاميون على ذلك بأن الحركات الإسلامية المعاصرة رفضت هذا الفقه السياسي المدجَّن منذ انطلاقتها ، وطرحت فقهاً سياسياً حركياً استهدف الخلاص من حالة الركون إلى الاستبداد التي أسسها فقهاء السلاطين .
ويرد العلمانيون مرة أخرى بأن هذه الخطوة من الإسلاميين كانت جيدة لولا أن الحركات الإسلامية بالغت في هذا التوجه الحركي حتى خرج بعضهم عن نهج الإسلام الوسطي ، وراحوا يرمون المجتمع المسلم نفسه بالجاهلية بحجة عدم تطبيق الشريعة ، وانطلق بعضهم الآخر يصدر الفتاوى بتكفير الناس على مخالفات لا يعدها الإسلام من نواقض الإيمان ، مما أحدث فوضى واسعة في الأوساط الإسلامية ، وجعل بعض الحركات الإسلامية في موضع الاتهام ، ولهذا يرى العلمانيون أن الحركات الإسلامية باتت بحاجة ماسة لتطوير فقهها السياسي آخذة بعين الاعتبار ما طرأ على الدنيا من تحولات سياسية منذ أن حرر "الماوردي" و "ابن تيمية" و "الغزالي" وغيرهم رسائلهم في ( السياسة الشرعية ) فقد طرأت على الدنيا في العصر الحديث تحولات واسعة في السياسة والجغرافيا والاجتماع والاقتصاد ، وظهرت مؤسسات دولية أصبح لها القول الفصل في معظم القضايا حتى المحلية منها ، وهذا ما يوجب على الحركات الإسلامية أن تعيد النظر في الكثير من النظريات الفقهية القديمة المتعلقة بالدولة والسياسة ، لتصوغ فقهاً جديداً يحل إشكاليات الحاضر بدل أن تعيد استنساخ اجتهادات قديمة ربما كانت تشكل حلولا لزمانها لا لزماننا .
وهكذا مضت الحال بين الإسلاميين والعلمانيين على مدى السنوات الماضية يتراشقون فيها بالاتهامات ، بمناسبة وبغير مناسبة ، وقد تفاقمت الأزمة بين الطرفين مع انطلاق انتفاضات "الربيع العربي" أواخر عام 2010 ، تلك الانتفاضات الشعبية العفوية التي لم يخطط لها لا الإسلاميين ولا العلمانيين ، ومع هذا فقد سارع كل من الطرفين إلى توظيف الأحداث لصالح مشروعه السياسي أو الحزبي ، مما زاد في حدة الخلاف بينهما ، وكان هذا الموقف من الربيع العربي من أكبر الأخطاء التي ارتكبها الطرفان ، لأنه هدد بإجهاض هذا الربيع الواعد ، وضياع ما قدمته الأمة فيه من تضحيات كبيرة للخلاص من الاستبداد الذي عانى منه الكل بلا استثناء .
وسوف نقف هنا عند بعض الملاحظات الأخرى حول مسيرة هذين التيارين السياسيين ، لا لتوزيع التهم على هؤلاء أو أولئك ، وإنما من باب النقد البناء الذي أمرنا به ديننا الحنيف ، والذي يقضي به العقل السليم ومنطق العلم الصحيح ، لعلنا بهذا نضع أيدينا على مواضع الخلل ، ونصل إلى العلاج الذي يصحح المسار ، ويحقق التوافق البناء بين الطرفين .
(3) ملاحظات على الحركات العلمانية :
1- لعل أول ملاحظة على العلمانيين في الوطن العربي أنهم ليسوا مشرباً واحداً ، وإنما هم مشارب مختلفة ، فمنهم : العلمانيون القوميون ، والعلمانيون الماركسيون ، والعلمانيون الليبراليون ، وهؤلاء وأولئك ينقسمون إلى : علمانيين يساريين ، وعلمانيين محافظين ، والقاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً هو دعوتهم للدولة المدنية القائمة على فصل الدين عن الدولة ، وهم يختلفون بشأن أهمية الديمقراطية في بناء الدولة ، فالعلمانيون الليبراليون يرفضون الدولة المستبدة ، أما العلمانيون القوميون والماركسيون فلا يعتبرون الديمقراطية شرطاً أساسياً للدولة الحديثة ، بل يذهب العلمانيون القوميون ومعظم الماركسيين إلى حد تفضيل الدولة العلمانية المستبدة على الدولة الديمقراطية التي يحكمها الإسلاميون ، حتى وإن وصل الإسلاميون عن طريق الانتخابات ، بينما يذهب نفر من العلمانيين الليبراليين للتحالف مع الإسلاميين ضد الأنظمة العلمانية المستبدة بهدف إقامة دولة ديمقراطية ، بالرغم من تشكك هؤلاء العلمانيين الليبراليين من الإسلاميين ونواياهم بشأن الموقف الحقيقي من الديمقراطية !
2- يبدو من تاريخ معظم العلمانيين في الوطن العربي أن مفاهيم الحرية والمساواة والمواطنة وحقوق الإنسان والإخاء الإنساني وغيرها من القيم الديمقراطية لم تشكل عندهم أولوية ، وإنما كانت في الغالب مجرد شعارات جذابة استخدموها أسلحة تكتيكية للوقوف في وجه عدوهم الأول ــ حسب اعتقادهم ــ وهو الحركات الإسلامية ، فلا غرابة إذن أن يحتدم الصراع بين الطرفين ليصل في مناسبات عديدة إلى حد الصدام المسلح الذي كلف الأمة ضريبة باهظة من دماء أبنائها .
3- خلال العقود القليلة الماضية كشف العلمانيون عن موقف مخاتل تجاه الديمقراطية التي ما فتئوا ينادون بها ، منها على سبيل المثال لا الحصر انقلابهم على نتائج الانتخابات الديمقراطية الحرة التي جرت في الجزائر في ثمانينات القرن الماضي وفازت فيها "جبهة الإنقاذ" فوزاً كاسحاً ، وقد تأكد هذا التوجه المخاتل من العلمانيين تجاه الديمقراطية في سياق "الربيع العربي" الذي فاز فيه الإسلاميون فوزاً ساحقاً في مختلف الانتخابات التي جرت في البلدان التي شهدت هذا الربيع ، فسارع العلمانيون بمختلف أطيافهم إلى إنكار هذا الواقع ، ولم يترددوا بالوقوف إلى جانب فلول الأنظمة الساقطة نكاية بالحركات الإسلامية ، وهذا ما عبر عنه واحد من رموز العلمانية في الوطن العربي هو "محمد البرادعي" الذي قال في إحدى تصريحاته الفاقعة : لقد تحالفنا مع الفلول للوقوف في وجه الإخوان المسلمين.
4- يلاحظ تاريخياً أن معظم الحركات العلمانية ــ ولاسيما منها الاشتراكية واليسارية ــ لم تجد غضاضة في التحالف مع الاستبداد في سبيل قمع التدين وفرض العلمنة على المجتمع ، مع أن هذه الحركات قامت أساساً لتحرير الشعوب من الدكتاتورية كما زعمت ، لكنها في الواقع جاءت بدكتاتوريات أسوأ من سابقاتها ، وقد سار العلمانيون العرب على النهج نفسه فأسسوا أنظمة دكتاتورية طاغية ، وارتمى كثير من مثقفيهم بأحضان هذه الأنظمة ، وراحوا يبررون قمعها وطغيانها وفسادها ، تحت ستار محاربة "الرجعية" واستئصال "الظلامية" ويعنون بذلك الإسلام بصورة خاصة .
5- كل الأنظمة العلمانية العربية رفعت شعارات الحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية ، وادعت أنها تريد رفعة الأمة وتقدمها ، إلا أن ممارسات هذه الأنظمة كشفت زيف كل تلك الشعارات والادعاءات ، فبدلاً من تحقيق رفعة الوطن راحت تروج لإباحة المحرمات ، وإشاعة الفواحش ، وبدلاً من الحرية التي وعدت الشعب بها اضطهدت مختلف القوى السياسية ، وانتهكت كافة الحقوق ، وهذا ما جعل العلمانية مرتبطة في أذهان العرب والمسلمين بالدكتاتورية والفساد والظلم ، وجعلها فكرة مرفوضة جملة وتفصيلاً .
6- يلاحظ أن شريحة واسعة من العلمانيين العرب وبخاصة منهم الزعماء يتمسحون بالعلمانية ليقدموا أنفسهم للغرب ويشتروا صمته على جرائمهم باعتبارهم حراساً لمصالح الغرب في مواجهة الغول الإسلامي الذي يهدد تلك المصالح .. حسب تعبير بعضهم !
7- هناك فرصة كبيرة للعلمانية غير المعادية للدين أن تساهم في الحد من غلو بعض الحركات المتطرفة من الجهتين : الإسلامية التي ترفع راية الثيوقراط الإسلامي ، والعلمانية التي ترفع راية العلمانية المعادية للدين ، وذلك بالتوقف عن معارضة دين الأمة ، والتركيز على المفاهيم العلمانية التي تتلاقى مع الدين ، واتخاذ مواقف ثابتة من الديمقراطية التي تقضي بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع مهما كانت نتائجها مادامت تجري بصورة حرة ونزيهة .
(4) ملاحظات على الحركات الإسلامية :
1. لعل أول إشكاليات الإسلاميين أنهم يرحبون بالعلمانية في غير بلدانهم لأنها تتيح لهم التحرك والدعوة إلى الله بحرية تامة ، بينما يرفض الإسلاميون العلمانية في بلدانهم بحجة أن العلمانية تعارض الإسلام الذي هو دين الغالبية في هذه البلدان ، وهذا الموقف من الإسلاميين ينطوي على تناقض يتطلب الخروج منه بموقف قاطع تجاه العلمانية ، سواء كانت في بلدانهم أم في بلدان أخرى ، ونضرب مثلاً لجلاء هذه الفكرة : فلو أن الهندوس مثلاً الذين يشكلون الأغلبية في الهند طرحوا مشروعاً هناك يدعون فيه إلى "تطبيق الهندوسية" مقابل "تطبيق الشريعة" التي ينادي بها الإسلاميون في بلدانهم ، هل نتوقع قبول الأقلية المسلمة في الهند بهذا الطرح من الهندوس ؟ أعتقد أن الجواب هو : لا ، بكل تأكيد . لأن ذلك سوف يؤثر حتماً على الأوضاع السياسية والاجتماعية للمسلمين في الهند ، وهذا يتطلب من الإسلاميين الذين ينادون بتطبيق الشريعة في البلدان العربية والإسلامية أن يتفهموا تخوف الأقليات في بلدانهم حين ينادون بتطبيق الشريعة .
2. الحركات الإسلامية التي عبرت الربيع العربي ، ووصلت إلى السلطة ، نأمل أن لا تضيع الفرصة التاريخية لتأسيس حالة ديمقراطية حقيقية إذا ما استخدمت الديمقراطية تكتيكاً مرحلياً ، وليس استراتيجية نابعة من قناعة تامة بالحل الديمقراطي ، كما نخشى أن تعمد هذه الحركات إلى تفصيل ديمقراطية مطواعة أو متحكماً فيها فتقع بذلك في تناقض بين خطابها الذي ينادي بالديمقراطية ، وبين ممارساتها التي إن كانت تكتيكية فإنها ستنتهي إلى نظام استبدادي يعيد سيرة الأنظمة البائدة ، ولكن بلباس ديني ، وهذا خطأ تاريخي نربأ بالحركات الإسلامية أن تقع فيه لما ينطوي عليه من إدانة تاريخية لن تحسب ضد هذه الحركات فحسب ، وإنما ستحسب ضد الإسلام نفسه .
3. لقد أسس الإسلام وضعاً سياسياً واجتماعياً مدنياً ، يعترف للناس بحريتهم في اختيار الموقف الذي يريدون دون وصاية ولا إكراه ، وكان هذا واضحاً تماماً في خطاب الأنبياء عليهم السلام لأقوامهم ، فقد أكد القرآن الكريم مراراً وتكراراً أنه ليس للأنبياء أن يفرضوا التدين على المجتمع ، ولا إكراه الناس على الإيمان ( لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي .. وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ..إن عليك إلا البلاغ .. لست عليهم بمسيطر.. إن أنت إلا نذير .. فذكِّر إنما أنت مذكر .. وما أنت عليهم بوكيل ) ومادام الإسلاميون يؤمنون بأن العلماء هم "ورثة الأنبياء" فإن عليهم أن يلتزموا بهذا الخطاب الإلهي الحكيم الذي يبين أن عليهم القيام بواجب الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن ، ثم يتركوا الناس لخياراتهم ، وهذا ما فعله خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو لم يفرض نفسه على القوم ، وإنما هم الذين دعوه بعد أن آمنوا بدعوته ، وهم الذين نصبوه زعيماً عليهم في دولة المدينة المنورة ، ويكفي أن نرجع إلى "الصحيفة" التي أبرمها مع أهل المدينة ــ مسلميهم ومشركيهم واليهود المقيمين فيها ــ لندرك أنه صلى الله عليه وسلم قد دشن بالفعل أول دستور مدني ، لأول دولة مدنية في التاريخ نادت بمفهوم المواطنة ، وحرية الرأي ، وعدم الإكراه .
4. يصر بعض أطياف الحركة الإسلامية على "تطبيق الشريعة" في المجتمع العربي بدعوى أنه يتشكل من أغلبية مسلمة ، لكن مع تسليمنا بأن هذه الدعوة هي دعوة حق فإن على الدعاة أن يصلوا إلى هذا الحق بإقناع الناس ، وليس بفرض هذا الحق عليهم بالقوة ، حتى وإن برر الدعاة عملهم هذا بأنه طاعة لله ورسوله ، فالدعاة إلى الله لن ينجحوا إلا من خلال احترام إرادة الناس ، وإذا رفضهم الناس فلا يعني هذا بالضرورة أنهم يرفضون شريعة الله لكنهم يرفضون أسلوب الإكراه في تطبيق هذه الشريعة .
5. على الإسلاميين أن يدركوا بأن دينهم يدعو لإيجاد بيئة حرة من أجل نشر الدعوة إلى الله ، وترسيخ المفاهيم الإنسانية النبيلة التي جاء بها الإسلام ، وجاءت في الأديان السماوية الأخرى ، ثم يترك الناس لخياراتهم ، وإذا ما جاء نظام يرفض تهيئة هذه البيئة الحرة فعلى الإسلاميين معارضته بالوسائل السلمية الممكنة ، والمطالبة بها حتى تتحقق .
6. المسلمون أصحاب رسالة عالمية تبشر بعصر جديد ، وعهد جديد ، وهذا ما نفهمه من ختم النبوات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، ذلك الحدث الكوني الذي ينبغي الوقوف عنده طويلاً ، وهو أمر لم يتعرض له أحد من الإسلاميين بالصورة التي تتناسب مع حدث بهذا الحجم وبهذه الأهمية ، فإن ختم الرسالات السماوية ظاهرة مفصلية في التاريخ البشري ، وهي تنطوي على أبعاد عالمية نلمس بعضها في قوله تعالى : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ) وقوله : ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) فهذه الإيات وأمثالها كثير في القرآن الكريم تؤكد حق الناس في اختيار العقيدة التي يريدون ، وهذا يتطلب وضع تصور عملي واقعي لتعايش البشر بعضهم مع بعض ، مؤمنهم وكافرهم ومشركهم كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ، ولا جدال بأن هذه النظرة إلى المتجمع البشري التي أكد عليها الخالق عز وجل بختم الرسالات السماوية تشكل قفزة هائلة في تاريخ السياسة والفكر البشري ، ويفخر الإسلام أنه هو الذي أسسها ودشنها ودوَّنها لأول مرة في التاريخ ، وأعتقد أن إدراك المسلمين لهذه الطبيعة في الرسالة الخاتمة يمكن أن يجنبهم ويجنب المجتمع الكثير من التضحيات المجانية .
7. يمجد كثير من الإسلاميين بتجربة "رجب طيب أردوغان" في تركيا ، ويأملون باستنساخها وتقليدها ، على الرغم من دعوة أردوغان إلى الديموقراطية والعلمانية اللتين ينكرهما كثير من الإسلاميين ، وقد صرح أردوغان أكثر من مرة أنه هو شخصياً إنسان مسلم لكنه يحكم دولة علمانية وحكومة علمانية وحزباً علمانياً ، وقال إنه لا يرى تعارضاً في ذلك ، وذكر أيضاً أن العلمانية لا تعني أن يكون الأشخاص علمانيين بصفاتهم الفردية ، بل يمكن أن يكونوا غير علمانيين بصفتهم الفردية ، وضرب مثلاً بنفسه ، وأنه غير علماني بصفته الفردية وإنما بصفته الوظيفية إذ يمارس عملاً علمانياً بوصفه رئيس دولة علمانية ، وهو يرى أن الدولة العلمانية هي الدولة التي تقف من كافة المواطنين عند النقطة نفسها من حيث الحقوق والواجبات ، وهذا ما يقرره الإسلام في نصوصه ومبادئه المختلفة ، وهي لفتة قيمة تستحق أن نتأملها جيداً ، وأن نستفيد منها في فض الاشتباك القائم اليوم بين العلمانيين والإسلاميين الذين يتراشقون الاتهامات في ساحات "الربيع العربي" بدل أن ينشغلوا بالإنجازات على طريقة أردوغان .
(5) ــ توصيات عامة :
1- لقد كان المخلصون الوطنيون من التيارين الإسلامي والعلماني ضحية الاستبداد على مدى نصف قرن أو يزيد ، والعجيب أن بعض هؤلاء وأولئك قد ساندوا الاستبداد بشكل أو بآخر مما أطال في عمر هذا الاستبداد ، وهذا ما يوجب على الطرفين أن يعيدا حساباتهما ومواقفهما لاتخاذ موقف حازم ضد الاستبداد الذي تعرضا بسببه إلى الكثير من العنت والاضطهاد .
2- ينبغي على التيارين العلماني والإسلامي إدراك أن للمجتمعات البشرية قيم ومُثل وطقوس اجتماعية وسلوكية تنمو وتتغير بمرور الزمن ينبغي مراعاتها ، مع احترام ثوابت الأمة ، والطقوس الدينية لمختلف مكونات المجتمع .
3- مازالت الممارسات الماضية لكل من العلمانيين والإسلاميين تلقي بظلالها السوداء على العلاقة بين الطرفين ، وأعتقد أنه آن الأوان لكي يقدم كل منهما مبادرات تعيد الثقة بينهما ، ليتعاونا في ما هو مشترك بينهما ، فنحن اليوم جميعاً في أمس الحاجة لأن يستمع أحدنا للآخر ، مهما كان الرأي المطروح مخالفاً لرأينا ، وأن نتخلق بأدب الحوار القائم على الشفافية والصراحة ، وعدم استخدام العنف أو الإكراه في فرض رأي على رأي آخر .
4- كل الحركات الإيديولوجية التي وصلت إلى الحكم فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق التنمية التي ادعتها ، كما فشلت في القضاء على الإيديولوجيات الأخرى التي وقفت في وجهها ، وهذا ما يوجب على الإسلاميين والعلمانيين جميعاً التسليم بعدم إمكانية إقصاء أحد الطرفين للآخر أو القضاء عليه ، لأن ذلك سوف يزيد مقاومته ومعارضته ، ومن ثم فإن الحل العملي الوحيد للحفاظ على السلم الأهلي بين الطرفين هو عقد توافق بيهما ، تاركين للناس الحكم على من هو الأفضل .
5- على العلمانيين أن يدركوا أن محاولات إقصاء الدين في المجتمعات المتدينة يؤدي إلى المزيد من التشدد الديني ، بل التطرف فيه ، ولهذا نرى أن على العلمانيين التخلي عن نظرتهم التقليدية إلى الحركات الإسلامية على أنها قوى قد تجاوزها الزمن والتاريخ ، والتوقف عن اعتبار هذه القوى "رجعية" جامدة كما توصف عادة في أدبيات العلمانيين ، فقد أثبتت هذه الحركات أنها حركات فاعلة ، ولها حضور واسع وتأييد شعبي كبير ، وقد بدأ معظمها مراجعات فكرية تستحق التقدير والتشجيع ، مما يوجب على العلمانيين مراجعة مواقفهم من هذه الحركات ، والعمل بصدق على مد الجسور معها ، للوصول لا إلى "نقطة وسط" بل إلى "واحة وسط" تتيح للطرفين التعاون والتنسيق لخدمة الأمة ، وتبقي لكل منهما مساحة جيدة للتحرك بحرية ، هذا مع التزام الإسلاميين بأسلوب الدعوة إلى الله بالتي هي أحسن دون تطرف ولا عنف ، والتزام العلمانيين بالمقابل موقفاً محايداً من الدين ، وانصراف الطرفين إلى حل مشكلات المجتمع مستفيدين من مختلف الخبرات المتاحة لدى كل منهما .
6- إن الأنظمة الديكتاتورية التي عانينا منها طويلاً تشكل عقبة رئيسية أمام قيام الدولة الحديثة التي نتطلع إليها ، وأعتقد أن الربيع العربي وما عانيناه على مدى أكثر من نصف قرن على أيدي الدكتاتورية يشكل فرصة تاريخية لكي يتوافق العلمانيون والإسلاميون على الدولة المدنية التي تقوم على أسس الديمقراطية ، وتداول السلطة ، واحترام القانون ، وإلا استمرت الأنظمة المستبدة باستعبادنا جميعاً ، إسلاميين وعلمانيين .
7- إن الوصول إلى الحالة الديمقراطية الكاملة هو عملية سياسية وثقافية معقدة ، وتحتاج إلى زمن طويل قبل أن تبلغ مرحلة النضوج والاستقرار ، وهذا يتطب من التيارات السياسية المختلفة الصبر لفترة من الزمن على ديمقراطية تدريجية ، بدلاً من انقلاب بعضها على بعض بحجة المطالبة بديمقراطية كاملة ، متجاهلين أن بناء نظام ديمقراطي بديل في حال الأزمات ــ كالأزمات التي تمخض عنها الربيع العربي ــ يتطلب توافق القوى السياسية على إدارة المرحلة من خلال ما يعرف بالديمقراطية التوافقية (Consociational Democracy) التي تقوم على أربع ركائز أساسية : تحالف حكومي عريض ، وتمثيل نسبي واسع ، واستقلال مناطقي عبر نظام فيدرالي أو نحوه ، وحق النقض للأقليات في القرارات الإدارية والسياسية الكبيرة التي تتعلق بهم ، فهذا الشكل من الديمقراطية هو الأنسب في أعقاب النزاعات الأهلية المسلحة التي يتعذر تجاوزها دون بناء مؤسسات سياسية توافقية تحول دون العودة إلى النزاع ، علماً بأن هذا الشكل من الديمقراطية معمول به في كثير من بلدان العالم ، حتى بعد استقرارها ، منها : كندا ، هولندا ، سويسرا ، السويد ، بلجيكا ، النمسا ، لبنان ، ونعتقد أن هذا الشكل من الديمقراطية يتماشى مع تعاليم الإسلام الذي يؤسس شرعية الحكم على البيعة الطوعية ، والشورى في الشأن العام ، ومراعاة ما عليه سواد الناس ، ولعل أقرب مثال في تاريخ الإسلام على الديمقراطية التوافقية "صحيفة المدينة" التي توافق عليها المسلمون والمشركون واليهود ، مع احتفاظ كل منهم بنوع من الاستقلالية .
8- نأمل من الحركات الإسلامية في البلدان التي نجحت بإسقاط الاستبداد وفازت بالانتخابات فوزاً كاسحاً ووصلت إلى السلطة أن لا تحسب فوزها تفويضاً مفتوحاً لكي تنفرد بالسلطة ، وإنما عليها أن تدرك أن هذا التأييد الكبير من قبل الجماهير قد أدخلها فعلياً قاعة الامتحان العملي الذي إذا ما فشلت فيه فإنها سوف تدفع ثمناً باهظاً قد لا يتوقف عند فشلها الشخصي بل يمتد بظلاله السوداء على بقية الحركات الإسلامية التي لم تدخل هذا الامتحان بعد .
9- بعد أن شوه الإعلام الغربي والعربي صورة الإسلام السياسي ، وبعد أن ألصق مختلف الصفات السلبية به ، فقد صار لزاماً على الحركات الإسلامية أن تعمل على تصحيح الصورة ، وأن تقدم النموذج الصحيح للإسلام ، وأن تبرهن للعالم عملياً أن الشريعة الإسلامية قد جاءت أصلاً لإقامة العدل ، وإنصاف المظلوم ، واحترام الحقوق ، وتكريم بني البشر ، إلى آخر المنظومة الإسلامية التي تتبناها هذه الحركات وتدعو إلى تطبيقها .
10- المطلوب من الحركات الإسلامية المعتدلة اليوم المزيد من فقه الواقع ، وتنزيل المبادئ بما تقتضيه الظروف ، مع مرونة أكبر في التنزيل ، والتدرج في التطبيق عملاً بطريقة التنزيل الحكيم الذي نزل على مراحل استغرقت زهاء ثلاثة وعشرين عاماً ، وذلك استجابة لواقع الحال ، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يواجهه من مستجدات ، ولعل التحدي الأول الذي تواجهه الحركات الإسلامية اليوم هو وضع نظام حكم يناسب المرحلة في ضوء المبادئ الكلية التي جاء بها الإسلام ، مع ترتيب واع ومدروس للأولويات .
11- يؤخذ على النخب المثقفة في عالمنا العربي عدم القدرة ــ وأكاد أقول عدم الرغبة ــ في الخروج من خنادقهم الإديولوجية للانخراط في هموم الشعب الحقيقية ، ويدان كثير منهم لانعدام حساسيتهم وتقصيرهم بالوقوف في وجه الممارسات المروعة التي ترتكبها الأنظمة المستبدة كما يؤخذ على هذه النخب تكرارها للمواقف "التاريخية" نفسها والخطاب السياسي ذاته للدفاع عن تجاربها الفاشلة ، ولا يبدو ــ حتى اليوم على الأقل ــ أنها تمتلك الجرأة الحقيقية للنقد الذاتي الذي يمكن أن يصحح المسار .
12- من حق الحزب الحاكم أن ينفذ برنامجه السياسي الذي انتخبه الشعب على أساسه ، لكن ليس من حق الحزب الحاكم أن يعيد صياغة الدستور لكي يفصله على مقاس حزبه أو مقاس عقيدته أو إيديولوجيته ، كما عودتنا في الماضي كل الأنظمة التي وصلت إلى السلطة ، فالدساتير لا تكتب من أجل هذا ، وإنما تكتب حفاظاً على الثوابت المتفق عليها من عامة الشعب ، أو على الأقل لضمان حقوق من يكتبها عندما تلجئه الظروف كي ينتقل إلى صفوف المعارضة .
13- من واجب المعنيين بصياغة الدساتير الجديدة بعد ثورات الربيع العربي أن يعملوا على صياغة دساتير تحول دون وقوع الدولة في يد حزب متسلط ، أو طائفة حاقدة ، أو جماعة متطرفة ، دساتير تجعل المواطنين على صعيد واحد ، متساوين في الحقوق والواجبات ، بغض النظر عن الدين أو الجنس أو العرق ، دساتير لا تحارب التدين ، بل تحترم الأديان وتحميها ، دساتير تحترم الهوية الدينية والحضارية والمكونات الثقافية والقومية للأمة .
14- نعتقد أننا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا بحاجة إلى تقليص دور السياسة ، وإفساح المجال أكثر فأكثر للعمل المدني الذي لا يحفل بالإيديولوجيا بمقدار ما يحفل بالإنجازات ، ويمكن أن نختم هنا بمثالين ناصعين لرجلين قدما لشعبهما مثالاً عظيماً في النجاح ، أحدهما إسلامي هو "أردوغان" الذي حكم دولة عريقة بالعلمانية ، لكنه بالرغم من هذا نجح نجاحاً باهراً في إدارة الدولة ، وقدم إنجازات شهد بعظمتها القريب والبعيد ، وأصبحت مثلاً يحتذى لكل المخلصين من أبناء الوطن ، أما الثاني العلماني "مهاتير محمد" الذي حكم دولة مسلمة تعتز اعتزازاً شديداً بإسلامها ، وقد نجح الرجل بإدارة الدولة نجاحاً باهراً ، وأنجز "المعجزة الاقتصادية" التي جعلت ماليزيا في غضون سنوات قليلة دولة متقدمة تصدر الحداثة والمنتجات التكنولوجية إلى العالم ، ولم يجد هذا الرجل الفذ غضاضة ولا تعارضاً مع توجهه العلماني حين بادر للمشاركة بتأسيس "مجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية" عام 1997 ، لما وجد في ذلك من قوة اقتصادية وسياسية لبلده وللدول التي شاركته تأسيس هذه المنظمة .. إن هذين المثالين الناصعين لرجل إسلامي وآخر علماني يقدمان لنا تجربة عملية للحوار الإيجابي البناء الذي يمكن أن نحققه بين الإسلاميين والعلمانيين في وطننا العربي ، لعلنا نخرج من دوامة هذا الصراع الإسلامي العلماني المزمن الذي دفعنا فيه الكثير ، وأعاقنا طويلاً عن اللحاق بمركبة العصر التي حط روادها على سطح القمر بينما أقدامنا ماتزال غارقة في وحل النزاع .
المصادر والمراجع :
(1) George Weigel : Faith, Reason, and the War Against Jihadism: A Call to Action, Doubleday, 2007 .
(2) كارين آرمسترونغ : النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام ، ص 102 ، دار الكلمة ، دمشق 2005 .
(3) عبد الوهاب المسيري : العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ، ط 1 ، ص 15 و 16 ، دار الشروق 2002 .