قدوة القيادة في الإسلام 5
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الخامسة : الدعوة إلى الله
د. فوّاز القاسم / سوريا
الدعوة إلى الله ، هي مهمة الأنبياء والمرسلين الأولى في هذا الوجود.
قال تعالى : (( ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً ، أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت)) النحل (36) .
وقال أيضاً : (( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ، فمن آمن وأصلح ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون )) الأنعام (48).
ولقد كانت الشغل الشاغل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته الشريفة كلها ، كما كانت من أهم أولوياته في مرحلة الاستضعاف المكية التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا البحث .
قال تعالى مخاطباً نبيّه الكريم ، في القرآن المكي :
(( أدع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، وجادلهم بالتي هي أحسن )) النحل (125) . وقال في القرآن المدني :
(( يا أيها النبي ، إنا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً )) . الأحزاب (25)
ولكي نأخذ فكرة كاملة عن هذا الأمر الهام ، أود أن أتحدث عن الدعوة من أركانها الثلاثة :
شخص الداعية . و مادة الدعوة . و المدعوون .
أولاً _ شخص الداعية :
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم داعية من طراز فريد ، لأنه كان يمتلك الخصائص والمواصفات المثالية للداعية الناجح .
ولو قارنا الحصيلة التي خرج بها في دعوته ، مع من سبقه من الأنبياء والمرسلين ، لوجدنا مصداق هذه الحقيقة جلياً .
فلقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن أكثر من مائة وعشرين ألف صحابي ، كانوا يشكلون جيلاً قرآنياً فريداً ، لم يسبق أن تجمع مثله ، وبنفس مواصفاته ، في التاريخ كله.
وأسس أركان دولة عتيدة ، وفتح مكة ، وأخضع الجزيرة العربية كلها لسلطته ، ووصل خبره إلى أقصى أرجاء الأرض .
كل ذلك حصل في أقل من ربع قرن من الزمن .
بينما بقي العبد الصالح نوح عليه السلام ، مثلاً ، حوالي ألف سنة ، إلا خمسين عاماً ، ولم يؤمن معه إلا عدد قليل لا يتجاوز اثني عشر فرداً على الراجح .
ولا يزيد على ثمانين فرداً ، على أكثر الروايات تفاؤلاً .
وهناك من المرسلين من يأتي يوم القيامة وليس معه إلا شخص واحد.! بل هناك من يأتي لوحده فقط .!!
ترى فما هي المقومات التي أدت إلى نجاح هذا الداعية العظيم صلى الله عليه وسلم .!؟
وللإجابة على هذا السؤال الهام ، أود تلخيص أهم ما لفت نظري من مقومات نجاحه في هذه الفترة في أركان ثلاثة :
إيمان ، وأخلاق ، وأسلوب .
1. إيمانه الراسخ بعقيدته ، وإخلاصه التام لدعوته ، وثقته المطلقة بربه :
لكي ينجح الداعية في مهمته الدعوية ، ويكسب قلوب الناس من حوله يجب عليه أولاً أن يكون مؤمناً إيماناً مطلقاً بعقيدته ، ومقتنعاً اقتناعاً تاماً بالدعوة التي يدعو الآخرين إليها . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مؤمناً إيماناً راسخاً بعقيدته ، مخلصاً لدعوته ، مقتنعاً برسالته ، حتى قبل أن يشرّفه الله بالوحي . فلقد كانت سيرته صلى الله عليه وسلم حتى قبل البعثة ، توحي بهذا التهيؤ .
فكان يقترب جداً في صفاء عقله وفكره ، وطيب قلبه ومخبره ، وحسن شمائله وسيرته ، من الحنيفية السمحة ، دين أبيه إبراهيم عليهما السلام.
فهو لم يسجد لصنم في حياته ، ولم يقترف منكراً ، وكان يترفّع على كل ما يقوم به قومه من أعمال تنافي العقل والشرف والمروءة .
ثم جاءت خلوته في غار حراء قبيل مبعثه الشريف ، والتي كان ينقطع فيها عن الناس الليالي ذوات العدد ، يتفكر فيها ، ويتعبد ، ويتحنث ، تتويجاً لذلك كله .
فكانت بمثابة التهيئة العقلية والروحية والشعورية ، لتحمل تبعات هذه العقيدة ، والدعوة المخلصة إليها . ولقد ظهر جلياً من سيرته الشريفة في هذه الفترة ، أنه كان شديد الثقة بربه ، لا يخالطه أدنى شك بأنه ناصره ومؤيده ، حتى في أشد لحظاته ضيقاً وحراجة .
ولقد كانت هذه الثقة تتجلى على أشد ما تكون ، عندما كانت الجاهلية تصعد من وتيرة الأذى والفتنة له ولأصحابه .
فقد روى البخاري في صحيحه عن خباب بن الأرتّ رضي الله عنه قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة ، وقد لقينا من المشركين شدة ، فقلت يا رسول الله : ألا تدعو الله لنا .!؟ فقعد وهو محمر الوجه ، فقال : (( لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ، ما دون عظامه من لحم أو عصب ، ما يصرفه ذلك عن دينه ، وليتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله )).
وأورد ابن هشام في سيرته ، عن ابن اسحق وهو يحكي قصة عودته صلى الله عليه وسلم من رحلته المريرة إلى الطائف ، والتي لقي فيها ما لقي من الألم والمرارة والبلاء .. قال : ثم عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه زيد بن حارثة ، يريد دخول مكة ، فقال له زيد: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وهم أخرجوك .!؟
فقال : (( يا زيد . إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً ، وإن الله ناصر دينه ، ومظهر نبيه )) .
وأورد الدكتور البوطي في سيرته ، وهو يتحدث عن هجرته صلى الله عليه وسلم مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، إلى يثرب ، فقال :
وأما المشركون فقد انطلقوا بعد أن علموا بخروجه صلى الله عليه وسلم ينـتشرون في طريق المدينة ، ويفتشون عنه في كل المظانّ ، حتى وصلوا إلى غار ثور ، وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أقدامهم تخفق من حولهم ، فأخذ الروع أبا بكر، من شدة حرصه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهمس يحدث النبي صلى الله عليه وسلم : لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا .!
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم :
(( يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما )). متفق عليه .
2. أخلاقه المثالية :
لو أردنا ان نستقصي كل الأخلاق والشمائل التي تميز بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لضاقت هذه الدراسة على ذلك ، فقد ألف في ذلك المؤلفون ، الكتب والمجلدات …
ولكننا نحب أن نقف هنا ، على أهم مقومات نجاحه دعوياً ، من أخلاقه الفاضلة ، في فترة الاستضعاف المكية ، لتكون نبراساً لنا في مسيرتنا الدعوية من بعده . ولعلّ أهمّ ما لفت نظري منها :
حب الرسول صلى الله عليه وسلم لقومه ، وحرصه عليهم ، ونصحه لهم ، وصبره على أذاهم .
فمن الأسباب الجوهرية لنجاح الداعية أن يكون من القوم الذين يدعوهم ، لما في ذلك من الانسجام والتوافق الروحي والخُلقي … ولذلك فقد أُرسل كلُّ المرسلين الى أقوامهم . قال تعالى :
(( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم ، فيضلّ الله من يشاء ، ويهدي من يشاء ، وهو العزيز الحكيم )). ابراهيم(4).
ومن يستعرض القرآن الكريم ، ويتتبع قصص الأنبياء فيه ، يجد هذه الحقيقة جلية واضحة ..
*فهذا سيدنا نوح عليه السلام من قومه .
قال تعالى : (( لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه ، فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) الأعراف(59).
*وكذلك هود عليه السلام .
(( وإلى عاد أخاهم هوداً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، أفلا تتقون )) الأعراف(65).
*وصالح عليه السلام .
(( والى ثمود أخاهم صالحاً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره )) الأعراف (74).
*وشعيب عليه السلام .
(( وإلى مدين أخاهم شعيباً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)) الأعراف(85).
* وهكذا بالنسبة لإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، سلام الله عليهم أجمعين.
وعندما كان يحدث أن يهاجر نبي من الأنبياء ، ليدعو قوماً غير قومه، فغالباً ما كانت تتعثر دعوته ، ويعاني الكثير من المشاكل والصعوبات ، كما حصل لسيدنا لوط عليه السلام ، الذي كان يقول لأهل سدوم في مرارة وألم :
(( لو أن لي بكم قوة ، أو آوي إلى ركن شديد )) . هود (80).
ولذلك فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(( ما بعث الله من بعده من نبي إلا في ثروة من قومه )).
أي في منعة منهم .. رواه الإمام أحمد والترمذي
*وكذلك كان محمد صلى الله عليه وسلم عربياً ، أرسل إلى قومه العرب ، وبلغتهم العربية الفصيحة ، قال تعالى : (( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين))الجمعة(2).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شديد الحرص على قومه، ناصحاً مخلصاً لهم ، لم يترك وسيلة من وسائل الدعوة الناجحة إلا استخدمها معهم . وكان يتألم ويتحسر لعدم استجابتهم ، خوفاً عليهم ، وإشفاقاً على مصيرهم . ولطالما أشفق عليه ربه وأنزل عليه قرآناً يخفف من حرقته عليهم ، كما في قوله تعالى :
((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً)).الكهف (6) .
روى ابن هشام عن ابن اسحق قال : اجتمع نفر من كبراء قريش فيهم عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ، أخو بني عبد الدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف أو من اجتمع منهم . قال اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وناصحوه حتى تعذروا فيه . فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك ، فأتهم .
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرعاً ، وهو يظن أنه قد بدا لهم فيما كلمهم فيه قبل ذلك بداء .
وكان حريصاً عليهم ، يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم . حتى جلس إليهم ، فقالوا : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك. وعرضوا عليه ما عاب من آلهتهم ، وسفّه من أحلامهم . كما عرضوا عليه المال والشرف والملك والطب .
فقال لهم بعد ما أنهوا حديثهم: (( ما بي ما تقولون ، وما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكنّ الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلّغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فان تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهـو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله ، حتى يحكم الله بيني وبينكم .)) هشام1(296) .
ولعل أروع مثال على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه، وحرصه عليهم ، ونصحه لهم ، ما كان يبادلهم به من الصبر والعفو والصفح ، بعد كل حملات الأذى والإساءة التي كانوا يوجهونها إليه، والتي بلغت ذروتها في رحلته الشهيرة إلى الطائف. فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحد .!؟ فقال : لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة . إذ عرضتُ نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت . فانطلقت وأنا مهموم على وجهي . فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلّتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال : إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردّوا عليك – وكانوا قد ردوا عليه رداً قبيحاً منكراً – وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت . قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ،وردَّهم عليك، وأنا ملك الجبال ، قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت ، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين .!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( بل أرجو أن يخـرج الله مـن أصلابهم مـن يعبد الله وحـده لا يشرك بــه شيئاً )). بوطي ص139.