آلية فهم السياسة العربية

عثمان أيت مهدي

السياسة في اللغة: هي مصدر ساس يسوس سياسة. تقول: ساس فلان الدابة أو الفرس: إذا قام على أمرها من العَلَف والسقي والترويض والتنظيف وغير ذلك. ولا يستبعد أن يكون هذا المعنى مأخوذا لاستعماله في إدارة حياة الناس الاجتماعية والثقافية، وجاء في القاموس المحيط ومن المجاز: سُسْتُ الرعية سياسة: أمرتهم ونهيتهم.

والسياسة اصطلاحا: هي فن إدارة المجتمعات، أو رعاية شؤون العامة داخليا وخارجيا من طرف الدولة، أو هي فن الممكن، كما يراها البعض. تشترط فيمن يمارسها الثقافة العالية، بعد النظر والدهاء، ويقصد بالدهاء في اللغة: العقل وجودة الرأي. تقول تصرف السياسي بدهاء: أيْ، تصرف بفطنة وحذق. وتقول أيضا: ينبغي لرجل الدَّولة أن يتميّز بالدَّهاء السِّياسيّ، أيْ، يتميز بالفطنة من مغبة السقوط في أفخاخ الخصم المتربص به.  من خلال قول عمر بن الخطاب: "لست خبّا ولا الخبّ يخدعوني" نستشف أنّ الفطنة ضرورية لمن يرغب أن يكون سياسيا محنكا، داهية في حكمه. ونلمس في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمر بن الخطاب: "لم أر عبقريا يفري فريه". أنّ عمر لم يكن فطنا وحسب وإنما كان ذكيا وصاحب حصافة رأيّ، فالداهية يجد الحلول للمسائل العويصة بالكيفية المناسبة وهو بهذا المفهوم سياسي محنك، خطيب مفوه، واسع الاطلاع، له القدرة على التأثير..

إلى جانب هذه الخصائص التي تميّز السياسي عن غيره، استطاعت الكثير من دول أوروبا وأمريكا وشرق أسيا وجنوب إفريقيا أن تضع للسياسة معايير ومقاييس اتفقت حولها، لا يجب تجاوزها، وأنشأت مجتمعا مدنيا قويا يراقب السياسة المتبعة لممثليهم في المؤسسات التشريعية، ومدى تنفيذ برنامجها السياسي من طرف المؤسسة التنفيذية. من المعايير السياسية التي تتحكم في السياسة الغربية عموما:

1.    الصدق مع المواطن، فالكذب قد يسقط حكومة، ويهزم حزبا كبيرا.

2.    الوفاء لمبادئ الحزب الذي اختاره المواطن، فكلّ انتقال أو تغيير لمبادئ السياسي من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين تجاهلا وإعراضا عن انتخاب المواطن، قد يضعف من شخصيته أو من شخصية الحزب، إنْ لم تعصف بهما الرياح معا إلى الهاوية.

3.    الحرية التي تعتبر شرطا أساسيا لكلّ نموّ أو تقدم أو ازدهار لبلد ما.

للنضال السياسي مسار واضح وعمل دؤوب وأهداف واضحة. وما يقال عن السياسة والأحزاب يقال أيضا، عن الجمعيات النقابية والعلمية والاجتماعية وغيرها، المشكّلة للمجتمع المدني. وبهذا يصبح المواطن الأميّ الذي يقبع في أدنى دركات المجتمع بمنأى عن الضحك على الذقون لأنه يستطيع أن يراقب الدولة من خلال وسائل الإعلام التي تتمتع بقدر كاف من الحرية، المجتمع المدني، والمؤسستين التشريعية والتنفيذية.

في الدول العربية لا وجود لمعنى الحريات السياسية إلا في دساتيرها التي تنص صراحة أنها تتبنى النظام الديموقراطي وتحترم الحريات الفردية والجماعية وتعمل من أجل تقوية وحماية المجتمع المدني، ثمّ تتبجح بكلّ هذا حين تريد الضحك على ذقون الشعب الضعيف. يتكالب على ترأس الجمعيات الوطنية، السياسية منها والاجتماعية والثقافية، وتمثيل الشعب في المؤسسات التشريعية، وقيادة الحكومة في المؤسسة التنفيذية كلّ من يجرؤ على الكذب المباشر والتنكر للمبادئ والقيم، والإيمان الراسخ بأنّ وليّ نعمته من وضعه على الكرسي ورضي به عبدا مطيعا.

النظام الذي يرتضي النفاق السياسي وسيلة لتحقيق أهدافه تصبح كلّ المفاهيم والخطب والتصريحات مقلوبة. لفهمها أقلب العبارة رأسا على عقب، فالحرية تعني الاستبداد، والنمو الاقتصادي يعني الانهيار والإفلاس، والانتصار يعني الهزيمة.. من النكت التي تروى أثناء حكم جمال عبد الناصر لمصر، أنّ شخصا كان كثير التنكيت على السياسة المصرية. طلب الرئيس وبشدّة القبض على هذا المنكّت من تحت الأرض أو من فوق السماء، وبعد أيّام قبضوا عليه وساقوه إلى قصر الرئاسة، وأثناء محادثته مع الرئيس يدخل وزير الاقتصاد ليعلن نمو اقتصاد مصر بخمسة في المئة، وفي الحال يقول المنكّت، سيدي الرئيس: هذه النكتة ليست لي. ما يعني أنّ اقتصاد مصر لا يقوى على النهوض بهذه النسبة المبالغ فيها، إن لم يكن حقيقة قد أفلس وانهار.

كان عبد المومن الخليفة الملياردير الصغير محط إعجاب السياسيين الجزائريين، قلّد وسام المستثمر الناجح. في ظرف سنوات قليلة، يتمكن الخليفة من تأسيس شركة للطيران، وبنك، وشركات أخرى للبناء، والسيارات وغيرها. ثمّ سرعان ما اتهم بتبديد أموال الشعب، في حفلات ألف ليلة وليلة، بحضور مشاهير العالم في السينما والرياضة والسياسة وغيرها.. وتمويل الفرق الرياضية الفرنسية والجزائرية. تتساءل وسائل الإعلام الفرنسية عن مصدر هذه الثروة التي تحصل عليها هذا الشاب في وقت وجيز؟ ويتضح بعد ذلك أنّ الإمبراطورية بنيت على أوهام وسراب، كلّ ما في الأمر أنّ بنك الخليفة الذي تحصل على اعتماده بطريقة قانونية لا يخضع لمراقبة البنك المركزي، وأصبحت الأموال تدخل البنك وتخرج منه بشكل مرتاب وغير قانوني، لا سيما بعد أن وعد الشركات والمؤسسات الجزائرية بفوائد خيالية، وتهافت الجميع بما فيهم المواطنون البسطاء للاستفادة من هذه الفوائد، وراح الخليفة يؤسس شركات أخرى ويقيم الحفلات.. ولا تمر أربع سنوات حتى تنهار الإمبراطورية ويفر الخليفة إلى إنكلترا. بعد ذلك يبدأ مسلسل الخليفة يتأرجح بين دور الضحية، ودور المحتال ودور الشريك في الاحتيال. تصمت الدولة الجزائرية، يزداد كلام الشارع، أنّ من وراء الخليفة أباطرة النهب وخفافيش الظلام. تستمر حكاية الخليفة بين أحاديث الناس ومقالات الصحافة وتعليقات بعض المسؤولين والسياسيين إلى أن ظهرت فضائح أكثر وأشدّ، فضيحة الطريق السيار، فضيحة سوناطراك 1 و2، فضيحة سونالغاز، فضيحة ب س ر، وفضائح أخرى، واستشرى الفساد ليصبح العملة الوطنية الرسمية. تقوم إنكلترا بتسليم عبد المومن خليفة للجزائر، وتحاول السلطة الجزائرية اللعب على وتر المحاسبة، لكن هيهات أن تحقق ذلك، لأنّ المواطن سمع ما هو أشدّ وأكبر، وأصبحت قضية الخليفة ذرا للرماد في العيون.

لو كانت السلطة صادقة فيما تفعله، لكان الخليفة قد سلّم للجزائر في أيّامه الأولى، لكن أن يسلم قبيل الانتخابات الرئاسية لسنة 2014م، فهذا يعني أنّ القضية تحولت إلى سياسة وابتزاز، الغرض منها ضرب الخصوم السياسيين لا غير. بين سياسة إنكلترا وسياسة الجزائر بون شاسع يتسع لما بين الصدق والكذب من هوّة وعمق. يرى بعض المحللين السياسيين أنّ تسليم الخليفة للجزائر لا يعدو أن يكون هدية مسمومة للجزائر في نهاية سنة 2013، أو على درجة أقل صفقة تمّت في الخفاء لصالح إنكلترا. أمّا الجزائر فتضاربت التحليلات بين رغبة الرئيس في ضرب خصومه، وبين الصفقة التي تمت من تحت الطاولة، وبين توجيه الأنظار لقضية الخليفة لإخفاء قضايا فساد تعدّ بالملايير، وكلّ هذه التحليلات ليست في صالح الجزائر. 

هزائم العرب مع إسرائيل، أطلق عليها المقاومة، الممانعة، الانتكاسة، والمستبدون العرب بعضهم أطلق على نفسه صاحب الفخامة، والآخر أمير المؤمنين، والثالث خادم الحرمين، والرابع القائد العظيم، والخامس صاحب السمو والمعالي والسادس حامي العروبة أو حامل لواء العروبة، والقائمة طويلة، وفي أوطانهم مظالم وفقر وجهل، وفي أراضيهم بترول وغاز وذهب. ليس صعبا أن تفهم سياسة المنافق، لأن من آياته الكذب والخيانة والإنكار، والمنافقون أشدّ عداوة على المؤمنين من الكفار. استمعت لأكثر من خطاب وحوار مع رئيس عربي، السمات التي تجمع بينها الإطناب، ضعف اللغة، الأخطاء النحوية، والكذب. شتم إسرائيل تعني توطيد العلاقات في الخفاء معها، طاب جنانو تعني البقاء في الكرسي، يا نشء أنت رجاؤنا تعني يا شيوخ أنتم رجاء الأمة. أنت لستَ بحاجة إلى محلل سياسي لفهم خطاب رئيس عربي، أقلبْ الخطاب لتصل إلى معانيه. ولستَ بحاجة إلى قاموس سياسي لتفسير المصطلحات لأنّ كلّ رئيس عربي يتكلم بلغة أمّه.

استبشر العالم العربي خيرا بانتخاب أوّل رئيس عربي في مصر بكل حرية وشفافية، واستشريت غضبا من هذا الرئيس الذي انتخبه الشعب على طريقة الكفار، أيعقل أن ننتخب رئيسا مستبدا عميلا للخارج؟ نحن في حاجة لرئيس تختاره المؤسسة العسكرية على مقاسها ونقوم نحن بتزكيته ليصبح رئيسا شرعيا محبوبا عند الجماهير عطوفا على الطبقات الفقيرة مدافعا على المظلوم رافعا راية البلد عالية خفّاقة.