الذنوب السياسية !! ..
(1) ذنوب خفية
كما هي ذنوب المعاصي توصل الى المهالك وخسران الدنيا والاخرة ,فان ذنوب السياسة توصل الى الفشل وتنزل العقوبات وتكاثر الازمات.
أخطر ما في الذنوب: الخفي منها, التي لا يشعر بها الانسان /الجماعة ,أو يعتقد انها ليست ذنوبا ,لانها تزين له بالمظهر الحسن الذي يقنع صاحبها أنه على حق , لذا فانه لا يحدث نفسه بالتوبة والتخلص منها , بل يتساهل ويتساوق معها مما يقوده إلى انتكاسة وخذلان .
إن الذنوب السياسية ترتكب إما جهلا وإما جحودا .
إن من أخطر المصائد التي تقع بها الجماعات , أنه مع طول الأمد, تتولد لديهم القناعة الذاتية بصحة مسارها دون امتلاك المعايير المهنية والعلمية للحكم على الصحة والخطأ , لذا فإن الله حذر من هذا الخطر الداهم المدمر للأعمال والانجازات بقوله ( قل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ,الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)
(2) تجارب فشل
إن كثيرا من الحركات العقائدية التي مرت بالتاريخ الاسلامي واتسمت بالتدين والتشدد لصالح النصوص خسرت كل شيء بسبب جهلها /ذنوبها السياسية ,لذا نزل بها من العقوبات ما دثر ذكرها وقصر بها عن بلوغ اهدافها .
كان سيدنا عمر يقول :(ان الرجل ليبلغ من العمر ستين عاما وما تقبل له صلاة),
لأنه لم يتم أحكامها وأركانها, فما بالك بالسياسة ,التي هي أعظم وجوبا, لأنها تقوم على مصالح العباد وحفظ أمنهم وحياتهم ؟
إن التقوى والإيمان لا تكفي إذا لم تقترن بحسن الكياسة والسياسة , فأبو ذر لم يشفع له قوة إيمانه وزهده أن يقال له في السياسة وإدارة الشأن العام " إنك رجل ضعيف "!!
الاخلاق الفردية لا تغني عن المهارات والكفاءات السياسية للجماعة , فالله يحاسب الفرد بأعماله , لكنه يحاسب الجماعات على سياساتها وقدرتها على إدارة الشأن العام وتحقيقها لمصالح العباد , لذا كان حديث الرسول (ص) المأثور عنه (من ولي من امر المسلمين شيئا ثم لم يجهد لهم الا لم يدخل معهم الجنة).
إن الخوارج كان يقال لهم القراء ,وكان مشهودا لهم بالعبادة وشدة المراس في القتال, لكن "عقلهم السياسي " كان صغيرا , لدرجة إنه جرهم من مربع نصرة أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) إلى تكفيره والخروج عليه ثم استحلال قتله .
ثم خطت (القاعدة) على ذات النهج وارتكبت الكثير من الكبائر السياسية التي أغرتها ان تخوض في الدم والتفجيرات وارسال "الاستشهاديين " ظانة بذلك أنها تنصر الله ورسوله !!
ثم تجربة طالبان التي سعت لإعادة إنتاج نهج الخلافة الراشدة، فخرجت بشكل مشوه عمق الخلافات والتخلف في المجتمع الافغاني .
وعلى أثرهم سارت "داعش " التي جندت الآلاف من الشباب وصرفت مليارات الدولارات واستهلكت مخازن ضخمة من الاسلحة وهي تقنع نفسها أنها تنصر الاسلام وتقيم الخلافة فيما هي تتلبس بالجهل الأعمى الذي يقنعها باحياء الجزية وبيع النساء كسبايا !!.
لقد عاقبهم الله –وغيرهم-على ذنوبهم /فشلهم في التعاطي مع القضايا السياسية , وما أهون على الله أن يستبدلهم !!
(3) عقلية الدولة وعقلية الحزب
إن الذنوب السياسية ليست كذنوب المعاصي , تعرف بالنصوص الصريحة أو الاحاديث الصحيحة , بل تعرف بالمفاهيم والمقاصد والمصالح ودرء المفاسد ,لذا فان احتمال السقوط في هذا الامتحان كبير, إلا لمن يملكون بصيرة ثاقبة وعقلا متفتحا.
إذا كان الشرك بالله هو الذنب الأعظم , فان الجهل بالسياسة وأصولها وفن التعاطي معها واستجلاب المصالح,ودرء المفاسد أم الكبائر
,يعاقب عليها الله بابعاد فرص النصر والتمكين والانشغال بالذات واختلال الاولويات وتباعد الاهداف.
إن بعض الحركات الاسلامية سجلت نجاحا كبيرا في العمل الدعوي والخيري والجهادي لكنها حين تصل إلى مربع السياسة/الحكم فإنها تواجه عنتا وربما فشلا ,بسبب افتقادها للمهارات السياسية وتقدير المصالح والتوازن بين المراحل والقدرة على تجاوز العقبات بحكمة.
إن عقلية الدولة تختلف اختلافا كليا عن عقلية الحزب , فالسياسة لها افاقها الارحب وتوازناتها الدقيقة وحساباتها المختلفة,لكن هناك من يظل محكوما/مسجونا بعقلية الحزب ويعالج القضايا والمتغيرات بناء عليها ومنطلقا منها ,
وبالتالي فان حساباته يجانبها الصواب ,ومن ثم يقع في المطبات والازمات . وتأتي الخطورة في تبرير هذه المطبات والازمات ,إما بأنه (ابتلاء) يجب الصبر عليه ,وإما (مؤامرة) تقعده عن العمل لمواجهتها , وكلاهما تفسير مغلوط ومشوه يقود إلى التيه وفقدان الاتجاه .
(4) من عند أنفسكم !
إن القاعدة المحكمة في الاسلام التي لا تقبل الشك ولا التأويل هي :( قل هو من عندأنفسكم)
و(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
,أي أنه في كل نازلة أو مصيبة (ابدأوا بأنفسكم ), ولا تعفوها من الخطأ والتقصير ..لا تهربوا منها إلى الغيبيات أو التبريرات ,..لا تلقوا دائما تبعة فشلكم على غيركم , لان الله أعدل من أن يحرم أهل الحق من بلوغ غاياتهم , وأعدل من أن يسلط عليهم أهل الباطل إذا كانوا على الجادة
,لأنه مناف لسننه وأحكامه.
للأسف, مع غياب المراجعات الذاتية وتحريم ثقافة النقد فان بعضا من الحركات والأحزاب الاسلامية راكمت الكثير من الذنوب السياسية لدرجة أنها استفحلت وحجبت عنها الرؤية البعيدة والشمولية, حتى رسخت أشكالها في الواقع رسوخا حوّلها من رتبة " الصواب " إلى رتبة " الحق. ".
إن غياب ثقافة (نحن أخطأنا) –او ما يسميها العلماء "نسيان الذنوب ", ظاهرة مدمرة ومهلكة ,تؤدي الى القداسة وتضخيم الذات والتغاضي عن الاخطاء وتبرير القصور عن بلوغ الاهداف ,بل وتستجلب العقوبات والازمات,
وهو ما شدد الاسلام على محاربته حينما ذكر في أكثر من موضع بضرورة المحاسبة: (ربنا ظلمنا أنفسنا ) (الكيس من دان نفسه )
وفي سرده للانتقادات القوية للصحابة, على فضلهم وشجاعتهم ,(ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ..منكم من يريد الدنيا ..إذ تلقونه بالسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم ..ولولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) , وذلك من اجل ان يفتح عقولهم وعيونهم على تجنب الأخطاء وتفادي المنزلقات ,
لذا فانهم نجحوا خلال عشر سنوات في بسط الاسلام في الجزيرة العربية وهدم الامبراطوريتين الرومية والفارسية وامتدت حدودهم إلى مصر وبلاد المغرب العربي , فيما هنالك حركات وجماعات تجاوزت السبعين عاما وتصر على أنها لا زالت في مرحلة البناء والإعداد !!
إن من أعظم الذنوب/الكبائر السياسية التي ارتكبتها الحركات والجماعات فقدان الرؤية الاستراتيجية والجهل بإدارة الحكم والاستعداد له وتقدير تبعاته , وضعف الكوادر المؤهلة, والفشل في استقطاب الاخرين , والبقاء رهائن في دائرة عقلية الحزب ,وعدم استيعاب التنوع والتعدد في المجتمع ,والقدرة على قراءة المتغيرات السياسية بعين بصيرة وعقل منفتح .
هذه كلها قادت الى تخبط وارباك في ادارة الشأن العام والانزلاق الى صراعات داخلية وقضايا هامشية, أبعدتها عن غاياتها الكبرى .
والغريب أنك تجد دائما لكل خطأ تبرير ولكل قصور تفسير !!
إن وجود العقبات والتحديات والخصوم والمؤامرات في مسيرة الجماعات –وقبلهم الانبياء والرسل- أمر طبيعي (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) , لكن يكون التحدي في قدرة هذه الجماعات على معالجة هذه العقبات بحكمة ودراية ,وليس استخدامها شماعة لتبرير الفشل أو القصور .
إن المعيار الوحيد لنجاح وتمكن الجماعات هو (النتائج ) ,أي تحقيق اهدافها وايصال الناس الى مفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية ,وليس بكثرة الاعداد والاعمال ,ولا حتى بكثرة التضحيات !!
(5) نماذج مضيئة
إن تجربة بعض الاحزاب ذات الخلفية الاسلامية نجحت في كسر القوالب التقليدية ,ورسخت نماذج باهرة في معالجة قضايا السياسة بحكمة وحرفية عالية ,والخروج عن قيود التنظيم ,وتجنبت الوقوع في الصدامات والاستنزافات الداخلية حينما غلبت ثقافة الوطن على ثقافة الحزب .
أعجبني في الشيخ راشد الغنوشي أنه ارتضى نهج تغليب الشرعية التوافقية على الشرعية الانتخابية رغم أنه حاز على الأغلبية تقديراً؛، وقال مقولته الشهيرة (إن خسرت النهضة بعض مواقعها فقد كسب الوطن، وأن تربح الوطن أعظم من أن تخسر الحركة).
وتجربة العدالة والتنمية التركي نجحت في رسم الصورة الباهرة لفن إدارة السياسة وقوة الاقتصاد وتصفير المشكلات , كذا تجربة الاسلاميين المغاربة التي ضربت مثلا في خلق توازنات دقيقة مع النظام الملكي وقوى المجتمع بمختلف مشاربه السياسية .
خالد مشعل يقول (نحن في حماس خضنا تجربة الحكم ونتعلّم منها وقد أخطأنا في أشياء ونتعلّم من ذلك"
وقال: "على الإسلاميين أن يعترفوا أنّ الحكم أعقد ممّا كانوا يتصوّرون وهذا ينطبق علينا في حماس".
إن التحدي الأكبر أمام الاسلاميين-وغيرهم- هو معالجة شئون السياسة أو الحكم من مختلف جوانبه .
ليس مطلوبا من الإسلاميين أن يخرجوا من جلدهم الأيديولوجي حتى يصبحوا أسوياء بنظر الآخرين لكن مطلوب أن يقدموا أجوبة شافية وحلولا عملية تقنع الاخرين بصحة خياراتهم وبدائلهم.. يجب إثبات قدرتهم على التحول من مربع المعارضة إلى مربع الحكم..من إدارة شئون التنظيم إلى إدارة شئون الجمهور ..من الانغلاق التنظيمي إلى الانفتاح الوطني والدولي.
في ظل التعقيدات العصرية , فإن الحاجة ملحة إلى (التوبة) من الذنوب السياسية والتخلص منها واستبدالها بأعمال سياسية صالحة ....
إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير !!.
وسوم: العدد 924