كلمة في الخلاف والاختلاف
خلق الله الكون والإنسان، وجعل الاختلاف فيهما سمة بارزة. نصَّ على ذلك كتاب الله تعالى:
(وَمِن آياته خلقُ السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم. إنّ في ذلك لآيات للعالِمين). {سورة الروم: 22}.
(ألم تَرَ أنّ اللهَ أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمراتٍ مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جُدَدٌ بيض وحُمر مختلف ألوانها وغرابيب سود. ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى الله من عباده العلماءُ). {سورة فاطر: 27}.
ومما يتّصل بموضوعنا بشكل مباشر هو اختلاف رؤى الناس وقناعاتهم وأهوائهم وميولهم ومعارفهم وثقافاتهم ودرجات إدراكهم وذكائهم. وهذا الاختلاف لا يهمله الشرع، بل يُقرُّه ويوجّهه ويضبطه.
فعندما جاء مشركو مكة لغزو المدينة المنورة استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم أصحابه، فكانوا على رأيين مختلفين، ولكن بعد أن حسم الأمر وقرّر ملاقاة المشركين خارج المدينة لم يعد مقبولاً أن يعمل أصحاب الرأي الآخر برأيهم، فاستجاب القوم سوى رأس المنافقين ومن انخدع به.
إنه حين يكون أمر الله تعالى، أو أمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم واضحاً، فليس لمسلم أن يقدم رأيه على أمر الله ورسوله: (وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرِهم). {سورة الأحزاب: 36}.
ولذلك حذّر الله تعالى المؤمنين من أن يختلفوا في أصل الدين وثوابته الواضحات: (ولا تكونوا كالذين تفرّقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات. وأولئك لهم عذاب عظيم). {سورة آل عمران: 105}.
أما في الفروع فقد اقتضت حكمة الله ورحمته أن يكون في الأمر سَعَة، وأن ينشأ عن ذلك اختلاف، لكن هذا الاختلاف لا يجوز أن يكون سبباً في النزاع والتفرّق. وقد حدث مثل هذا الاختلاف أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم فأقرّه. ففي صحيح البخاري أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: "ألا لا يُصَلّينّ أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدركهم العصر في الطريق فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيهم، وقال بعضهم: بل نصلّي، لم يُرِدْ منا ذلك. فذُكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فلم يُعنّف واحداً منهم.
وهو درس بالغ في استيعاب الاختلاف من غير نزاع وشقاق. وهذا المعنى هو الذي فهمه سيد التابعين عمر بن عبد العزيز حين قال: "ما أُحِبُّ أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يختلفوا".
وحين أراد أبو جعفر المنصور أن يعمّم كتاب "المُوطّأ" للإمام مالك، على الأقطار، ويُلزمهم بالأخذ بما فيه، قال الإمام مالك: "لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم توزّعوا في الأمصار، وعند كل قوم علم. فإذا حَمَلْتَهم على رأي واحد تكون فتنة".
وقد دلّت النصوص على ضوابط وتوجيهات في شأن الخلاف:
- فعندما تكون المسألة بينك وبين الله، وكان فيها خلاف بين الفقهاء، فالأَولى أن تأخذ بالأحوط، ولا عليك إذا أخذت بالرأي الآخر، لا سيّما إذا اقتنعت بدليله أو كان الرأي الأول يسبّب لك حَرَجاً.
- وعندما تكون المسألة تعاملاً بينك وبين أخيك، فالأَولى أن تتحلّى بالمسامحة والغفران. قال تعالى: (ولْيعفُوا ولْيصفحُوا. ألا تُحبّون أن يغفرَ اللهُ لكم؟). {سورة النور: 22}. والنبي الأكرم صلّى الله عليه وسلّم يقول، فيما رواه البخاري: "رحمَ اللهُ رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى".
فإذا اشتدّ الأمر ولم تجد مكاناً للمسامحة فلا بدّ من الاحتكام إلى القاضي المسلم والإذعان لِحُكمه. ويُحسَم الخلاف.
وعندما تكون المسألة تهمّ الأمّة فسبيل حسم الاختلاف بين الآراء هو الشورى، فالإسلام يقرّ بوجود الاختلاف في وجهات نظر الناس، ويوجّههم للتعامل الإيجابي معه: (وأمرُهم شورى بينهم). {سورة الشورى: 38}.
- وفي العلاقات الاجتماعية والدعوية فالتحلّي بالخُلق الحسن، واختيار الكلمة الطيبة، وإخلاص النيّة، وتحرّي الحق والصواب، وليس التعصّب للرأي والانتصار للنفس... هذه الأمور هي التي عساها تزيل الخلاف. يقول تعالى:
(وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن. إن الشيطان ينزغ بينهم). {سورة الإسراء: 53}.
(ادعُ إلى سبيل ربّك بالحكمةِ والموعظة الحسنة. وجادلهم بالتي هي أحسن). {سورة النحل: 125}.
(ولو كنتَ فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك. فاعفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر). {سورة آل عمران: 159}.
- وفي الأمور القطعية، كأصول العقائد وأصول الفرائض والمحرّمات... لا يجوز أن يحدث خلاف بين المؤمنين، وأما غير المؤمن فهو الذي يماري في الحق. وعندئذ يختار المؤمن الأسلوب الأجمل في دعوته إلى الحق: (فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكر أو يخشى). {سورة طه: 44}. والقول الليّن لا يتضمن تنازلاً عن الحق، ولا عن بعض الحق.
- أما في الأمور الاجتهادية، وما أكثرها، فلا يجوز أن تبلغ الحماسة في قلب المسلم أن يتعصّب لأحد الآراء، ويسفّه الرأي الآخر ويتهجّم عليه ويغمز بأصحابه ويُسيء الظن بهم... بل أقصى ما يجوز له هو أن يأخذ بالرأي الذي يرتاح إليه، لاقتناعه بدليله، أو لثقته بالمجتهد الذي قال به.
ومن المؤسف أن تحتدم المعارك الكلامية بين بعض المسلمين في شأن صدقة الفطر: هل يجب أن تكون طعاماً، أم الأفضل دفع قيمتها نقداً؟ وفي شأن الاحتفال بالمولد النبوي، وفي إحياء ليلة النصف من شعبان... هل هي أمور مشروعة؟..
هذه الأمور وأمثالها لا يجوز أن تكون سبباً في إثارة الشحناء بين المسلمين، فهي أمور خلافية، وستبقى كذلك، ويستطيع كل فريق أن يأتي بأدلة قوية أو ضعيفة لينصر رأيه.
إنّ جمع القلوب مقدّم على الانتصار لرأي من الآراء الخلافية، وإن إبليس وجنوده يريدون أن يُقْصوا شريعة الله عن حياة المسلمين، وهم يضحكون ساخرين من المسلمين الذين يتخاصمون في آرائهم هذه. أما سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيقول: "أنا زعيم ببيتٍ في ربض الجنّة لِمَن ترك المِراء وإن كان مُحقّاً". حديث صحيح، رواه أبو داود.
وسوم: العدد 925