صناعة الإرهاب ومحاربته/ جماعة فتح الإسلام نموذجاً
صناعة الإرهاب ومحاربته
جماعة فتح الإسلام نموذجاً
بدر الدين حسن قربي /سوريا
أدخلت تفجيرات برجي مانهاتن الأمريكيين في أيلول 2001 مصطلحَ الحرب على الإرهاب وملاحقته في سوق السياسة الدولية للمرة الأولى، وجاءت الغارات الأمريكية على أفغانستان بمثابة عملٍ استباقي وتطبيقٍ عملي للمصطلح المزعوم. وهي مسألة سرعان ماالتقطها النظام الأسدي الإرهابي بحسه الاستخباراتي خشية أن تدور عليه الدائرة، للإفادة منها بتقديم نفسه محارباً عتيداً للإرهاب بما يضمن وجوده في السوق واستمراره في السلطة، مقدِّماً نفسه كأحد قدامى محاربيه معتمداً على ماقتله في ثمانينات القرن الماضي من عشرات الآلاف من مواطنيه باعتباره إرهاباً وليس حراكاً شعبياً ضد قمعه واستبداده وبطشه، وعارضاً خدماته على الأمريكيين بالتعاون الأمني الكامل معهم لهذا الغرض، وهو تعاون استمرّ حتى تموز/يوليو 2005 فيما أشار إليه فيما بعد عبد الحليم خدّام النائب السابق للرئيس السوري في إحدى مقابلاته.
جاء العمل الإرهابي في قتل رئيس الوزراء رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005 واتهام النظام الأسدي وحلفائه به سبباً رئيساً لرحيله من لبنان في ابريل من نفس العام، حيث دفع به غضباً أمريكياً، زاد في تخفيفه أو تهدئته أيضاً وعوده بالقبض على عناصر القاعدة من العائدين لسورية أو من العابرين بها إلى العراق المحتل.
ومابين دعم المقاومة للاحتلال الأمريكي، بعبور القادمين من خارج سوريا، وإرسالهم مع الشباب السوري المتحمس للجهاد، واعتماد طرق مختلفة في تجهيزهم ومساعدتهم وتسفيرهم بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق وكلائه ومعتمديه من مثل مانشأ في تلك الفترة باسم لجان نصرة العراق وغيرهم من مثل الشيخ أبوالقعقاع وأشباهه، الذي اشتهر في مدينة حلب شيخاً سلطوياً ناراً على علم أطلق على جماعته الجهادية اسم غرباء الشام، يحث فيها الشباب على جهاد الأمريكان في العراق ويجنّدهم للسفر لمحاربتها، فقد أنجز النظام الأسدي طريقة مزدوجة خبيثة نجح فيها صانعاً للإرهاب ومحارباً له في آن واحد. فهو يستنفذ جهود شبابٍ يتطلعون إلى الجهاد فيجاهد بهم ويتخلص منهم هناك، بل وقبل ذهابهم أحياناً، ومن رجع منهم فإلى سجونه باعتبارهم إرهابيين تم القبض عليهم. فهو بالذاهبين يدعم المقاومة ويقاتل الأمريكان ويزيد في مستنقعهم من دون أن يُرَى، فيصنع بذلك إرهاباً في الاعتبار الأمريكي، ومن رجع منهم فإلى السجون، وهو بما يفعل يحارب إرهاباً شهوده في سجونه، يرفع بهم أسهم دعمه ويزيد به ثقة متروسي الحرب العالمية على الإرهاب به، وقصص الشباب السوريين ووقائعهم على هذه المسألة أكثر من أن تحصى.
تطورت صناعة الإرهاب ومحاربته لدى النظام الأسدي من شكلها البسيط المشار إليه إلى شكل آخر أكثر تعقيداً وخبثاً، وصل حدّ تشكيل منظمات له ومجموعات بأسماء ومسميّات وملثّمين وعمليات وبيانات وتهديدات تبدو معقدة وبعيدة عنه لحرفيتها العالية، ولكن ليس صعباً بالمتابعة والبحبشة والضبط والمقارنة والتحليل أن نصل إلى أن صناعة هذا الإرهاب الخبيث تتم في أجهزة استخباراته وفي أقبية أقذر رجالات أمنه ممن لايرعون ضميراً ولا خلقاً ولا إنسانية في مواطنيهم فضلاً عن غيرهم. نستدعي هنا جماعة فتح الإسلام نموذجاً لهذه الصناعة الخبيثة القاتلة.
لقد أشار الكثير من اللبنانيين وفي مقدمتهم قوى 14 آذار وتيار المستقبل ضمناً، ومعركتهم جيشاً وشعباً مشتعلة في مخيم نهر البارد مع مجموعة فتح الإسلام إلى أنها صناعة سورية بامتياز.
دفع النظام الأسدي لرد هذه الفرية أن جماعة فتح الإسلام صناعة فلسطينية فتحاوية انتفاضية، أي أنها من صنع فتح الانتفاضة، وأنه لاعلاقة له بذلك البتة وإن كانت مقيمة على أرضه. وتأكيداً على براءة ذمته المعروفة تمّ اعتقال أبوخالد العملة مسؤول فتح الانتفاضة لفترة بسيطة على ماقيل حينها للتحقيق معه على أفعالٍ وترتيبات أمضاها دون علم الأجهزة الأمنية السورية حسب زعمهم مع شاكر العبسي.
ولمن لايعلم، فإن فتح الانتفاضة هي منظمة منشقة عن منظمة فتح/ياسر عرفات بجهود النظام السوري ودفعٍ منه بقيادة العقيد أبو موسى. ولمن لايعلم أيضاً، فإن شـاكر العبسي المؤسس المزعوم لجماعة فتح الإسلام محكوم بالإعدام غيابياً لدى محكمة أمن الدولة الأردنية لإدانته في الاشتراك في اغتيال الدبلوماسي الأميركي لورنس فولي في عمان في خريف العام 2002 ، وهي نفس القضية التي حكم فيها بالإعدام على أبومصعب الزرقاوي القاعدي أيضاً. هرب إلى سورية وقُبض عليه فيها في تشرين الثاني/نوفمبر من العام نفسه، لتستضيفه المخابرات السورية في زنازينها وسجونها بتهمة الانتماء لجماعة القاعدة، نفاها العبسي نفسه فيما بعد، مدعياً أن تهمته كانت محاولة تنفيذ عملية في الجولان، وحُكِم فيها بتهمة حيازة السلاح ونقله الى فلسطين، ولكنه أُخرج بقدرة قادر من قيعان السجن في حزيران/ يونيو 2005 على غير عادة المخابرات السورية مع ضيوفهم أي بعد سنتين ونصف فقط من سجنه، وبعد شهرين من خروج القوات السورية من لبنان (26 نيسان 2005 ) رغم كبير تهمته عند الجهات الأمنية السورية وعند الأمريكيين. سُفّر العبسي إلى لبنان عقب خروجه، وظهر هناك كأحد المسؤولين القياديين في فتح الانتفاضة في العديد من مواقعها بالقرب من الحدود السورية. ولم يلبث فيها غير قليل، حتى أعلن هذا العبسي مع قرابة مئتين من عناصره في 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2006 خروجهم على فتح الانتفاضة وانشقاقه عنها وإعلان سيطرته على مواقعها والعتاد الذي فيها، وإطلاق اسم فتح الإسلام عليها، ثم الإعلان لاحقاً عن انتقالها وعتادها إلى مخيم نهر البارد. وهكذا ظُهّرت المجموعة المنشقة وكأنها خروج عن فتح الانتفاضة ونَبْت إسلامي منها يؤكد رفضاً ومواجهةً لعصر (الأمركة) وسياسته في لبنان. ثم لم تمضِ عشرة أيام (8 كانول الأول/ ديسمبر) على هذه التمثيلية حتى أعلنت السلطات السورية عن اعتقالها لأبي خالد العملة لأسباب ذكرناها سابقاً، أهمها ظهورها بأن لاعلاقة لها البتة بهذه الجماعة المنشقة.
ثم وفي 13 شباط/ فبراير 2007 أي بعد شهرين تقريباً من إشهار فتح الإسلام تمّ تفجير حافلتي ركاب في منطقة عين علق. وبعد شهر لاحق أعلنت السلطات اللبنانية رسمياً عن اتهام فتح الإسلام ووقوفها خلف التفجير وأن الاستخبارات السورية هي من يرعى هذا التنظيم. أعقب ذلك قيام بعض عناصر التنظيم باعتداءات على قوى الأمن اللبناني واحتجازهم ومصادرة أسلحتهم، وقيامهم بعمليات سطو مسلح مما دفع بالسلطات الأمنية اللبنانية إلى إجراء مداهمات لأماكن مشتبهة لوجود عناصر هذا التنظيم، والذي ردّ بدوره ضد الجيش اللبناني باعتداءات وحشية أوقعت الكثير من الضحايا، مما أشعل مواجهة مشهودة في منطقة مخيم نهر البارد ومحيطه ابتدأت بتاريخ (20 أيار/مايو 2007 ) أي بعد قرابة مئة يوم من تفجيرات عين علق، بين جيش خاض فيها حرباً ضروساً مع مجموعة جاهزةٍ ومجهزةٍ عُدَداً وعتاداً ومتهمةٍ بالإرهاب فضلاً عن أعمال القتل والسرقة، بهدف تسليم المتهمين أنفسهم إلى السلطات الرسمية أو استسلامهم. وكانت معارك طاحنة خاضها الجيش مع منظمة لم يمض على إعلان تأسيسها وتشكيلها قرابة ستة أشهر، أظهرت فيها بأساً شديداً وامتلاكاً لكميات هائلةٍ مخيفةٍ ومريعة من أسلحة وذخائر وصواريخ لم يُسمع عن مصدرها ولاطريق وصولها، مكّنتها بقيادة شاكر بني عبس من مواجهة جيشٍ بحاله قرابة مئة يوم أو يزيد، قاتلوا فيها قتالاً شرساً تسبب بمقتل المئات من الضحايا والدمار لآلاف البيوت والعمارات، ومثلهم تشريداً لعشرات الآلاف من سكان المخيم، وسجلوا خلالها صموداً مشهوداً ومقاومة عنيدة وضعوا فيها لبنان على صفيح ساخن، وشغلوا قلوب أحبائه في وقتٍ أثلجوا فيه قلوب قوم آخرين ممن رسموا وخططوا وموّلوا وموّنوا وهدّدوا وسلّحوا وعلّقوا عليهم آمالاً في تخريب وتدمير لبنان على أهله وناسه، ولكن الله أحبط كيدهم بهرب الفتى العبسي مع بعض ناسه واختفائهم، بعد أقل من ستة أشهر على تاريخ التأسيس، وبعد أقل من عامين على إخراج المحارب العبْسي من سجنه السوري.
يسجل للنظام الأسدي خلال معارك المئة يوم، أنه لم يتوقف عن إبداء قلقه اليومي وحزنه وأسفه لما يحصل في مخيم نهر البارد من ضربٍ لمنظمة مقاومة وممانعة. ومثله فعلت المعارضة اللبنانية الشيعية على لسان حسن نصر الله التي اعتبرت في حينها أن مواجهة الجيش اللبناني لهذه الجماعة ودخول المخيم خط أحمر، فهدّدت وتوعدت وحذّرت من تجاوزه، ولكن جاء موقف الجبهة الشعبية- القيادة العامة على لسان أحمد جبريل بأن جماعة فتح الإسلام أنشأها وأنفق عليها الحريري، ويوم انقطعت عنها المعونات والرواتب بدأت بممارسة أعمال السطو على بنوكٍ كانت تقبض منها مرتباتها فضلاً عن جرائم القتل، وكذلك تصريح الجنرال عون بأن هذه جماعة إرهابية وعلى الجيش استئصالها. وعليه فقد بدت مواقف الجميع من هذه الجماعة الإرهابية وكأنها شكل من توزيع الأدوار.
انتهت معركة الجيش اللبناني في الأيام الأولى لشهر أيلول/سبتمبر 2007 بإعلان الدولة اللبنانية أن جيشها حقق أكبر انتصارٍ له على الإرهاب بضربه لمجموعة فتح الإسلام التكفيرية الإرهابية. ولكن حقيقة الأمر ماكانت ذلك، بل هي أقرب لما يمكن تسميته، انتصار بطعم الهزيمة، أو هزيمة بطعم الانتصار، لأن المطلوبين بالنتيجة قد هربوا وفيهم شاكر بني عبس، ومعهم أعباء حملٍ كبير من تهم الإرهاب، فضلاً عن انكشاف زيف شعاراتهم في المقاومة والممانعة، وأسرار صناعتهم الاستخباراتية وصانعيهم مما جعل منها مجموعة مستنفذَة الدور والفعالية.
ولم يمضِ عام بعدها، حتى تمّت عملية تفجّير ضخمة لسيارة أمام أحد أكبر المراكز الأمنية (فرع فلسطين) في دمشق في أيلول 2008، جيّرتها التصريحات الرسمية السورية مباشرة إلى أنها من عمل الإرهابيين التكفيريين رغم أنه لا أحد أعلن مسؤوليته عنها. ورغم كل ماقيل ظنّاً عن الفاعل وتعدد الروايات والتحاليل، فإن أجهزة الأمن اتخذت المبادرة ودبلجت فيلماً تلفزيونياً في مطلع تشرين الثاني/أكتوبر، أعلن من ظهروا به أنهم من فتح الإسلام، وأنهم رجعوا إلى سوريا من لبنان لإعادة صلتهم بالقاعدة، وبقصد استهداف المراكز الأمنية والدبلوماسية الأجنبية، وأن عناصر سعودية من ضمن الجماعة نفسها وتيار المستقبل والتيار السلفي في طرابلس يدعمون تنظيمهم مالياً. وعليه، فكانت الرسالة الأهم في الفيلم المفبرك إظهار أن سورية كما لبنان من قبله ومعها البعثات والدبلوماسييون الأجانب مستهدفة بإرهاب جماعة فتح الإسلام، وأن سوريا فيما فعلت واعتقلت، فهي في موقع المحارِب للإرهاب.
وعليه، فإن صانعي إرهاب فتح الإسلام ومصدّريه إلى لبنان، هدفوا في فيلمٍ فبركوه وزوروه، وأًحضِر من سجونهم ممثلوه، وعلى يد المخرج نجدت أنزور أخرجوه، وفي ذلك حدثني أحد من طُلب إليهم المشاركة في الفيلم مع عدد من السجناء مقابل إطلاق سراحهم لاحقاً مع ذكر اسم المخرج بالاسم، وأضاف أن سجناء غيره أيضاً رفضوا ذلك باعتباره بمثابة اعتراف بجريمة لاعلاقة لهم فيها وليسوا فاعليها. طبعاً أرادوا من فيلمهم إجراء عملية غسل مخ إعلامي لجماهير الناس وغيرهم في الخارج أنهم المحارِبون للإرهاب لا الصانعون له، وهي مسألة يحرصون على الظهور بها دائماً، وإن كانوا في حقيقتهم ممسكين بالخطّين معاً صناعةً ومحاربةً لئلا يفوت عليهم شيء، ويكونوا المستفيدين كالمنشار في الحالين. وعليه، فهم من طرف يظهرون براءة الأسد ومخابراته من جماعة فتح الإسلام صناعةً ودعماً وتخطيطاً وتحريكاً، ومن طرف آخر يؤكدون قدرته النوعية وكفاءته في ملاحقة الإرهاب والإرهابيين.
وأخيراً، فإن الفيلم المفبرك لم ينس أن يغلق ولو بشكل مؤقت ملف جماعة فتح الإسلام التي عرضنا بدايتها تشكيلاً وتأسيساً، بإظهار أحد سجنائه أبومحمد عوض الملتحي قائداً جديداً للمجموعة بديلاً عن محارب بني عبس الغائب عقب حرب مخيم نهر البارد، إما لاكتشافه بأن النظام السوري تخلّى عنه في النهاية ليحارب الإرهاب فيه ويكسب ثقة الغرب بذلك، فاختفى، أو أنه تعرض للتصفية من قبل النظام السوري بعد أن استنفد أغراضة منه ويدفن معه أسراراً كثيرة.
وأخيراً، فالإرهاب اغتيالاً وتفخيخاً أصله أَسَدي ومشهود له فيه على امتداد أكثر من أربعين عاماً بما يمتلك من أجهزةٍ أمنية متغوّلة متوحشة، وشبكات من رجال مالٍ وأعمال مرتبطة معه أشبه ماتكون بمافيات، وشركات ومكاتب تغطي الأعمال والمهمات والعمليات في سوريا ودول الجوار. يسجل للنظام نجاحه في إجراء نقلات نوعيه في عمله الإرهابي بتحويله إلى صناعة من نموذج الصناعات الثقيلة بالدخول على خط المجموعات الإرهابية وتشكيل منظمات ومجموعات، إن بتجميع المكونات أو اختراقها بما هو مناسب، ينفّذ مايريد عبرها وبطريقة معقدة بالتعاون مع حلفائه الخبراء، كما يسجل له نجاحه في تسويق نفسه محارباً للإرهاب فضلاً عن صناعته لايُستغنى عنه خصوصاً امتلاكه مؤهلات القمع والقتل بدون حساب أو مخافة من الله ولا من الناس ولا من المجتمع الدولي.