الشعب الإرهابي والانقلاب الملائكي !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

في كتاب " حكايات حارتنا " لنجيب محفوظ وهو غير " أولاد حارتنا " يحكي عن بعض المواقف والشخصيات التي اختزنتها طفولته في نهاية مرحلة الفتوات ، يقول في الحكاية رقم 50 :

" في زمن مضى لم أدرك منه إلا ذيله كانت الفتونة هي القوة الجوهرية في حارتنا . هي السلطة ، هي النظام ، هي الدفاع ، هي الهجوم ، هي الكرامة ، هي الذل ، هي السعادة ، وهي العذاب .." ، ثم يحكي قصة فتوة خطير من أشد الفتوات تأثيرا في حياة الحارة اسمه "جعلص الدنانيري " . يجلس في المقهى كالطود أو يتقدم موكبه  مثل بنيان ضخم , " أنظر إليه بانبهار فيشدني أبي من يدي قائلا :

- سر في حالك يامجنون .وأسأل أبي : أهو في قوة عنترة ؟ فيقول باسما : عنترة حكاية أما هذا فحقيقة والله المستعان .. " ، ويصفه نجيب محفوظ بالعملاق المترامي الأطراف وكرشه يشبه قبة الجامع ووجهه ضخم وسرعة انقضاضه كالريح ولعبه بالنبوت في رشاقة الحواة وعند القتال يقاتل بنبوته ورأسه وقدميه وأتباعه . لا يسمع صوته الامزمجرا أو هادرا أو صارخا ، ودائما قاذفا سيلا من الشتائم . يخاطب أحباءه بيا ابن كذا وكذا ويسبّ الدين وهو ذاهب للصلاة أو راجع منها . لايرى باسما أو هاشا .. يفرض سطوته على أهل الحارة كلها . يحبس من لا يدفع الإتاوة في بيته ويعاقب ناظر المدرسة بخلع ملابسه ليسير عاريا الى منزله ، ويهزأ من التقاليد الراسخة ولا يتردد في إجبار شخص على تطليق زوجته ليتزوجها ولا يجرؤ أحد على الزواج من إحدى مطلقاته وما أكثرهن.. يمنع الاحتفالات بعيد الفطر ويحرم زيارة المقابر ويغلق الدكاكين . أيامه رعب وجبن وذل ونفاق وأشباح وأنات مكتومة .. يدعى إلى فرح في الدرب الأحمر وعند مدخل البيت يتقدم منه غلام ويقول له :

- ياعم .. فينظر إليه من عل باستغراب ، ويسأله : ماذا تريد ياولد ؟ وبسرعة البرق يخرج من جلبابه سكينا فيطعنه في أعلى الكرش ثم يشد السكين وكأنه يتعلق بها حتى المثانة . ويقدر لهذا الجبل الشامخ أن يتهاوى فيما يشبه اللعبة ويتبين أن الغلام ابن أحد ضحاياه من كفر الزغاري دربته أمه وأعدته لتلك اللحظة !

تذكرت هذه الحكاية عندما وصل إلى مصر مؤخرا مدير المخابرات المركزية الأميركية جون برينان ومعه وفد ضخم في زيارة لافتة بعد أكثر من خمسة شهور على الانقلاب العسكري الدموي الفاشي ، وتزامن مع الزيارة ظهور عرّاب الانقلاب الأول محمد حسنين هيكل على شاشة التلفزيون بعد فترة صمت وبعاد عن البلد قضاها في كعبة الخليج ( دبي ) ومنها انطلق إلى بيروت ليطمئن على رعاياه وشركاء نجله من آل مخلوف أقارب حاكم دمشق الدموي !!

زيارة مدير المخابرات الأميركية استمرت يومين التقى فيها بأصدقائه الانقلابيين وناقش معهم وسائل مكافحة الإرهاب ( الإسلام !) وضمنا تثبيت الانقلاب والاتفاق على تنصيب " جمال عبد الناصر " الثاني مثلما نصّبوا جمال عبد الناصر الأول بمعرفة كيرميت روزفيلت وآلان دالاس ومايلز كوبلاند .

هيكل تحدث عن حيرة قائد الانقلاب بين الترشح للرئاسة أو البقاء وزيرا للدفاع فوق رئاسة الجمهورية  والوزارة لمدة ثماني سنوات ، وتناول تصريحات وزير الخارجية الأميريكي جون كيري التي اعترف فيها بأن مشروع واشنطن كان يخطط لتوريث حكم مصر لمدير المخابرات الراحل عمر سليمان وليس لـ "الإخوان المسلمين"؟  وذكر أن هناك أشخاصا مثل وزير الدفاع السابق المشير محمد حسين طنطاوي لم يكونوا قادرين حتى على التصور أنهم سوف يسلمون البلد للإخوان! وأوضح هيكل أن ما  يسمى ثورة 30 يونيو كانت فارقة، ولكنها في لحظة خطر رهيبة، وأشاد بدور السعودية في دعم الانقلاب ،  وأثنى على  الأمير بندر ووصف دوره بانه لا غبار عليه، وتمنى أن يقر الدستور الجديد ، موضحا أنه سيفتح آفاقاً إلى مستقبل يعقبه تشكيل دولة واقفة وثابتة تستطيع مواجهة الطوفان قبل أن يطفو عليها ويأخذها فى طريقه. وطالب بأن تكون الانتخابات الرئاسية قبل البرلمانية وأفاض في الحديث عن أموال الإخوان التي تقدر بالبلايين اعتمادا على معلومات السيد ضاحي خلفان !

لا ريب أن مدير المخابرات الأميركية والأستاذ هيكل يرعيان الانقلاب ويوجهانه بوضع الخطط التي تبيض سيرته وتضعه في صف الملائكة الأطهار ، ويشيطنان معارضي الانقلاب من الإسلاميين وغيرهم ويصورانهم في صورة الإرهابيين التكفيريين الذين يجب إراحة العالم منهم بكل الوسائل الفتاكة !

عقب زيارة مدير المخابرات الأميركية وظهور هيكل على شاشة النتلفزيون وأحاديثه المسهبة عن الإخوان وبلايينهم وسوء سلوكهم نهض السيد ساويرس وتقدم الصفوف ليهدد بالعربي الفصيح : إن لم تقضوا على المعارضين فسوف ننزل نحن( من أنتم ؟ ) ونقضي عليهم . السيد ساويرس يتكلم وكأنه حاكم البلاد وسيدها الأول بدليل أن أحدا في إعلام الانقلاب وصحافته ومتحدثيه الرسميين وغير الرسميين لم يشر بحرف إلى ما قاله هذا الحاكم السيد !

بعد كلامه ظهر البلاك بلوك ( ومعظمهم من غير المسلمين ) في شوارع دمنهور لمواجهة معارضي الانقلاب ، ثم أعلنت سلطة الانقلاب عن تجميد أموال خمسين وألف جمعية إسلامية ( لا يستطيعون تجميد جمعية مسيحية واحدة!) كان يفيد منها نحو ثلاثة ملايين مواطن فقير مسلم وغير مسلم ؛ مثال : مستشفيات الغسيل الكلوي وحضانات المبتسرين وغرف العناية المركزية ومعالجة الأمراض الوبائية كلها مجانية . ثم كان التفجير الدموي الضخم في مديرية أمن المنصورة وإعلان جماعة الإخوان المسلمين إرهابية ! وزاد سعار الرصاص الحي والخرطوش والغاز المسيل والملاحقات والاعتقالات والاقتحامات للحرم الجامعي ! معنى ذلك أن الشعب المصري المسلم باستثناء العلمانيين والطائفيين من مؤيدى الانقلاب صار إرهابيا يجب القضاءعليه ووضعه في سجون ضخمة تقام على امتداد مصر وصحراواتها ، فالمصريون يتعاطفون مع الإخوان وانتخبوهم في المجالس التشريعية والرئاسة ومنحوهم أصواتا أكثر بكثير من العلمانيين والطائفيين الذي فشلوا في الانتخابات والاستفتاءات في تصويت نزيه شهدت به أمم الأرض . المصريون في حاجة إلى الجمعيات الإسلامية التي كانت تخدمهم ، ولن تفلح الجمعيات الأخرى في سد الفجوة  . قال الأنبا بولا على تويتر:"الكنيسة الأرثوذوكسية بدأت في تقديم المساعدات لأسر الفقراء المتضررة من قرار مصادرة أموال (الجماعات الإرهابية!).. محبة الرب يسوع تسع الجميع"! المحبة تتنافي مع الارهاب والكنيسة لن تقدر على سد الفجوة  . وزير التضامن الشيوعي قال : " لم نستثن الجمعية الشرعية من قرار تجميد الأموال وسيحل محلها جمعيات قبطية لتقديم الخدمات " وهذه الجمعيات لن تسد الفجوة . مربط الفرس ما قاله "بيتر عادل" في تغريدة له على تويتر : " النهاردة حرقنا كام عربية خروف إخواني ده غير إننا ضربنا كام كلب ملتحي كانوا معديين في الشارع ... الإقصاء و العنف هو الحل مع الخرفان " !

هل تشكّون أن مدير المخابرات الأميركية ومحمد حسنين هيكل والأنبا بولا ووزير التضامن الشيوعي وبيتر عادل يحاربون الإسلام وليس الإخوان ؟ رحم الله جعلص الدنانيري !