الحياة في غزة بعد الحرب .. صورة المكان وروح الإنسان
عقب إجازة العيد الطوعية وإجازة الحرب الجبرية ، عدت إلى عملي في مدينة غزة وفي خاطري وهمي أن أعاين صور التدمير الذي خلفته طائرات العدو ومدفعيته البحرية والبرية . بواقع السكن ، كان أول ما رأيته أنقاض وبقايا موقعي الأمن الوطني في الجانب الشمالي من وادي السِلْقة ( الذئبة ) الذي يجف صيفا ويسيل شتاء مرتفدا بأودية تمتد في الوطن المحتل . يتألف الموقعان ، شرقي وغربي شارع صلاح الدين الرباعي المسار ، من أبنية وطيئة ليست حصينة ، ويحف الموقع الشرقي سور من براميل القار المفرغة المتلاصقة ، وعدد جنودهما قليل ، وأسلحتهم فردية . برزت من بين الأنقاض تلول رملية طولية على حفافي حفر فجرتها صواريخ الطائرات بقوتها الهائلة . الأرض التي أنشىء عليها الموقعان كانت قبل الانسحاب الإسرائيلي في 12 سبتمبر 2005 جزءا من مستوطنة كفار داروم ( القرية الجنوبية ) شرقي دير البلح . في المسار الشرقي من الشارع رمال قليلة وقطع بناء صغيرة لا تعرقل حركة السير . ومع المضي في الشارع رأيت بعض صور التدمير إلا أنها كانت قليلة ، ومنها صورة مصرف إسلامي على جانب المسار الشرقي من الشارع . حركة الناس والسيارات طبيعية ، فلا يبدو عليهم أنهم خرجوا أمس فجرا من عاصفة حرب كاسحة ماجت بالخوف والقلق وترقب الموت في كل ثانية . واضح مبين أن لشعور الناس بالنصر والإنجاز البطولي للمقاومة وإذلال العدو تأثيره في حركتهم ونفسيتهم . وحين وصلت السيارة مدخل شارع 10 في خاصرة مدينة غزة الجنوبية ؛ انتبهت إلى أن مجسم الصاروخ الموجه إلى الشمال الفلسطيني ما زال في مكانه . لم يقصفه الإسرائيليون المولعون ببتر ومحو كل رمز للوجود الفلسطيني والإرادة الفلسطينية والحياة الفلسطينية لكونه في اقتناعهم بترا ومحوا لروايتهم المزورة عن علاقتهم بالمكان وتهديدا منذرا للبوثهم فيه ، وأطلقت خسارتهم للحرب جماح رعبهم من البتر والمحو ، وشرع نذير تهديد لبوثهم يومض ومضات حمراء متتابعة . وشمال الصاروخ ، في دوار تقاطع شارع 10 مع شارع صلاح الدين ، دوار دولة الكويت ، كان علم فلسطين وعلم الكويت منقوشين على قاعدة نصب جمالي ، وحُقَ للكويت ما هو أكثر من هذا . دائما كانت على العهد وفاء لفلسطين ، وفي الحرب الأخيرة شهدناها في كل مستوياتها الشعبية والرسمية والإعلامية تلتحم مع غزة وفلسطين حبا صادقا ، وشعورا عروبيا ناريا ، وتسرع إلى تكثيف التبرعات عونا لغزة ومؤازرة لها في تضميد جراحها . وتواصل آلة تصوير العين والقلب التقاط الصور ، فإن رأت مبني هديمًا أسيت ، وإن رأت صورة حياة متألقة ابتهجت . واصلت السيارة دربها حتى شارع الرشيد على البحر ، وهناك نزل راكب ، وراكبة مع أطفالها الثلاثة . قال السائق : " انظر! قد تسقط في أي لحظة . " ، رأيت عمارة من طابقين مهيأة للانهيار . لم استهجن وجود باعة الفواكه على الرصيف الشرقي للشارع . عادوا إليه حالما توقفت الحرب . كانت الحركة شحيحة على الرصيف الغربي من الشارع . عادة ، خاصة في المساء ، تكون جياشة متنوعة : أكشاك المأكولات السريعة والعصائر مفتوحة ، والمقاعد الرخامية مشغولة بالعائلات والأفراد . لا شيء اللحظةَ مما كان . ربما الوقت سبب خلو المكان . الساعة الثانية عصرا ، والحر ظاهر .
قال السائق : " أخرتك يا أستاذ ! " ، ورمق حقيبتي ، وعنى بقوله أنه لم يمضِ إلى موقف السرايا الذي أنزل فيه ، وقصد شارع الرشيد . قلت : " لا . شكرا " .
وحين انتهينا إلى ساحة الجندي المجهول رأينا المسار الشمالي من شارع عمر المختار غاصا بالناس والسيارات . لا يبدو عليهم أن حرب الموت والتدمير البربري الجبان فارقتهم أمس . ما أقوى الحياة ! وما أغبى وأسفه من يعشقون قتلها أو تخريب أوقاتها ومجاليها لدى سواهم ! وما أقبحهم حين يحافظون على حياتهم في عنصرية مرضية . الموت لسواهم ، والحياة لهم . هذه حال الإسرائيليين في المنطقة . لا جيش في العالم يقطع الشجر سوى جيشهم . الله _ جل في علاه _ حفظ حياة مخلوقاته ، وليس الإنسان وحده ، بكل الحافظات . ومن يقتل حياة هذه المخلوقات ، الإنسان والحيوان والطير والشجر ، هو عدو الله ، ومتحدي مشيئته ، وويل لعدو الله _ عزقدره _ ومتحدي مشيئته المالكة لمصائر مخلوقاته . توقفت السيارة بعد سير قصير في المسار الجنوبي من شارع عمر المختار . الزحام كثيف . أنقاض برج الشروق تغلق المسار نحو الشرق ، وبان أن السيارات تنعطف جنوبا إلى شارع الشهداء . انعطف السائق نحوه . ولما وازينا المدخل الجنوبي لامتداد شارع خالد بن الوليد ، شكرت السائق وطلبت النزول . سأمشي إلى شارع الوحدة حيث برج حصري والشوا ، مكان عملي ، الذي سلم من القصف . حاذيت محل كاظم المشهور للمبردات . في حرب 2014 تهكم أفيخاي ادرعي متغطرسا بأنه يود دخول غزة لِيَطعم بعض مبرداته ، فانهمرت عليه التخسئات والسخريات الفلسطينية ، وما أكثر ما انهمرت عليه في الحرب الأخيرة من الفلسطينيين والعرب المبتهجين بانتصار غزة ، انتصارهم . في الجانب الغربي من شارع خالد بن الوليد الصاعد إلى شارع الوحدة كان عدد من المواطنين يعاينون بيتا مقصوفا مهدوما تحته محل لبيع الملابس . ها أنا في شارع الوحدة ! وصلت مكان العمل في الطابق العاشر . تبادلت التهنئة بالسلامة مع الأحباء الزملاء ، وحزن قلبي حين أخبروني بغياب زميل لاستشهاد ابن عم له ، فواسيته مهاتفةً . قرب البرج ، كانت البيوت والمحلات سليمة ، أما إن سرت في شارع الوحدة مغرِبا جهة مشفى الشفاء فالدمار كثير . مع أذان العصر نزلت إلى مسجد المتقين تحت أرضية البرج . ماذا حدث لمعارفي من المصلين ؟! لصديقي الودودين اللطيفين أبي لؤي وأبي علاء اللذين أصلي دائما قربهما في الصف الأول ، ويفسحان لي موضعا بينهما إذا رأياني خلفهما ؟! وبعد التهنئة بالسلامة والاستفهام عن حال الأسر كشف أبو لؤي عن ساقه اليسرى ، فبغتني جرح طولي عليه أثر الدواء بين ربلة الساق وقصبتها ، قلت متأثرا : " أصبت؟!"، أجاب معيدا تغطية ساقه : " شظية حجر من بيت جاري الذي قصفوه .انكسر زجاج بعض شبابيك بيتي . " .
***
غزة فريدة المدن ودرتها أبدا تكبر على جراحها وأحزانها ومفجرات البؤس في أعماقها ، وأبدا أول من يقاتل ، وأبدا عصية متمردة على المعتدي ، وأبدا تهوي على رأسه بما لا يتوقعه . نفت الإسرائيليين من ترابها أذلاء مخيبين في 12 سبتمبر 2005 ، وقاتلتهم في أربع حروب بعد نفيهم عدد أيامها 91 يوما ، وفي الحرب الرابعة اعترفوا بهزيمتهم مصعوقين مفجوئين ولو كابر بعضهم حفظا لمعنوياتهم المهشمة ، وسطعت شمسا ربيعية حلوة باسمة ، وأحيت في قلوب الشعوب العربية والإسلامية ومحبي الخير للإنسان في العالم وهج روح الأمل والثقة في القدرة على الانتصار ،وكسر قوى الشر والعدوان وتخريب حياة البشر. وتعلم غزة علم اليقين المبين أن أعداءها لن يغتفروا لها انتصارها . وعدوها الإسرائيلي الحقود الكريه يصرف بأنيابه ويشحذ أظفاره تحرقا للانتقام منها ، ويتهدد ويتوعد ، وأنصاره من أباليس العرب عصبوا رؤوسهم وشدوا مآزرهم على أوساطهم ، وحركوا أموالهم في خزائنهم الزاخرة لتكون ملك يديه للانتقام من غزة وممن فرحوا بانتصارها عقابا لها على قهر سيدهم الإسرائيلي الذي حزموا مصيرهم مع مصيره حزمة واحدة ،ويحيكون الآن أسوأ المؤامرات وأخسها نذالة على غزة ،وعلى فلسطين ، وعلى شرفاء العرب والمسلمين . ومآل مؤامراتهم إخفاقها المحتوم وزوالهم مع سيدهم . هذه سنة الله _ تعالى _ في ملكوته . لا انتصار لباطل على حق ،ولا لظلم على عدل ، ولا لوحشية ودموية على رحمة وحب . هذا لباب سيرة غزة ،وهذه حالها الآن صورة مكان وروح إنسان .
وسوم: العدد 930