أبحث عن كلمة
أبحث عن كلمة تلخص حالنا هنا في لبنان وفي بلاد المشرق العربي، كلمة يمكن أن تقول ما لسنا قادرين على قوله.
أبحث عن كلمة تساعدني على فهم لماذا صار ما يُقال تعبيراً عن عجزنا عن القول، أو لماذا صار الكلام شبيهاً بالصمت.
هذه الكلمة متوفرة بالعامية والفصحى، كما أن المعنى الذي أقصده يمكن التعبير عنه بأكثر من كلمة واحدة. الكلمة التي أبحث عنها موجودة في القواميس، لكنها صارت من دون جدوى، وتحولت إلى جزء من الرطانة التي تفترس الكلام.
المقصود هو كلمة عيب، ومنها يأتي الفعل الماضي عاب، واسم الفاعل عائب، واسم المفعول معيب. والعيب هو الفعل الذي يخجل منه صاحبه، فأنت تُعيب الآخر أي تُخجله وتشلّ قدرته على الإجابة، لأنه يشعر أن تصرفاته خاطئة وغير لائقة.
والكلمة الثانية نجدها كمرادف لكلمة عيب، إنها الخجل، أي الشعور بفضيحة العيب. لذا تستطيع أن تُخجل فاعل العيب، وتجعله يتمنى أن تبتلعه الأرض.
الكلمة موجودة لكن استخدامها لم يعد مؤثراً، فأنت لا تستطيع أن تُعيب أو تُخجل اللص والقاتل والنصّاب والكاذب، الذي يتصرف على المكشوف ويفتخر بذلك.
بماذا تُعيب اللص إذا كان يعتبر أن السرقة شطارة، ودوس كرامات الناس بطولة، واستحمار الآخرين ذكاء؟
كيف تُخجل من يفاخر بالوحشية ويتغنى بذكائه الذي يسمح له بأن يكذب ويعيد كذبته وهو ينظر إليك بعينين وقحتين؟ يعرف أنك تعرف أنه يكذب، ولكنه لا يبالي ولا يستحي، ويضحك ملء شدقيه.
بماذا تتهم أصحاب المصارف وعلى رأسهم حاكم مصرف لبنان، وهم يتصدقون عليك من بقايا مالك الذي سُرق وتبخر وشفطه الفساد؟
ماذا تقول لعصابة «كلن يعني كلن» وهم يضحكون عليك بشعارات طائفية تسرق اللقمة من الأفواه؟
ماذا تقول أمام انقطاع الدواء وحليب الأطفال وبهدلة البنزين وإمحاء الكهرباء، وإلى آخر ما لا آخر له؟
سوف تركض من صيدلية إلى صيدلية ومن سوبر ماركت إلى سوبر ماركت، بعدما حولوك إلى متسوّل.
المسألة ليست أن نقول أو لا نقول، فلقد قلنا كثيراً، صار الإعلام سجلاً للفضائح ومنبراً لحجبها في آن معاً. مصارف مفلسة تخصص مبالغ كبيرة لإعلانات تلفزيونية بهدف تبييض صورتها.
لا القول قال ولا التبييض بيّض.
فحين تشعر أنك أمام استحالة الكلام، تلجأ إلى سلاحك الأخير وهو الشتيمة. والشتيمة جزء من العبقرية الشعبية للتفريج عن الكَرْب من جهة، والانتقال من تخجيل الآخر إلى الحط من قيمته من جهة ثانية.
كما تذكرون، فلقد بدأت انتفاضة 17 تشرين بالشتائم، فإلى جانب هتافات الربيع العربي، ارتفع هتاف «هيلا هيلا هو»، الذي صار على كل شفة ولسان.
ورغم أن هذا الهتاف انطلق ضد ولي عهد المرحلة العونية، لكنه شمل الجميع. الاقتناع الشعبي العام في الانتفاضة تركز على استحالة التخجيل. فمجمع اللصوص انكشف منذ اللحظة الأولى، ما استدعى دخول الشتائم على قاموس المظاهرات.
لكن لم يدُر في خلد أحد أن مجمع اللصوص لن يرتدع أمام الشتائم، بل سيبتلعها.
يجب أن نسجل للطغمة اللبنانية الحاكمة أنها امتصت الشتائم، ولم تشعر بضرورة الدفاع عن نفسها بكلام يرفع عنها كابوس الكلام البذيء، فأفراد هذه الطبقة هم ملوك البذاءة والتشبيح الذكوري، لذا لجأت إلى سلاحها الأخير المتمثل في التحريض الطائفي. فحرب الصلاحيات في مهزلة تشكيل حكومة لن تتشكل، تعبر عن قدرة هذه الطبقة الأخطبوطية على الاستمرار على قيد الحياة، فوق جثة لبنان.
وهنا أيها الناس تقع مشكلتنا اللبنانية، إنها مشكلة الكلام الفائض عن الكلام الذي يصطدم بجدار من الوجوه الشمعية التي لا تبالي.
الكلام اللبناني الفائض يقابله كلام عربي يختنق في الحناجر، ويجعل من القمع السافر جداراً يمنع النقد، ويجعل ثمن الكلام موازياً للحياة نفسها.
كيف نفسّر سعادة الديكتاتور بـ «فوزه» في انتخابات لا انتخابات فيها. كيف نقرأ تصويته في دوما، أي في المكان الذي كان مسرجاً لجريمة الكيميائي؟ كيف نقرأ انتشاءه بصناديق اقتراع اقترعت رغماً عن المقترعين؟
ملايين المهجرين وحوالي نصف مليون قتيل، والديكتاتور يلعب بالكلام. الكلام له، والصورة له. وهذا يذكرنا بذلك المشهد المعبّر الذي ينهي فيه أسامة محمد فيلمه «نجوم النهار» حيث تصير صور المطرب- الزعيم مرآة منصوبة في كل الشوارع، كي لا يرى المستبد سوى انعكاس صورته على الوجوه الخائفة.
أو كيف نفهم وَلَه أبطال «اتفاقية أبراهام» بإسرائيل، وتباهيهم بجهلهم، إلى درجة جعلت أحد سفرائهم في تل أبيب يعتقد أن جامع حسن بيك في يافا دليل على التسامح، لأن إسرائيل بنت للمسلمين مسجداً في تل أبيب! وهو لا يعلم أن المسجد المذكور بني في الزمن العثماني عام 1916 في حي المنشية في يافا وليس في تل أبيب، أي قبل إنشاء الدولة العبرية، وسيبقى بعد زوالها.
أو كيف نبتلع كلام رجال السلطة الفلسطينية المُصرّين على التنسيق الأمني، بعد هبة القدس والشيخ جراح وحرب غزة؟
وأخيراً، كيف نفسّر تهافت ذباب المساعدات العربية التي تعمل ستاراً لإسرائيل كي تفرض شروطها؟
هل نقول إن الكلام انتهى؟ أم نقول إن على الكلام أن يولد من جديد، وأننا رأينا تباشير ولادته في فلسطين؟
«في البدء كان الكلمة» والكلمة لا تحيا إلا على ألسنة الذين يحوّلون، بإصرارهم ومقاومتهم، الكلمات إلى فعل.
وسوم: العدد 932