ذُهِل أوليفر هولمز الضابط في جيش الاتحاد الشمالي الأميركي حين رأى رجلا طويلا نحيلا يقف معرضا نفسه لرصاص جيش الانفصاليين الجنوبيين في الحرب الأهلية الأميركية ( 12 أبريل 1861 _ 9 أبريل 1865 ) ، فصرخ مهيبا به : " أرضاً يا معتوه ! " .وانفجر ذهوله حين أنبىء أن الواقف هو الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن الذي يقود الشمال لدحر الولايات الجنوبية الإحدى عشرة العازمة على الانفصال عن بقية الولايات . ماذا كان هدف لينكولن من الوقوف في مرمى الموت كأنه ينفذ دون أن يدري قول المتنبي في سيف الدولة الحمداني في إحدى معاركه مع الروم : " وقفت وما في الموت شك لواقف = كأنك في جفن الردى وهو نائم " ؟! في فهمنا أنه استهدف تقديم قدوة في الشجاعة وتحدي الخطر لجنود جيش الاتحاد ليدافعوا عن وحدة الأمة الأميركية الجديدة التي ظهرت بقتل الهنود الحمر وسرقة وطنهم . وفي معركة واترلو ( 18 يونيو 1815) التي انتصر فيها الجيش الإنجليزي بقيادة ويلنجتون ويلسون ، والجيش البروسي ( الألماني ) بقيادة المارشال بلوخر على الجيش الفرنسي ؛ كان نابليون بونابرت قائد الجيش الفرنسي يطوف بجنوده على جواده مقاسيا عذابا حارقا من ألم داء البواسير . وهدفه بداهة ذات هدف لينكولن ، وهو تشجيع الجنود على الثبات والاستبسال في القتال . الناس بفطرتهم قبل تربيتهم وثقافتهم يتوقعون دائما الأفضل والأكمل ممن يعلوهم رتبة أو منصبا . الشعب من قائده ، والجنود من ضباطهم ، والأبناء من آبائهم ، والطلاب من معلميهم . ليس لمعلم مقصر قليل الانضباط أن يتوقع من طلابه اجتهادا وانضباطا ، ويلومهم إن قصروا ولم ينضبطوا سلوكيا وأخلاقيا . وهذا هو التعليم أو التربية بالقدوة العملية الحية التي يتوافق فيها القول مع العمل . ، وهما ، التعليم والتربية ، أمتن مصداقية وأقوى تأثيرا من حرارة النصح وبلاغة الكلام . " لا تنهَ عن خلق ، وتأتي مثله ! = عار عليك إذا فعلت ذميم " . وفي تاريخنا العربي والإسلامي مثل عظمى سامية للتعليم والتربية والتأثير بالقدوة . الفاروق عمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _ مثل عظيم جليل في التنزه والتعفف عن المال العام ، وفي استشعار عظم المسئولية القيادية عن الشعب أو "الرعية " بالمصطلح الإسلامي الذي يجسده قوله : " لو أن بغلة عثرت في العراق لخفت أن يسألني الله عنها : لِمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر ؟! " ، وفي ما قاله أيضا بيان حازم حاسم لترابط مصائر المسلمين على اختلاف أمصارهم وتباعدها . ويا لهول وفظاعة ما نعيشه اليوم من تخلٍ فتاك عن هذا الترابط بين الدول العربية والإسلامية في زمن بات فيه العالم بيتا واحدا لا قرية واحدة . ونتج هذا التخلي من تولي قادة صغار النفوس والعقول لأمور العرب والمسلمين ؛ قادة يستجلبون شرعيتهم واستمرارية حكمهم من أعداء شعوبهم وأمتهم ، ويُسوِق هذه الشرعية إعلام رسمي يديره جهلة وجبناء ، ومستشارون منافقون جبناء ، والاثنان ، الإعلام والمستشارون ، يجملان للحكام قبائح أفعالهم ومكاره أقوالهم ، ويلبسونهم مناقب أسطورية تنسب لهم العظمة الخارقة . إعلامي في بلاد الحرمين ينعت ابن سلمان بأنه إحدى عجائب الدنيا ، وحين زار باريس ، ابن سلمان ، رأينا مذيعا في فضائية سعودية يقول مذهولا متحمسا : " ها هو ينزل على سلم الطائرة ! ها هو يمشي على أرض المطار ! " ولا نعلم أين العبقرية في النزول على سلم الطائرة ، وفي المشي على أرض المطار . كل من يركب الطائرة ينزل في نهاية الرحلة على سلمها ، ثم يمشي على أرض المطار ، وابن سلمان ليس كسيحا ولا أعرج ليتفاجأ المذيع بنزوله على سلم الطائرة ومشيه على أرض المطار ، ومن المديح ما هو ذم واستهزاء ضمنياً ، وإن لم يقصد المذيع هنا ذلك . والشدائد تبين أصالة أو خساسة معادن الناس قادة وغير قادة . في الأحوال العادية الهادئة الناس متشابهون كليا أو جزئيا ، والسباق يكشف سرعة الخيل وطاقة تحملها ، وفي الحظائر والمراعي هي متشابهة ولو تباينت مناظرها . كل فلسطيني يقدس حق العودة ، ويعده هويته الحقيقية وطنا وإنسانا ولو كان في أبعد مكان عنه ، وتجنس جنسية بلد آخر ، واستقر وأفلح في موطنه الجديد . دائما لا يبارحه تمسكه بهذا الحق ولو لم ينوِ ممارسته فعليا ، يكفيه الشعور أنه يملك هذا الحق في العودة إلى وطنه الذي سيعود إليه فعليا ملايين الفلسطينيين الذين نبت بهم أوطان الغربة ولم يستقروا فيها . عباس قال من سنوات إنه لن يعود إلى بيته في صفد طارحا قدوة شائنة في هذا التوجه الفلسطيني الوطني الشامل الذي يرفض أقل مس بقدسيته وشرعيته . ومصر تصارع أثيوبيا صراعا مصيريا على مستقبل نصيبها التاريخي من ماء النيل الذي قال المؤرخ اليوناني هيرودت إنها هبته ، أي أنها لا وجود ماديا لها بدونه بحكم اختفاء الهبة إذا اختفى الواهب . ويصف بعضهم هذا الصراع بأنه أخطر من كل حروب مصر الأربع مع إسرائيل ، وييأس السياسي والدبلوماسي المصري السابق مصطفى الفقي من قدرة مصر على التوصل إلى حل يناسبها ، فيقترح الاستعانة بإسرائيل للتوصل لهذا الحل على طريقة " داوني بالتي كانت هي الداء " . وفي جو هذا الصراع العاصف المجهول المآل ألفى السيسي من فراع البال وعبث اللامبالاة ما يغريه بالتنزه والتلهي على دراجة . ماذا يريد أن يقول لشعبه ؟! إن المصيبة صغيرة هينة ، والحال تحت السيطرة ؟! ومن يقتنع بهذا الاستخفاف سوى جاهل أو عارف منافق ؟! ومن سيقتدي بمثال عباس والسيسي سوى غافل أو متظاهر بالإعجاب الكاذب بهما ؟! القدوات الخالصة الصادقة ، والقيادات الحقيقية للشعوب في كرائم الصفات وجلال الأعمال موجودة بوفرة في الشعوب العربية والإسلامية ، والحال الماثل أنها محظور عليها أن تظهر وأن تقود ، ولا آلية منتظمة محمية دستوريا وعمليا لظهورها وتوليها القيادة ، وبذا لا يظهر سوى القيادات التي لا يمتلك أي منها أي صفة من صفات القائد الحقيقي الذي يقتدي به الشعب في كرائم الصفات وجلائل الأعمال ، وما أكثرها ، واجتماعها يسعد الناس ويحفظ الأوطان ، يطعم من جوع ، ويؤمن من خوف .