لحظة الأسئلة الكبرى
كانت المسيرة الشعبية الكبرى في الذكرى الأولى لمجزرة الرابع من آب – أغسطس، إعلاناً بأن لبنان وصل إلى مشارف الأسئلة الكبرى.
لم يعد السؤال حول سقوط النظام اللبناني أو إسقاطه، وهو التحدي الكبير الذي صنعته لحظة انتفاضة 17 تشرين، مطروحاً. لا لأن النظام قوي، وهو كذلك، ولا لأن قوى التغيير وجدت نفسها عاجزة عن بناء البديل، وهذا ما حصل، بل لأن النظام أسقط نفسه بنفسه. فالتمادي في لعبة المحاصصات الطائفية، وترك الانهيار الاقتصادي بلا أي علاج، والتمادي في النهب وتهريب الأموال، والهجوم المبرمج على التحقيق القضائي، والعزلة الخانقة في بلد الاقتصاد الحر والنيوليبرالية، قادت إلى موت النظام السياسي اللبناني.
ولم يعد للتساؤل عن معنى شعار «كلن يعني كلن» أي معنى؛ لأن جميع أطراف الطيف السياسي الحاكم أو المعترض كشفت عن خياراتها العميقة، فهي تلوذ بتركيبة تتداعى، تحميها وتحتمي بها. جميعهم شركاء في تفليسة النظام وحمايته وتدمير الدولة. ما معنى الهجوم على المحقق العدلي، ولماذا يصر حزب المقاومة على حماية المشتبه فيهم؟ وما معنى «يقظة» الهجوم على الكوفية على طريقة القوات اللبنانية في الجميزة، وتعذيب فتى لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره أمام الكاميرا؟
أما بقية أضلاع النظام فلا حاجة للدخول في تفاصيل مواقفها وموبقاتها.
ولم نعد أمام احتمال إنقاذ الدولة من زعماء المافيا وترميم النظام على الطريقة الماكرونية. فرئيس الجمهورية الذي أتت به تسوية محاصصة عقيمة وبائسة، يعيش في عالمه الخاص، ولا يرى سوى صورته في مرآة محطمة، ويسعى إلى البقاء إلى الأبد عبر سلالة جديدة يقودها صهره.
وأخيراً، فنحن لسنا أمام تجدد الحرب الأهلية القديمة. تلك الحرب تلاشت معانيها مع سقوط نظامها الفدرالي القائم على النصب والنهب. نحن أمام واقع أشد هولاً من الحرب الأهلية التي انتظمت فيها خطوط تماس واضحة. نحن أمام التفكك، والحروب الصغيرة، والانقسامات الموضعية، والانهيار الأخلاقي والاجتماعي.
من شويا إلى عالية، ومن خلدة إلى الجميزة، بدأت ملامح المرحلة الجديدة تظهر وتتكشف. نحن أمام انفجارات صغيرة يكبر بعضها أو يصغر، لكنها ترسم علامات الاحتضار على الجسد اللبناني المنهك.
التجمع الحاشد في المرفأ كان ذروة ما تستطيعه حركة شعبية سلمية، صار شعارها الفعلي الوحيد هو التمسك بالحق في الحياة.
كانت اتفاضة 17 تشرين إعلاناً بأن هناك حلماً تغييرياً بتأسيس دولة الحرية والمساواة والعدالة، أما مظاهرة 4 آب- أغسطس، وعلى الرغم من بعض الفولكلور الديني، ورغماً عن النصب الحديدي القبيح الذي صنعه أحد فناني النظام، وبعيداً عن حماقات ما جرى في الجميزة، فكانت إعلاناً بأننا شعب قرر أن يدافع عن حقه في الحياة.
لم أر وسط حشود الغاضبات والغاضبين سوى إرادة الحياة.
شعب مهدد بالمجاعة والفقر والذل، بل شعب جائع وفقير، يتحلق حول ضحايا الانفجار الإجرامي، مطالباً بالعدالة للضحايا، ويدافع عن الحياة في مواجهة الموت الزاحف.
لكن الحكام لا يسمعون، وإذا سمعوا فلا يعون، وإذا وعوا فلا يبالون.
لا مثيل لطبقة التماسيح الغلاظ القلوب والغلاظ الأعناق التي تحكمنا وتتحكم بنا.
تبصق في وجوههم فيذرفون دموع التماسيح.
تتظاهر احتجاجا، فيرسلون رجال الأمن بقنابل الدخان والرصاص المطاطي والعصي لقمع أجمل شباب لبنان وشاباته.
هؤلاء ليسوا أعداء الحق والعدالة فقط، بل هم أيضاً أعداء كل شيء جميل.
لا متسع في قلوبهم سوى للكراهية، ولا مكان في خيالهم سوى للمزيد من النهب. ساديون ووحوش، يتفاخرون بأنهم سرقوا حياتنا وحاضرنا، يأكلون ولا يشبعون، وفي عيونهم جوع وحشي.
عملاء للقوى الخارجية، ويتباهون بعمالتهم.
يكذبون فلا يصدقهم أحد، حتى هم لا يصدقون أنفسهم، يدّعون البراءة ويصرون على الركوب على ظهورنا، ويختبئون في غابة التخويف والتخوين الطائفية.
لكن السؤال الكبير هو كيف نستطيع البقاء وسط غابة الطوائف وجنون الهستيريا والعُظامية واللامبالاة.
هذا النظام المتوحش سوف يدافع عن نفسه حتى النهاية، يراوغ ويتذاكى لكنه يخبئ في جعبته احتمال اللجوء إلى تفجير لبنان وإغراقه في الدم، مثلما فعلت الأنظمة الاستبدادية العربية ببلادها التي صارت ملاعب للمحتلين.
هل نستطيع الدفاع عن الحياة وسط عتمة الموت التي تحاصرنا؟
الاحتمالات التي تحاصرنا مخيفة؟
هل تتفكك بنى الدولة بشكل نهائي، فيتحول لبنان إلى دولة فاشلة يمكن إخضاعها لوصاية أو وصايات أجنبية؟ أم أن مسار التفكك سيواصل مساره إلى أن نصل إلى الفراغ الكامل، وإلى تكرار سيناريو «بطل بعبدا» الذي اعتقد أنه يستطيع إشعال الحرب من جديد، فانتهى به الأمر إلى تسليم لبنان للهيمنة الاستبدادية السورية.
في الحالين، جوابنا واضح، نعم نستطيع الدفاع عن الحياة، لا لأننا أقوياء بل لأن الحياة قادرة على استنباط وسائل للدفاع عن نفسها.
ندافع عن أنفسنا عبر استنباط طرق جديدة للتنظيم والصمود.
وألف باء هذا الصمود هو الموقف الواضح من احتمالات التفكك التي ستجرنا إلى الحرب والخراب، أو احتمالات الحرب التي ستقود إلى التفكك.
المعركة التي ستفرض على لبنان بسبب سعي هذا النظام التافه لإنقاذ نفسه، هي معركة بين قوتين إقليميتين رجعيتين وأصوليتين، وبينهما الدولة العنصرية الصهيونية، التي كانت بداية البلاء. وحين نرفع شعار مقاومة الهيمنة الإسرائيلية، فهذا لا يعني السقوط في فخ إحدى هاتين الهيمنتين، لا السعودية ولا إيران.
الهدف المباشر هو الصمود في موقف سياسي وأخلاقي ثابت، والبناء عليه وسط أوحال التاريخ التي تحاصرنا.
وسوم: العدد 941