كيف يعلم القرآن الكريم الإنسان عشق الطبيعة والتمتع بجمالها وسحرها ؟
يذكر كتاب الله عز وجل أن الإنسان ارتبط وجدانيا بالطبيعة منذ أول وهلة وجد فيها على سطح هذا الكوكب حين هبط إليه من الجنة . وأول مشهد يعرضه الذكر الحكيم لارتباط الإنسان بالطبيعة في الأرض يتعلق باستنجاده بها وهو في حالة انهيار نفسي بعد ارتكابه أول جريمة قتل في التاريخ البشري ،ذلك أن قابيل حين امتدت يده لقتل أخيه هابيل صدم بفعله الشنيع وهو يرى أخاه جثة هامدة ، واحتار في كيفية التعامل معها، فجاءه العون من الطبيعة المسخرة من طرف خالقها سبحانه وتعالى بترابها وغرابها، فعبر عن امتنانه لها بقوله الذي سجله القرآن الكريم في قوله تعالى : (( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي )) . وكان هذا أول درس يتعلمه الإنسان من الطبيعة كي تساعده على الخروج من حيرته ومن انهياره النفسي.
ولا زالت الطبيعة كما أراد لها الله عز جل دائما تعلم الإنسان ،وستبقى كذلك إلى قيام الساعة فيرجع إليها ليتعلم منها إذا ما أجاد التأمل فيها ووتكون مصدرإلهامه .
ولا يقتصر دور الطبيعة على تعليم الإنسان ومساعدته على ما يواجهه في حياته من مشاكل و متاعب بل يتعدى دورها إلى التأثير في وجدانه بما حباها به خالقها سبحانه وتعالى من سحر وجمال فتّان يتجلى في كل مظاهرها .
ومما يساعد الإنسان الذي يحتك بكتاب الله عز وجل ، وهو الرسالة الخاتمة للبشرية التي تضمنت ما احتوت عليه رسائل سابقة وزيادة ما جاء فيها من إشارات تجعله يتذوق جمال هذه الطبيعة حيث يقدمها له خالقه سبحانه وتعالى بطريقة مشوقة ،وينبهه إلى مكامن جمالها فيأمره بالنظر إلى كيفية خلقها وإبداعها كما جاء في قوله تعالى : (( أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت )) ، ففي هذا النص القرآني إشارة إلى جمال الطبيعة المتجلي في خلق إبلها، وفي ارتفاع سمائها ،وفي انتصاب جبالها و في تسطح أرضها ، وهو عبارة عن عرض أجزاء منها ينوب وصفها عن وصف باقي ما فيها من مظاهر تماما كما يفعل الإنسان حين يعرض أجزاء من معروضاته بغرض إشهارها أو بيعها ، وهو في ذلك قد تعلم طريقة العرض هذه من كتاب الله عز وجل .
والله تعالى عندما دعا الإنسان إلى النظر في هذه المظاهر الطبيعية، كان ذلك بأسلوب الإيجاز المغني عن التفصيل ،ذلك أنه إذا نظر إلى خلق الإبل وأدرك ما أريد منه بهذا النظر، سينظر لا محالة بنفس النظر إلى باقي أنواع الأنعام بل إلى كل ما يدب حوله من مخلوقات من أصغرها إلى أعظمها حجما . وينطبق هذا على نظره إلى السماء المرفوعة فوقه، فيتأمل ما فيها من كواكب ونجوم وفي حركاتها وما يترتب عن ذلك من أحوال تمر به ، كما ينطبق أيضا على نظره إلى الجبال المنتصبة حوله و إلى أحجامها وأشكالها وألوانها وكل ما يوجد عليها ، وهو ما ينطبق أيضا على نظره إلى الأرض المنبسطة وما عليها وما فيها . وحين يجمع ما يحصل له من نظر، يجد نفسه يقارن بين مظاهر الطبيعة ليدرك صنعة الخالق سبحانه وتعالى، وليتعرف عليه من خلالها حين يقف على أسرار إبداعها.
وليس النص القرآني في سورة الغاشية هو النص الوحيد الذي دعا فيه الله عز وجل الإنسان للنظر في نماذج من مظاهر الطبيعة من حوله بل تتكرر هذه الدعوة في العديد من الآيات والسور حيث يدعوه إلى التأمل في الشجر وينعه وثماره ، وإلى التأمل في النحل وما يخرج من بطونها من شراب ، وفي الأنعام وما تدره من ألبان ، وفي السماء وما ينزل منها من شراب، وما ينبت منه من شجر يكون مرعى الأنعام ، وما ينبت منه من زرع، وزيتون، ونخل، وأعناب، ومن كل الثمرات .
وتستمر على هذه الوتيرة دعوة القرآن الكريم للإنسان للنظر والتأمل في مختلف مظاهر الطبيعة، الشيء الذي يجعله يعشقها ويرتبط بها وجدانيا كأشد ما يكون الارتباط، فيضرب في الأرض ليتملى بالنظر إلى ما فيها من سحر وجمال ، فيقصد البحار، والأنهار، والجبال، والغابات، والمروج المزهرة، والحدائق الغناء ...فيخرج بذلك من كآبة إلى انشراح ، ومن ملل ويأس إلى أمل ... فتنصهر روحه في الطبيعة الجميلة وتجد في انصهارها شيئا من جمالها لم يكن يحسه من قبل أو كان غافلا عنه ، وحينئذ يدرك السر الكامن وراء دعوة الله عز وجل له للنظر والتأمل في الطبيعة التي خلقها من أجله .
وفي نقلة عجيبة غريبة ينقل القرآن الكريم الإنسان من وصف جمال وسحر الطبيعة في الحياة الدنيا إلى جمالها وسحرها الباهر في الآخرة ، ويقرب الله تعالى ذلك الجمال الفتّان الذي لا عين رأته ولا أذن سمعته ولا خطر على قلب بشر من إدراك الإنسان بما آنسه من مظاهر الطبيعة المحيطة به في الدنيا حيث يحوم خياله المجنح بعيدا ، فينقله من أنهار وجنات ومياه ونعم الدنيا إلى أنهار وجنات ومياه ونعيم الآخرة مع يقينه بأن ما يبهره في الدنيا إنما هو إلى زوال لا محالة كما أخبره خالقه سبحانه وتعالى في محكم التنزيل بينما يدوم ما يبهره في الآخرة دوام الخلد ، وهذا ما يجعله يتشوق إليها ، ويفكر جادا في كيفية الظفر بها إن كان من أولي الألباب .
وإذا كان صدر الانسان ينشرح حين يسرح بصره في مظاهر الطبيعة في الدنيا من خلال السفر المشهود ، فإنه يكون أشد وأكثر انشراحا حين يعمل فكره وتأمله في أوصافها من خلال السفر المقروء ، وهو ما ينقله وجدانيا إلى جمال الطبيعة الخالدة في الحياة الأخرى.
والسعيد من الناس من يلهمه الله تعالى ملكة النظر والتأمل في الطبيعة في السفرين معا للتمتع بها ، وشقيهم هو المحروم من ذلك .
وسوم: العدد 943