الحرب والحصار حجرا محك للعداوة
من المفهوم أن يؤدي الصراع العدائي بين طرفين سياسيين إلى أن يذهب كل طرفٍ في اتهام خصمه بالحد الأقصى مما يمكن أن يؤخذ عليه، ولا سيّما إنكار ما يعتبره من فضائله.
مثلاً إذا ما كانت هناك مقاومة ضد أميركا أو الكيان الصهيوني ينبري خصمها إلى أن ينكر عليها ذلك. فيذهب حتى إلى اعتبارها متواطئة، أو اعتبار أميركا متواطئة معها، وربما الكيان الصهيوني نفسه أيضاً.
في حالة السلم، يمكن أن تُستغل بعض المؤشرات لتعزيز تهمة هذا التواطؤ. مثلاً عندما احتلت أميركا العراق وأفغانستان، وقد فعلت ذلك لحسابها، أو حساب الكيان الصهيوني (احتلال العراق)، اعتبره بعض خصوم إيران أنه دليل على تواطؤ أميركا مع إيران. فقد أفادت من الاحتلالين، بصورة مباشرة، أو غير مباشرة. فقد قضيا على عدوّين لإيران. فاعتبر البعض أن أميركا تعمّدت تقديم العراق لإيران، خصوصاً، بعد أن فشلت في استمرار احتلاله، وأصبحت تهمّ بالرحيل.
والبعض اعتبر أن الكيان الصهيوني انسحب من جنوبي لبنان بقرار أميركي، وليس مهزوماً مدحوراً. وعزّزوا هذا الرأي بما ساد من هدوء على الحدود لعدة سنوات. وذلك لينكروا أن ثمة مقاومة دحرت الاحتلال وحررت الأرض.
إلى هنا يمكن التلاعب ببعض المؤشرات، وليّ عنقها، من خلال التأويل وتهريب «معلومات سريّة»، أو اللجوء لأحكام تاريخية لا علاقة لها بالواقع، أو بالحقيقة التاريخية. ولكن المشكلة القاتلة لهذا التلاعب بالوقائع، تأتي عندما ترتطم بالحرب أولاً، أو تصدم، ثانياً، بالحصار والعقوبات والتجويع. وهذا، بدوره حرب أو تمهيد لحرب. وبهذا، لا يتنبّهون ألّا مجال لتأويل. فالحرب تعني الدمار وآلاف القتلى والجرحى. وتنتهي بانتصار أو هزيمة حيث ترفع أعلام وتنكس أعلام. وكذلك بالنسبة إلى الحصار والعقوبات والتجويع وما يترتّب من خسائر وويلات وكوارث.
إن الحرب، بالضرورة، تكشف عما وصلته العلاقات السياسية، أو الوجودية، من عداوة قصوى. ولم يعد لها من إمكان لحلّ إلاّ بالحرب، أو بمرادفها الحصار والعقوبات والتجويع.
فمثلاً إذا كان بالإمكان ليّ عنق الوقائع في اندحار الاحتلال لجنوب لبنان، والقول أنه قدّم من أميركا «هدية» لحزب الله. فكيف لا تأتي حرب 2006 لتبدّد هذا التزوير المعيب للحقائق، وما عبّر عنه الانسحاب المذل للكيان الصهيوني من جنوب لبنان.
وكيف لا تأتي حرب 2006 لتكشف بأن العلاقة بين الكيان الصهيوني وحزب الله (المقاومة الإسلامية) وصل العداء فيها إلى أقصاه. وهذا، ما يفرض على أصحاب المقولات السابقة أن يسكتوا وألاّ ينبسوا ببنت شفة. وإذا أرادوا أن يحترموا أنفسهم عليهم أن يتخلوا عن هذا الهراء. ويبحثوا عن حجج أخرى، لا تنكر وجود مقاومة، وصراع حاد، وعداوة وصلت آخر مداها: الحرب، والحصار الخانق.
ولكن أنّى لمثل هذا الاعتراف، وأنّى لاحترام النفس، أن يطأطئا الرأس أمام الحرب، أو أمام الحصار الخانق ولسنوات. فهنالك تفسير أشدّ قبحاً. وهو القول: هذه الحرب تمثيلية، أو الحصار مجرد ذرٌ للرماد في العيون.
الذين يعتبرون الحرب تمثيلية، بما يعني يعتبرون الدمار والخراب والقتلى والجرحى تمثيلية. والأنكى حين تنتهي بهزيمة منكرة لجيش الكيان الصهيوني أو لأميركا (كما يحدث الآن في أفغانستان لأميركا عبر اتفاق هي شريكة فيه).
بهذا نكون أمام إشكالية يتوجب على حامليها أن يفسروا كيف يمكن أن يقبل الكيان الصهيوني أن يقوم بتمثيلية، «يتبهدل» فيها جيشه، ويسقط عنه «وشاح الجيش» الذي لا يُقهَر، ليبدأ سلسلة هزائم في قطاع غزة. وكيف يمكن أن تقبل أميركا لنفسها أن تنسحب وفقاً لاتفاق مع طالبان، وبالأشكال التي تم الانسحاب بها. وتمت بها سيطرة طالبان على كابول (المشهدان مخزيان لأميركا).
باختصار، كل ما له علاقة بالحرب يجب أن يفسّر على أنه حرب جادة، ولا مزاح في الحرب، ولا تمثيل في الحرب. وكذلك كل ما له علاقة بعقوبات وحصار كما تتعرض له فنزويلا أو إيران أو سوريا، أو حزب الله، أو قطاع غزة، يجب أن يُعامل باعتباره حرباً تعبّر عن عداوة بلغت مداها.
هذه الإشكالية تكررت، وبصورة فاضحة، مع المقاومة في قطاع غزة. فما اكتُفِيَ بحروب 2008/2009، و2012، و2014، وما اكتُفِيَ بالحصار الخانق الذي استمر 14 سنة، ولم يزل مستمراً، فقد استمر التشكيك بوجود مقاومة حقيقية، وبوجود عداوة تجاوزت أقصاها، كما يتكشف عنها الحصار والتجويع، ثم الشيطنة الخفية والظاهرة. وذلك حتى نصل إلى انتفاضة فلسطين، وحرب سيف القدس لعام 2021ـ ليلفظ التشكيك أنفاسه. طبعاً ليس «أنفاسه الأخيرة».
هنا أيضاً، حدث تجاوز لما تعنيه ثلاث حروب وقصف ومفاوضات وحصار، وتم التعامل مع المقاومة في قطاع غزة كأنها في غمار صراع سياسي عادي، وليس للحرب علاقة ودلالة إلى أين الصراع ذاهب؟ هل هو جهلٌ في ما هي الحرب باعتبارها أعلى أشكال العداوة والصراع؟ وهل هو جهلٌ في ما هو الحصار والعقوبات وتجويع الشعب، باعتباره شكلاً من أشكال الحرب، ومن أعلى أشكال العداوة والاشتباك؟
وكذلك ثمة من لا ينتبه أو راح يؤَّول على مزاجه ماذا يعني الحصار الأميركي على سوريا ووصوله إلى ما عُرف بقانون قيصر. والأهم ما معنى القصف الصاروخي الصهيوني الذي يكاد لا ينقطع على سوريا، فالبُعدان بمنزلة الحرب الحامية كأي حرب.
هكذا يجب أن تُفهَم الحرب، ويُفهَم الحصار بغض النظر عن موقفك مع أو ضد، أو عن رغباتك.
مرة أخرى الحرب تعبّر عن أعلى أشكال الصراع، وعن أعلى أشكال العداوة. فمن هنا يجب أن نبدأ، ومن هنا يجب أن نراجع مواقفنا ومنه يجب أن ننطلق.
وسوم: العدد 944