أخيرا عرفت الذين أحبهم
مصطفى مفتي
طالعني يوم الأربعاء الماضي (25- 12-2013) برتابة الأيام السابقة دونما جديد يذكر، إلا أن الأمل الذي يحمله نسيم الصباح في نصر المستضعفين في بلاد المسلمين ما يزال يراودني ويدفعني للعطاء وتقديم المستطاع.
وفجأة ودون سابق إنذار شعرت كأن أحدهم سدد لي لكمة على صدري، وبدأ الألم يتنامى، فما كان مني إلا أن هُرعت إلى الوضوء والصلاة في حركات وئيدة، استغفرت الله بعدها، وطلبت الصفح والمغفرة، ولم أطل كثيراً، ربما لاستمرار الألم وازدياده؟ وربما لكي لا أوهم نفسي بأنني مغادر في طريق باتجاه واحد لا عودة بعدها إلى المنزل؟ ولبست ما تيسر من الملابس التي وجدتها أمامي بسرعة، وأخرجت نقوداً وأعطيتها لرفيقة دربي أم رشدي لحفظها وإعطائها لأصحابها.
ثم دخلت المستشفى ومررت بتجربة المغذيات والوصلات والمذيبات وغرفة العمليات، فكان عطاء المنان لا يوصف، حيث مرت الأزمة على خير وبقي ما ترتب عليها من آثار أرجو الله أن يعيننا على تلافيها وعلاجها.
الحادثة متكررة على مر الزمان، ولكن ما يجول في خاطري أبعد من هذه الحدود، وأقصد الحب الحقيقي، وهو الحب في الله، الذي تجلوه الصعاب، وتجليه الأزمات والنائبات، وتبديه ساعات الضيق التي يقع فيها الإخوان.
نعم في هذه اللحظات التي يفر بها البعض من أخيه، ويختبئ لكي لا يتحمل شيئا من التبعات والتكاليف، شعرت أن إخواني هُرعوا إلي وكنت أطالع في وجوههم مزيجا من مشاعر الحب والخوف والصدمة مما ألمّ بي، وكنت أقرأ في عيونهم علامات الحب والمودة الإخلاص.
اكتشفت بعد ساعات قليلة في العناية المركزة كم افتقدت أسرتي، رفيقتي وأبنائي وبناتي، لم أكن أعلم أنهم يسيطرون على كل هذه المساحة من عقلي وقلبي ووجداني، وعرفت بالمقابل كم يحملون بين جنباتهم من الحب تُجاهي.
كنت أتضايق في بعض الأحيان من ضجيجهم ولعبهم، ولكنني أقول الآن: أهلاً
بكل ما يأتي منهم، أهلاً بكل ألوان الهتافات والصرخات والصيحات، أهلاً بكل المزعجات، أهلاً بأحبتي في كل الأوقات.
وفي ظل العائلة على الجانب الآخر والدي وإخوتي وإخواني الذين كتب عليهم الشتات على أيدي أنجس البرية من السلالة الأسدية، كان خوفهم علي يشعرني بأنني آخر العنقود مع أنني أوله، وذلك من كثرة اهتمامهم ولهفتهم ومتابعتهم واتصالاتهم، وكلماتهم التي أشعر بدفئها مع أن المسافات التي تفصلنا شاسعة بعيدة ولكنها تصلني بنفس الحيوية والدفء والحنان والشوق.
وخارج محيط الأسرة كان الأحبة مثالاُ للأخوة الحقيقية، التي كثيرا ما نبحث عنها في أعماق الذاكرة ونترحم على من فقدناهم باعتبارهم أمثلة مضت لا يمكن استنساخها أو تكرارها، فكان في صنعاء حالة من نفير شبه عام، أعلن فيه كل من جاء استعداده لتقديم ما يطلب منه، وهناك من انبرى لمتابعة حالتي وجمع التقارير وإرسالها إلى العديد من الأطباء في الدول العربية والأجنبية بعد عرضها على العديد من المتخصصين وكان ابني رشدي أحد هؤلاء وضابط الإيقاع في ذلك، وهناك من قال لي: لا تفكر إلا بصحتك، وتدبير المال أمر لا شأن لك فيه، ولو لم أستطع جمع ما يلزمنا للعملية سأبيع سيارتي وأضع ما لدي من المال فلا تقلق فالأمر محلول.
ولا أنسى في هذا المقام أصحاب القلوب والأفئدة اللينة الرقيقة أبناء يمن الإيمان والحكمة، حيث زارني عدد كبير من العلماء والمشايخ والعلماء وطلبة العلم والجيران من أبناء هذا البلد الكريم، فلا يكاد يغادرني معظمهم إلا بالدعاء العريض بالشفاء وراحة البال والنصر لإخواننا في سورية، والبعض منهم يختم زيارته بِرُقيتي، وكنت أشعر براحة حقيقة وتحسن في حالتي عقب ذلك.
فاليوم أقول بكل ثقة: عرفت الذين أحبهم، وهذا لا يعني بأنني لم أكن أعرف معظمهم ولكنني ازدت بذلك يقيناً وعرفت لماذا أحببتهم.
شرعت بالكتابة من داخل مستشفى العلوم والتكنولوجيا في صنعاء
في 30- 12- 2013م