المسلم الواعي
لكل مبدأ من المبادىء نظرته الخاصة في كل قضية من القضايا، وبما أن الإسلام مبدأ، فإن له نظرته الخاصة في كل شاردة وواردة في هذا الوجود، ومن أوليات هذه النظرات تلك النظرة الثاقبة التي ينظرها إلى الفرد، لأنه اللبنة الأولى في بناء صرح مجتمع قويم الدعائم قويها، لأن المجتمع الذي لا يعتني بأعضائه الذين يكونونه هو مجتمع مبتنى الأساس على شفا جرف هار لا يلبث أن ينهار، ولذا وجه الإسلام عناية فائقة نحو هذه اللبنة المكينة لتكون حضارته حضارة مثالية واقعية، لا يتخللها زيف، كما لا يعتورها أدنى حيف، فقد اشترط على أتباعه شرائط ثلاثاً ليميز منهم الخبيث من الطيب، أو ليعلم من منهم ذو الباع الطويل في العمل المجدي الذي يعود عليه وعلى من حذا حذوه بالخير الوفير ، ومن منهم الكَل المتواكل الذي يكون نكبة على الإسلام والمسلمين. وأولى هذه الشرائط هي العقيدة الصحيحة:
وهي الأس الذي ينبثق عنه كل ما عداه من تشريع ونظم، وبدونها لا يستقيم سير ولا تنتظم خُطا، بل تكون الهاوية التي سيتردى فيها كل من يحمل العقيدة الصحيحة إن آجلاً أو عاجلاً.. ولهذا اهتم بها الإسلام وكانت من أهدافه الأولى التي وجه إليها السهام المريشة ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة حيث شرع يدعو الناس إلى التوحيد، ويردهم عن الشرك الذي هو انحطاط عقلي لا يليق بالبشر، ويقنعهم بالحجج الدامغة بطلانَ ما إليه يذهبون، من تقليد للآباء والأجداد في مسائل حقيرة تنزل بالإنسانية دركات ودركات، ويحضهم على إعمال عقولهم فيما خلق الله، والتفكر في ملكوت الله، ولو ذهبنا نتفحص الآيات والسور المكية، لوجدناها مملوءة بما يبعث على تركيز العقيدة على أسس عقلية متينة، بحيث لو عرضت للمسلم الواعي، ما تزعزع له ومن هوله الجبال الشم الصلاب، لداسها بقدمين حديديتين، غير آبه لما تستند إليه من مزاعم ارتكزت على دعائم هي بجنب العقيدة، قزمٌ قميء لا يقوى على الوقوف ومغالبة الجبار العملاق الذي تمكن من نفوس المسلمين أيما تمكن، فملك عليهم أقطار عقولهم وجوانب نفوسهم، وبهذا بتنا نرى المسلم متحمساً للدعوة كأشد ما تكون الحماسة، جاهداً في نشرها و بسطها كأبين ما يكون النشر والبسط، لقد رأيناه ينساح في طول البلاد وعرضها، حاملاً إياها بعزيمة لا يتسرب إليها الكلال وقوة شكيمة لا يلويها ضعف.. ولذا أضحى في حكم المقرر، بل مقرراً أن تتمكن من نفوس الدعاة إلى الإسلام عقيدة صحيحة لا تشوبها شائبة شرك أو وثنية أياً ما كانت صورها وأشكالها، سواء أكانت في تقديس الزعماء الروحيين أم السياسيين، أم في عبادة لعب الحياة ولهوها من المال والنساء والأولاد... ومتى تركزت هذه العقيدة رأيت عجباً، لأنها ستكون حجر المحك الذي لا تخفى عليه خافية، حيث توزن جميع الأعمال بميزانها الحق، فسيتبين المليح من القبيح، وتظهر الأعمال جلية واضحة بعد أن ننفض عنها غبار التدليس والتمويه..
وثاني هذه الشرائط هو: العقل المنير:
وللعقل في الإسلام مكانة لم تبلغها جميع التشاريع السابقة واللاحقة، حتى في هذا العصر، وإنه لعصر الفوضى والضلال العقلي، أعني عصر الذرة والكهرباء، إذ العقل في الإسلام نتيجة طبيعية من نتائج عقيدة التوحيد التي ما يكاد يعتنقها إنسان عن دراية وفهم سويّ، إلا ويكون له ذلك العقل الذي يطرد الأوهام والخرافات، ويميز الغث من السمين.. وكيف لا يكون ذلك وقد قامت العقيدة الإسلامية على أسس للعقل فيها النصيب الأوفى إن لم أقل: إنه كان مقدماً على ما سواه من أسس، وهذا هو دستورنا الخالد شاهد عدل على صدق ما أقول، فإذا ما تصفحنا آياته الكريمة، فإننا سندهش لتلك الآيات الرائعة التي تحض على التفكر والنظر ليهتدي المشركون إلى الصواب من تلقاء أنفسهم، ذلك الصواب الذي يرتكز على المشاهدة، ويقويه الفكر الصحيح الصائب، فكم من مرة ومرة قال تعالى: "أفلا تعقلون" "أفلا تتفكرون" " أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى"، "وقالوا: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير" ونحوها من الآيات المحكمات التي تحبب بل تفرض على المسلم أن يكون ذا حصافة وكياسة وبعد نظر، صاحب العقل السليم، والعلم الصحيح، ومما يقره العقل والعلم معاً هو أن تصدق بأن ثمة أشياء لا يرقى إليها العقل ولا يدركها العلم مما يتصل بما وراء الطبيعة (الميتافيزيك) ومن هذه الأمور: إيمانك بالمعجزات والكرامات التي وردت من طريق صحيح...
ألا ليت المسلمين اليوم امتلكوا تلك العقيدة وهذا العقل فكانوا فطنين كيّسين لا يخدعهم مهرج كاذب، ولا تذهب بأبصارهم خزعبلات تدعو إلى الضحك والسخرية.. ليتهم طبقوا تعاليم دينهم الحنيف فحازوا على هذا العقل الذي يدحض دجل المدجلين ويفند أراجيف المرجفين، فلم ينظروا بعين الاعتبار لهذا الذي يتباكى لسماع الخطب وهو أبعد ما يكون تأثراً بها، وذاك الذي يطامن ظهره ويطأطئ من هامته ليلثم الأيدي، وليضحك -من بعدها- على الذقون المسكينة، بصلاته ركعتين خاشعتي المظهر، خبيثتي المدخل.. ليتهم حذروا دسائس الأجنبي الدخيل الذي فرق جمعهم وشتت شملهم بما بذر من بذور قذرة تعهدها بمائه الآسن وسماده الخبيث، حتى نبتت فأعملت معولها الهدام في بناء الأمة الذي هو عقيدتها، فكان ما نرى من تحلل وميوعة وإلحاد تدعو إليها جماعات ضالة مضلة تعرف كيف تصطاد في الماء العكر لأنها غذيت منه، فانتظمت شباباً متحمسين عن جهل فاضح بمعاني الإنسانية، وإسراع سريع وراء الشهوة معبودتهم...
أقول: ليت حصافة الزعيم الخالد وكياسته-(عليه وعلى من سار على دربه صلوات الله)- كانتا سمت المسلمين اليوم، إذاً لاندقت أعناق هذه المظالم الاجتماعية التي فتتت أكباد الملايين وفطرت قلوبهم وملأت بالغيظ والحقد نفوسهم وحرمتهم من نسائم الحرية التي هم بها خليقون، وإذاً لاندك صرح الضلال والطغيان-مرتين- ولسمقت دوحة العدالة.. دوحة الإسلام العظيم ولمدت ظلالها الوارفة، وإذاً لما كان ثمة أجنبي أو دخيل أو ملحد..
وثالث الثلاثة من هذه الشرائط: العمل الصالح:
فهو اللبنة الثالثة التي يقوم عليها بنيان المسلم الحق: الفكري منه والروحي والعملي، إذ ما قيمة العقيدة إذا لم تبدل في السلوك، وتغير من النظم؟ بل هل تكون ثمة عقيدة صحيحة إذا لم ينبثق عنها عمل صالح؟ إذاً لكانت هذه العقيدة أحقر وأهون من أن تسوّي معوجاً أو تقوّم منحرفاً، ثم ما قيمة العقل ونتيجة "العلم" إذا لم يجتثا الفساد من النفوس، ويشيعا الهدوء والطمأنينة فيها؟ وإذا لم يغرسا الغرس الصالح الذي يؤتي أكله طيباً كل حين؟.. ما قيمة علم لا أعمل به؟ لماذا أدرس الطب إذا لم أطبب المرضى؟ ولمَ أدرس الأدب والفلسفة والاجتماع إذا لم أنتفع به وأنفع؟ ألكي أكون من الأجادب التي تنفع الناس دون نفسها؟ أم لأكون من القيعان التي لا تمسك على نفسها ماء ولا على الناس؟ أي حمق هذا الذي يخرج من عالم لا يعمل بعمله؟ وهل أخطأ من قال:
وأي جهل قبيح يصدر من "عاقل" لا يفعل ما يأمره به عقله؟ ومن مؤمن صاحب عقيدة ومبدأ لا يلتفت إلى ما تأمره به عقيدته وتنهاه..
إذاً فالعمل الصالح ركيزة من ركائز ثلاث يقوم بناء المسلم عليها، فإذا ما انهارت ركيزة، لحقتها أختها حتى يكون البناء خراباً يباباً..
هذه هي الصفات التي ينبغي للمسلم الواعي أن يتصف بها ليكون من الدعاة إلى الله على بصيرة، وليواكب مواكب العظماء، وليسير بدينه قدماً فيكون من الخالدين الذين قلّوا عدداً في هذا البحر اللجي المتلاطم الأمواج، أمواج الفساد والضلال، في هذا المجتمع الذي نقول إنه يملك أربع مئة مليون مسلم.. وفي الحق أن هذه الصفات هي الأسس التي يقوم عليها المجتمع، فمتى افتقد إحداها كان مجتمعاً أعرج، ولا يمكن للأعرج أن يساير ركب الحضارة مهما افتعل من الأرجل الكاذبة، ومهما رأب من خلل مشيته العرجاء.. فإذا ما أحب المسلمون أن يكونوا على بصيرة من أمورهم، وألا يؤخذوا على حين غرة، فليتحلوا بهذه المكارم، وليتعمقوا بها حتى تجديهم نفعاً أكيداً، وما أظن المسلمين بمستطيعين قياماً أو قعوداً ما داموا مفتقدين واحدة منها.
فهيا يا شباب الإسلام، إلى المجد المنبثق عن هذه المكارم، هيا إلى الخلود الذي دعاكم إليه زعيمكم الخالد ورسولكم العظيم، هيا إلى الحياة تحيونها من جديد أعزة كراماً، هيا إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمؤمنين الواعين، لا للمنافقين الفاسدين، والمتواكلين المجاذيب الذين يحيون هذه الحياة ويرتضونها على ما فيها من جراثيم فتاكة لا يؤمن شرها، وممن جعلوا الدنيا ومتاعها غاية همهم، فهرعوا يروون ظمأهم من صديدها، ويملؤون فراغ بطونهم من لحمها المنتن، أو ممن تخاذلوا عن مجابهتها، وقعدت بهم هممهم الضعيفة عن مقارعة الفساد ومصاولة الطغيان، فقنعوا بالعيش الضنك، بل ابتاعوه ابتياعاً بثمن ضخم مكارم معدودة كانوا فيها من الزاهدين، فتعفرت جباه حريتهم وكرامتهم برغام الذل والمسكنة، وتلوثت بأقذار الأبالسة الطغاة والبغاة، فهيا هيا يا شباب الإسلام فإن أخوف ما أخاف عليكم أن تدعوا الفرصة السانحة تمر دون أن تقتنصوها فيفوت عليكم مجدٌ لم تؤثلوه بهممكم القعساء ولم تناضلوا دونه نضال الكرماء الأقوياء.. والله أكبر وحي على العمل لهذا الإسلام العظيم.
عبد الله الطنطاوي "رابطة الوعي الإسلامي"
مجلة التمدن الإسلامي، آذار 1957
وسوم: العدد 945