الأرضُ والإنسان
لن يكون البيت سكَناً مريحاً ما لم يجهزه صاحبه بناءً وأثاثاً وماءً وكهرباءً وغير ذلك من المستلزمات المُعِينة على الاستقرار والهناء.
وحين أراد المولى سبحانه أن يجعل الأرض دار امتحان وابتلاء أوجد فيها كل ما يحيي الإنسان ويعينه على العيش فيها ، وهذا ما نراه في قوله تعالى في سورة الكهف :
{ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7}.
يحتاج البشر الهواء والماء والطعام والشراب والمسكن والطرقات والأرض الصالحة للزراعة والملابس والخضرة والثمار ،والحيوانات : بعضها للأكل وبعضها للحمل والركوب ولربما كانت للأمرين أكلاً وحملاً وركوباً، وتحتاجُ البحارَ والجبال ..وقل ما تشاء من عوامل تحفظ الحياة وتخدم الهدف.
وسماها القرآن { زِينَة } ، ورأيت المفسرين في كتبهم يحاولون توضيح معنى الزينة ، فقال بعضهم: الرجالُ، وقال آخرون : الخلفاءُ والأمراء،وقال غيرهم: العلماءُ – كما ذكر القرطبي رحمه الله في تفسيره - ولا أراهم وفِّقوا في ذلك ، إنما الزينة – كما قلتُ- كل ما يجعل الحياة على الأرض من عواملَ لاختبار الإنسان فيها ، قال سبحانه في سورة المُلْك :
{ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)}
فمنهم من يتدبر فيؤمن ، فينجح في الاختبار ،ومنهم من يلهو فيُدبِر، فيسقط في شر أعماله.
قال صلى الله عليه وسلم:
(إن الدنيا خَضِرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون). وقال:
(إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا)
قالوا: وما زهرة الدنيا؟
قال: (بركات الأرض)
أخرجهما مسلم وغيرُه من حديث أبي سعيد الخدري.
فالدنيا مستطابة في تذوقها معجبة في منظرها، قد يهلك فيها الكثير وينجو منها البصير،ولهذا كان عمر يقول: اللهم إنا لا نستطيع إلّا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه.
فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه. وهذا معنى قوله عليه السلام:
(فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع) ، ذكره القرطبي رحمه الله.
فإذا ما انتهى دور الدنيا في اختبار الناس وابتلائهم في أعمالهم ( اقوالهم وأفعالهم) عادت الدنيا كما كانت من قبل لا زينة لها ولا حياة فيها، كما تُجهّزُ السرادقات للدراسة والامتحان ، فإذا تمّ الأمر وانتهى أقفرت من أساتذتها وطلابها، وطُوِيَت فلا حركة فيها ولا حياة.
قال عز وجلّ في الآية التالية للآية المذكورة آنفاً من سورة الكهف : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)}
فلو قال: لجاعلو ما عليها كانت { مَا } مضافاً إليها ، والأمر انتهى منذ زمن، فلمّا لم ينته الأمر أُثبتتِ النون في { لَجَاعِلُونَ } فصار المعنى للمستقبل – يوم القيامة- وأعربت { مَا } مفعولاً به.
فما الجُرُزُ؟
إنّه: الترابُ لا نبات به؛ كأنه قُطع نباته. والجرْز: القطع.والبترُ، فتعود الارض معدومة الحياة كما كانت سابقاً ، كأخواتها المشتري وعطارد ونبتون وأورانوس..لقد انتهت مهمتُها في احتواء من كتب عليه الابتلاء والامتحان.
قال الكسائي: يقال جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيها من النبات والزرع فهي مجروزة ، و قال تقدست أسماؤه في سورة السجدة :
{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)} ،
أي الأرض التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها؛ كأنه قطع وأزيل. وهذا يكون يوم القيامة؛ فإن الأرض تكون مستوية لا ترى فيها عِوَجاً ولا أمْتاً.
فالدنيا –إخوتي- حلوة نضرة تجذب طالبيها كما تجذب الحلوى الذباب، والمؤمن الذي ينظر بنور الله يعلم أن الدنيا دار فناء وأن الآخرة دار البقاء،
قال جلّ ثناؤه في سورة الصافات : { لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)}
* بتصرف بسيط جداً
وسوم: العدد 946