الخاطرة ٣٠٠ : فلسفة تطور الحياة (الروحي والمادي) الجزء ٨
خواطر من الكون المجاور
كما ذكرنا في مقالات ماضية أن الوصول إلى حقيقة تطور الحياة يجب أن يتم فيه استخدام جميع زوايا الرؤية في البحث في هذا الموضوع ، حيث أن كل زاوية تمثل جزء من الإدراك العام يساهم في الوصول إلى رؤية شاملة لموضوع تطور الحياة . في كل جزء من سلسلة " فلسفة تطور الحياة " نسلط الضوء على زاوية رؤية لعلم معين أو فن معين يشرح لنا وجهة نظر هذه الزاوية في هذا الموضوع . واليوم سنحاول استخدام زاوية رؤية فن الرواية .
تعريف الرواية بشكل مختصر هي سلسلة من الأحداث تستخدم اسلوب سرد نثري طويل يصف شخصيات - خيالية أو واقعية - وأحداث على شكل قصة متسلسلة تخلق في نفس القارئ نوع من التسلية والتشويق ولكن في الوقت نفسه تحمل رسالة إنسانية تشد إنتباه القارئ إلى شيء معين يؤثر في نفسيته وتفكيره لتغير من سلوكه نحو الأرقى.
فن الرواية ظهر منذ آلاف السنين من خلال الأساطير الشعبية أو قصص الأنبياء في الكتب المقدسة ، ولكن في القرن الثامن عشر ظهرت الرواية في أوروبا كنوع من الفن الأدبي له عناصره ومقوماته ونقاده . وما يجب علينا أن نعلمه هو أن فن الرواية لم يظهر في تراث الشعوب عن طريق الصدفة ولكن كونه يمثل جزء من تكوين الإنسان الروحي ، فكما أن جسم الإنسان يتكون من أجهزة كالمعدة و القلب .. إلخ ، حيث كل منها له دور تأمين حاجة من الحاجات الجسدية للإنسان ، أيضا التكوين الروحي للإنسان يحوي على إحساسات روحية لها دور في تحقيق الحاجات الروحية للإنسان ، فأجهزة تحقيق الحاجات المادية والروحية للإنسان لم توجد بالصدفة ولكنها تُعبر عن التكوين المادي والروحي للإنسان ، حيث فهم هذه الأشياء هي التي تحدد هوية نوع الكائن وكذلك درجة إختلافه عن بقية أنواع الكائنات الحية الأخرى .
فن الرواية كعنصر من عناصر التكوين الروحي للإنسان يساعدنا في فهم حقيقة نوعية الأحداث وعلاقتها مع بعضها البعض في تطور الإنسان . فكل إنسان يملك إحساس فن الرواية في تكوينه الروحي ، ولكن فقط الذي يملك هذا الإحساس بأعلى مستواه هو الذي يستطيع جذب الناس إلى قراءة رواياته لتجعل منه روائي مشهور . ولهذا فزاوية رؤية الفنان الروائي لنظرية تطور الحياة لها أهميتها في نقدها وتصحيحها ، ورأيه في تقييمها لا يقل كإثبات علمي عن رأي عالم الأحياء أو عالم الإحفوريات ، فنحن هنا لا نتكلم عن مادة جامدة حتى نفحصها فيزيائيا أو كيميائيا لنعرف تركيبها وخصائصها ولكن نتكلم عن أنواع حية تملك روح وهذه الروح تحدد سلوك كل نوع من أنواع الكائنات الحية فكل نوع له سلوك حياتي معين يؤثر ويتأثر بسلوك الأنواع الأخرى وكذلك مع البيئة الطبيعية المحيطة بها ، فبهذا التأثير المتبادل فيما بينها تنشأ الأحداث ومن خلال تطور الأحداث تنتج رواية لها بداية وحبكة ونهاية . فالأحداث التي حصلت أثناء تطور الحياة هي أيضا أحداث من رواية طويلة وإلى جانب زوايا رؤية بقية العلوم يجب البحث فيها أيضا بزاوية رؤية متخصص في فن الرواية لنرى فيما إذا كانت مقنعة روائيا أم لا . الروائي الذي يعتقد أن موضوع تطور الحياة لا يخصه وأنه من إختصاص علماء الأحياء وعلماء الهندسة الوراثية وعلماء الإحفوريات وغيرهم ، هو مُخطئ تماما ، فظهور فن الرواية في التكوين الروحي للإنسان ليس هدفه فقط تسلية القراء ولكن هدفه الحقيقي هو المساعدة في فهم حقيقة تكوين الإنسان وسبب وجوده على سطح الأرض.
ربما أشهر رواية في خلق الحياة هي الرواية التي يؤمن بها أتباع الديانات السماوية الثلاث ونقصد قصة خلق آدم وحواء . الملحدون ينظرون إلى هذه الرواية على أنها رواية خرافية ساذجة لا يقبل بها سوى بسطاء العقول . لذلك قبل أن نتكلم عن رواية خلق الإنسان وظهور الحياة كما هي في الكتب المقدسة ، سنحاول البحث في رواية نظرية التطور الداروينية كما يعرضها علماء التطور لنرى هل هي فعلا رواية يتقبلها العقل والمنطق كما يدعي المؤيدون لها .
إن سرد أحداث ولادة الحياة وتطور الأحداث فيها سيدفعنا إلى عرض رواية طويلة جدا ، ولكن هنا سنعرض رواية مختصرة جدا بطريقة رمزية تعبر عن حقيقة المبدأ الذي تعتمد عليه تلك الأحداث التي حصلت في رواية نظرية التطور الداروينية الحديثة . سنفترض أنه لدينا رواية ذات أحداث واقعية قد حصلت فعلا ، ولكن سنعرضها بطريقتين : الأولى مشابهة للمنطق الذي يرويه علماء نظرية التطور الداروينية ، والثانية مشابهة للمنطق الذي ترويه الكتب المقدسة .
الرواية حسب منطق علماء التطور هي بالشكل التالي : " في الصباح الباكر خرج حسن بثيابه الرثة من كهفه ، بعد ساعات قليلة من سيره شاهد مدينة تقع خلف النهر ، فعبر النهر ودخل إلى المدينة . أثناء سيره في المدينة كان سكانها يبتعدون عنه بسبب ثيابه الرثة ، ولكن عندما وصل إلى أمام أحد المطاعم ونظر إلى الداخل رآه صاحب المطعم وطلب منه أن يدخل وقدم له الطعام وتكلم معه . بعد خروج حسن من المطعم تابع سيره فوصل أمام بيت كبير ، فوقف هناك ، وبعد لحظة رآه صاحب البيت وتمعن فيه قليلا ثم طلب منه الدخول إلى بيته ، واعطاه ثياب نظيفة وفرس . خرج حسن راكبا فرسه إلى الشارع وتابع سيره حتى خرج من المدينة ، عندما وصل إلى أحد الحقول رأى بجانب إحدى الأشجار صخرة كبيرة ، فتمعن بها جيدا ونزل من فرسه و أبعد الصخرة عن مكانها وراح يحفر التربة فوجد صندوقا مدفونا تحت التراب ، وعندما فتحه وجد فيه كمية كبيرة من المجوهرات و أساور وسلاسل ذهبية ، فحملها وذهب إلى المدينة . بهذا الكنز الذي وجده حسن استطاع أن يكون سراً جيش كبير من سكان المدينة ، وفي إحدى الأيام هجم بجيشه على قصر الملك وقبض عليه وعلى حاشيته ، وأصبح هو ملكا على البلاد بأكملها "
هذه الرواية بالشكل الذي ذكرناه لكم لن تقبل أي دار نشر بطباعتها في كتاب ونشرها ، لأنها رواية ركيكة مملة ولا تحقق أي شرط من شروط الرواية . فبدايتها عشوائية ، وشخصية بطل الرواية حسن أيضا شخصية عشوائية ، وأحداثها أيضا عشوائية تحصل عن طريق الصدفة ولا يوجد حدث يبرر وقوع الحدث الذي يليه لهذا لم تكن هناك أي حبكة للرواية تجعل أحداث البداية تنسجم مع أحداث النهاية . فصحيح أن لها بداية ونهاية ولكن لا يوجد أي رابط بين تلك الأحداث لتشد القارئ إلى متابعة قراءتها ليصل إلى تلك النهاية . والأهم من كل هذا هو أن هذه الرواية لا تحمل أي رسالة تفيد القارئ في تحسين سلوكه نحو الأرقى .
هكذا تماما هي أيضا رواية نظرية التطور الداروينية . حيث في البداية نجد ولادة الحياة تحدث فجأة بالصدفة ، وفي النهاية نجد وبالصدفة أيضا يظهر نوع جديد من الكائنات الحية يدعى (إنسان) يملك عقل عبقري يستطيع أن يسيطر على جميع أنواع الكائنات الحية ، تماما مثل (حسن) الذي خرج من الكهف بثيابه الرثة وفي النهاية أصبح ملكا على البلاد بفضل الكنز الذي وجده أيضا بالصدفة . جميع أحداث نظرية التطور مشابهة لأحداث رواية (حسن) فجميعها عشوائية لأنها تحدث بالصدفة ، فبالصدفة خرج حسن من كهفه ، وبالصدفة ذهب إلى المدينة ، وبالصدفة رحب به صاحب المطعم وصاحب البيت الثري ، وبالصدفة وجد الكنز ، وبالصدفة قرر أن يصبح ملكا على البلاد !
يستخدم علماء التطور مصطلح (الطفرة) بدل مصطلح (الصدفة) في تبرير تطور الأحداث وظهور الأنواع ولكن المبدأ فيهما هو نفسه ، فلا يوجد أي علاقة للحدث مع رغبات بطل القصة ونقصد هنا (الحياة) ، فبطل القصة لا شخصية له ولا هدف ، هو فقط يشارك بها وكأنه دمية بلا روح تتلاعب به الظروف كما تشاء .
الإثباتات العلمية التي يقدمها مؤيدي نظرية التطور الداروينية في محاولة التأكيد على صحة هذه النظرية ، هي مشابهة لتلك الإثباتات التي يمكن تقديمها على صحة وقوع احداث رواية (حسن) ، فصحيح أن حسن خرج بثياب رثة من كهفه ، وصحيح أنه وصل إلى المدينة ، وصحيح أن صاحب المطعم رحب به ، وانه وجد كنز ، وأنه أصبح ملكا على البلاد . ولكنها تبقى رواية ركيكة ساذجة ولن تقبل في نشرها أي دار نشر .والسبب هو أن كاتب الرواية لا يفقه شيئا بفن الرواية وشروطها . ولو كان للروايات مثل هذا السيناريو الركيك لاندثر فن الرواية فور ولادته، ولما كان هناك شيء اسمه (رواية) في تراث المجتمع الإنساني .
لنرى الآن أحداث الرواية بشكلها الحقيقي : " حسن هو أمير ابن ملك البلاد الذي تآمر عمه عليه عمه ، حيث قام بإغتياله واغتيال جميع أفراد الأسرة الحاكمة للسيطرة على العرش ، فقط حسن هو من نجى واستطاع الهروب ، ولهذا بقي لفترة طويلة مختبئا في الكهف بعيدا عن انظار رجال عمه الذين كانوا يبحثون عنه . ولكن بعد فترة وعندما حان الوقت للإنتقام من عمه خرج واتجه إلى المدينة متنكرا بثيابه الرثة لكي لا يعرفه أحد ، وعندما وقف أمام المطعم كان يعلم أن صاحب المطعم كان طباخا في قصر أبيه الملك وكون الأمير حسن كان يعلم أن الطباخ كان يحبه كثيرا وأنه لن يفضح أمره أمام الناس ، وقف أمام المطعم ينتظر من صاحبه رؤيته ، فاستقبله صاحب المطعم وقدم له الطعام . أما صاحب البيت الذي قدم له الثياب النظيفة والفرس فهو صديق أبيه الذي ساعد الأمير حسن في الهروب ، وكان ينتظره ليبحث معه عن خطة في مواجهة جيش عمه لاسترجاع العرش منه . أما الكنز الذي وجده فهو كنز المملكة الذي هرب به حسن أثناء هجوم جيش عمه على القصر .فهذا الكنز هو في الأصل من ممتلكات الأمير حسن كونه الوريث الشرعي الوحيد للعائلة الحاكمة.
فشخصية بطل الرواية (الأمير حسن) ليست غامضة عشوائية ولكنها تتمتع بصفات معينة تتناغم مع طبيعة ووجهة تطور الأحداث التي تسير لتصل إلى الحبكة ومنها تواصل تطورها لينتج عنها تلك النهاية . أحداث رواية (الأمير حسن) تسير بشكل منطقي وتخلق مناخ مسلي ومشوق في نفس القارئ ، وكذلك تحمل رسالة إنسانية تدخل العقل الباطني للقارئ بأن الخير قد يُهزم في معركة ولكنه سينتصر في النهاية وأن لكل ظالم نهاية .
رواية تطور الحياة الحقيقية مشابهة لرواية (الأمير حسن) من حيث المبدأ في نوعية الشخصيات وتطور الأحداث ، وظهور كائن حي في النهاية يدعى (إنسان) يمتلك عقل عبقري مكَّنه من السيطرة على جميع الكائنات الحية الأخرى، لم يحدث بالصدفة كونه فجأة وجد كنزا مدفونا تحت الأرض ، بل لأن قصة (الإنسان) مثل قصة حسن ، فحسن هو في الأصل صاحب هذا الكنز ، ولم يخرجه إلا بعد أن وصلت الأمور إلى الوضع المناسب ليستخدمه في تحقيق أهدافه .
اﻷديب الروسي الروائي فيودور ديستوفسكي عندما رأى منطق مبدأ (حصل بالصدفة) يدخل في قاعدة الفكر الإنساني في القرن التاسع عشر من خلال نظرية داروين وأدلة كارل ماركس في إثبات عدم وجود الله وأن تطور المجتمعات قد حصل بالصدفة بسبب صراع المتناقضات . شعر بخطورة هذا المنطق على إدراك حقيقة الأمور في البحث العلمي والفكري ، فذهب وكرس كل ما يملك من معارف فلسفية ودينية ونفسية وبراعة في الصياغة اﻷدبية ليكتب روايته الخالدة " اﻷخوة كارامزوف " لتكون جرس إنذار يدق بأعلى صوته ليستيقظ المثقفون ليروا حقيقة ما يحدث ، حيث ذكر في روايته عبارته الفلسفية الشهيرة " إن لم يكن الله موجود فإن كل القيم واﻷخلاقيات تسقط عن نفسها ويصبح كل شيء مباح من أصغر الذنوب إلى أبشع الجرائم".
كلمة (الله) في عبارة الروائي فيدور ديستوفسكي في الحقيقة لم يقصد بها (الله تعالى خالق كل شيء) ولكن قصد بها ذلك الجزء من روح الله الذي يكمن في التكوين الروحي للإنسان . فإن عملية حذف الشعور بوجود هذه الروح في الإحساس الإنساني ، سيؤدي إلى تحويل المجتمع الإنساني إلى مجتمع حيواني ، مجتمع بلا أخلاق ، بلا مبادئ ولا قوانين ، وستقوم بتحويل الإنسان إلى كائن عشوائي يسعى إلى تحقيق فقط جميع رغبات نفسه الدنيئة . فهذا الجزء من روح الله في تكوين الإنسان هو الذي يدفع الإنسان بالشعور بوجود ترابط بين الأحداث مع بعضها البعض وبين السبب والنتيجة . فهذه الروح هي التي تمثل شخصية بطل الرواية وبدون وجود هذا البطل سينتج عن ذلك عدد كبير من الأبطال المزيفين حيث كل بطل ستكون له أحداث خاصة به لا علاقة لها بالأحداث الأخرى ، وعندها سنحصل ليس على رواية متكاملة بل على أحداث عشوائية ليس لها بدايه ولا نهايه واضحة ، تدفع المجتمعات نحو العودة إلى الوراء ، وعندها ستكون خاتمة هذه الرواية إنقراض الإنسانية .
الكتاب الأول من التوراة سفر التكوين يبدأ بقصة خلق الكون وخلق الكائنات الحية وخلق الإنسان ، وينتهي بقصة حياة النبي يوسف عليه الصلاة والسلام . العنوان (التكوين) ليس صدفة ولكن حكمة إلهية لها معنى أن قصص الأنبياء ليست فقط بمثابة احداث تاريخية ولكنها أيضا أحداث رمزية تساعدنا في فهم التكوين الروحي والمادي للإنسان . ولهذا نجد في القرآن في سورة يوسف الآية تذكر {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ(٣)} . فذكر الأحداث بطريقة معينة في الكتب المقدسة هي لتنمية الإحساس الفني الروائي ، ليساعدنا في اختيار أفضل عرض روائي في الأبحاث المختلفة ، وهذا لا يتحقق إلا باستخدام رؤية شاملة تسمح لنا برؤية الحدث من جميع زواياه ، فكلما كان عدد زوايا الرؤية أكبر كلما كانت الرواية أجمل وأقرب إلى الحقيقة ، والعكس صحيح فكلما كان عدد زوايا الرؤية أقل كانت الرواية مملة وركيكة وأبعد عن الحقيقة ، ولهذا نجد أن معظم معارضي نظرية التطور الداروينية الحديثة هم من أولئك الذين يملكون إحساس أدبي وفني وديني ، لأنها تتناقض مع المنطق الفكري الذي يمثلهم. وكما ذكرنا في بداية المقالة ، لا يمكن لمؤيدي نظرية التطور الداروينية أن يهملوا إحساس هؤلاء ، لأن أهمالهم للرأي الروحي سيجعل من نظريتهم تبقى ضعيفة وغير مقنعة لنصف سكان العالم على الأقل ، ونتائج الإحصائيات العالمية بخصوص هذا الموضوع هي أكبر إثبات علمي على ذلك.
بسبب طول المقالة ، تم تقسيمها إلى مقالتين . في المقالة القادمة إن شاء الله سنشرح رواية تطور الحياة كما هي مذكورة في الكتب المقدسة ، لنبين للملحدين بأن عمى البصيرة وسوء الظن هو الذي يدفعهم لعدم فهم حقيقة هذه الرواية.
وسوم: العدد 952