قدوة القيادة في الإسلام 3
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة الثالثة : نماذج من الفتنة
د. فوّاز القاسم / سوريا
ولقد تعرّض رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى جميع أنواع الابتلاءات والفتن من أجل دينه وعقيدته ، منها المعنوي ، ومنها المادّي ، ليكون في صبره عليها وتحمّلها قدوة للقادة والدعاة وأصحاب المباديء ، وهذه بعض نماذجها :
ابتلاء اليتم ، وموت الأحباب :
فلقد ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم _و هو حبيب الله ومصطفاه، والمرشح لقيادة خير أمة أخرجت للناس _ يتيماً ..
فقد مات أبوه عبد الله ، وأمُّه حامل به لشهرين .
ثم لم تلبث أُمه آمنة أن ماتت هي الأخرى ، وعمره لا يتجاوز السنوات الست .
ثم لم يلبث جده وكافله عبد المطلب ، أن مات هو أيضاً ، وعمره لا يتجاوز ثماني سنوات .
فعاش طفولته كلها بعيداً عن حنان الأم ، وعطف الأب ، وحدب الجد. واستقبل التكليف الرباني بصفاء اليتم وشفافية الوحدة .
كما ابتلاه الله بموت أولاده الذكور دون الإناث ، حتى سماه المشركون الأبتر ، وذلك إمعاناً في السخرية منه .!
وما ان حل العام العاشر من بعثته الشريفة ، حتى توفى الله زوجته خديجة رضي الله عنها ، وألحق بها عمَّه أبا طالب بعد أقل من شهرين من نفس العام …ولقد كانت خديجة رضي الله عنها كما قال ابن هشام : وزير صدق على الإسلام ، يشكو إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويجد عندها أنسه وسلواه . أما أبو طالب ، فقد كان عضداً وحرزاً في أمره ، وكان ناصراً له على قومه ..
يقول ابن هشام : فلما هلك أبو طالب ، نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياته ..
كل ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم صابر، محتسب ، راض بقضاء الله ، لا يزيد على أن يقول: (( حسبنا الله ونعم الوكيل ، وإنا لله وإنا اليه راجعون ، ولا نقول إلا ما يرضي الله )) .
ابتلاء الفقر وشظف العيش :
لقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حياته فقيراً كادحاً متقشفاً.
بعيداً عن حياة البذخ والترف والإسراف . فهو لم يشبع من خبز البر حتى قُبض . وكان ينام على الحصير فيؤثر في جنبه .!
وكان يباشر أسباب رزقه بنفسه . فكان يرعى الغنم ، كما روى البخاري عنه قال : ((كنت أرعى الغنم على قراريط لأهل مكة )) . ويشتغل بالتجارة ، فلقد سافر إلى الشام مرتين في الأقل لأغراض التجارة ، مرةً مع عمه أبي طالب وكان له من العمر اثنتا عشرة سنة. ومرة لوحده مضارباً بأموال خديجة ، وهو في الخامسة والعشرين من العمر.
وكم أجدني راضياً أن أنقل هنا كلمات الدكتور البوطي اذ يقول في سيرته ما نصه : ( لقد كان سهلاً على القدرة الإلهية أن تهيئ للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في صدر حياته من أسباب الرفاهية ووسائل العيش الكريم ما يغنيه عن الكدح ورعاية الأغنام والأسفار الشاقة سعياً وراء لقمة العيش . ولكن الحكمة الإلهية تريد منا أن نعلم، أن خير مال الإنسان ، ما اكتسبه بكدّ يمينه ، ولقاء ما يقدمه من الخدمة لمجتمعه وبني جنسه. وأن صاحب أية دعوة لن تقوم لدعوته أية قيمة بين الناس ، اذا ما كان كسبه ورزقه من وراء دعوته ، أو على أساس عطايا الناس وصدقاتهم .
ولذا فقد كان صاحب الدعوة الإسلامية أحرى الناس كلهم بان يعتمد في معيشته على جهده الشخصي أو مورد شريف لا استجداء فيه . حتى لا تكون لأحد من الناس عليه منّة أو فضل في دنياه ، فيعيقه ذلك عن أن يصدع بكلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم ).
بوطي ص67 .
الأذى والابتلاء من المشركين :
لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مع إخوانه المؤمنين في مرحلة الاستضعاف المكية ، الى أصناف من الأذى والابتلاء من قبل المشركين ، بما لا يصبر عليه إلا الصفوة من البشر . وتسهيلاً للفهم فانني سأقسم البحث الى قسمين: أ. الأذى المعنوي ب. الأذى المادي
أ_ الأذى المعنوي : ويشمل مايلي :
1. السخرية من العقيدة ، ومنع أداء الشعائر التعبدية :
فقد منع المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم ، من أن يجاهر بعبادته ، وضيّقوا عليه وعلى أصحابه في ذلك حتى ألجؤوهم الى شعاب الجبال . وهنا أود أن اؤكد أن مشكلة المسجد وإقامة شعائر الصلاة والعبادة فيه بصورة علنية وجماعية ، لم تكن مطروحة في هذه المرحلة بل هي من سمات مرحلة التمكين . واقرأ معي إن شئت قوله تعالى: (( الذين إن مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة)) . الحج وهذا لا يتعارض مع ما للصلاة من أهمية عظيمة في تربية القاعدة الصلبة من المؤمنين ، وإعدادهم وتهيئتهم للدور العظيم الذي ينتظرهم في تحمل أعباء الرسالة الجديدة ، يعكسها فرض الله لها في أوقات مبكرة جداً من الدعوة المباركة ، إنما نتكلم عن إقامتها بشكل جماعي وبصورة منظمة . ولذلك ما إن وطئت أقدام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أرض مهجره ، حتى بنى المسجد الشريف ، وأقام الشعائر العبادية فيه، وذلك حتى قبل أن ينزل متاعه عن رحله .!
2. فتنة التهديد :
لقد مارس المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كل وسيلة لثنيه عن تبليغ دعوة ربه. ومن جملة هذه الأساليب ، التهديد له ولأصحابه ، ولعمه أبي طالب الذي كان يحميه ، على الرغم من أنه كان على دين قومه .
فقد ذكر ابن هشام : أن المشركين مشوا إلى أبي طالب ، لما فشا أمر الإسلام في مكة ، يهددونه ، ويتوعدونه ، إما أن يكف عنهم ابن أخيه، أو ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين. وكانت هذه التهديدات بمثابة حرب نفسية ذات أثر معنوي مرعب .
لم يصمد لها أبو طالب في البداية ، فجاء يناشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخفف عنه عبء قريش ، وأن لا يحمله منهم ما لا يطيق . ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف كالأسد الهصور ، يعلن كلماته الخالدة ، التي لا يزال صداها يجلجل في أرجاء الكون ، والتي ستبقى نبراساً لكل القادة والدعاة من بعده : ((يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته)) هشام1(266 )
3. فتنة الإغراء :
ومن الوسائل التي جربوها أيضاً ، فتنة الإغراء .
فقد عرض عليه عتبة بن ربيعة ، وكان سيّداً ذا بصيرة ورأي في قومه فقال : ( يا بن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً . وإن كنت تريد به شرفاً، سودناك علينا حتى لانقطع أمراً دونك . وإن كنت تريد به ملكاً ، ملّكناك علينا) . بوطي ص110 .
وروى الطبري وابن كثير وغيرهما أن نفراً من المشركين فيهم الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، جاؤوا فعرضوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطوه من المال حتى يكون أغناهم ، وأن يزوجوه أجمل أبكارهم ، على أن يترك شتم آلهتهم ، وتسفيه أحلامهم. فلما رفض إلا الدعوة الى الحق الذي بُعث به .
قالوا : فتعبد آلهتنا يوماً ونعبد إلهك يوماً.! فرفض ذلك أيضاً وقال: (( يا قوم .. والله ما بي ما تقولون ، وما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فان تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليَّ ، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم)) . بوطي ص112.
إصرار عجيب على الدعوة ، وتمسك كامل بالخطة ، وصبر عنيد على الفتنة . ثم ما لبث أن جاء الوحي يؤيد هذا النهج ويدعمه :
((قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دينِ )) الكافرون
4. الحرب النفسية والإعلامية :
لقد سلطت الجاهلية على رسول الله صلى الله عليه وسلم حرباً نفسية وإعلامية هائلة . فقد اتهموه بأنه كاهن ، واتهموه بأنه مجنون ، واتهموه بأنه شاعر ، وساحر ، الخ .!
كل ذلك و رسول الله صلى الله عليه وسلم، مظهر لأمر الله لايستخفي به . مبادلُهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم على كفرهم.
وكان كلما مرّ بهم غمزوه ببعض القول حتى يُرى ذلك في وجهه . قال ابن هشام حدثني بعض أهل العلم : إن أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش ، أنه خرج يوماً فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه ، لاحرٌّ ولاعبد ، فرجع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الى منزله ، فتدثّر من شدة ما أصابه ، فأنزل الله عليه : (( يا أيها المدثر، قم فانذر ))المدّثر(1).
وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وهو يعد بحق زعيم الامبراطورية الإعلامية المعادية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة والجزيرة كلها ، كان قد قدم الحيرة ، وتعلم منها أحاديث ملوك فارس ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً فذكّر فيه بالله ، وحذّر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام . ثم قال : أنا والله يا معشر قريش ، أحسن حديثاً منه ، فهلمّ إليّ فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، وما حديثه إلا أساطير الأولين .! ثم يحدثهم عن ملوك فارس ثم يقول : بماذا محمد أحسن حديثاً مني .؟ قال ابن هشام : وهو الذى قال : سأنزل مثل ما أنزل الله .!وقال ابن اسحق : وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول : نزل فيه ثمان آيات من القرآن . قول الله عز وجل :
(( إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين)) .
وكل ما ذكر فيه من الأساطير في القرآن . هشام1 (300 )
وكان بعضهم إذا مر وسمعه يتلو آيات الله يقول : لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون . أي اجعلوه لغواً وباطلاً ، واتخذوه هزواً ، لأنكم إن ناظرتموه وجادلتموه غلبكم …
وكان مجموعة من المشركين وعلى رأسهم أبو جهل ، يسخرون من القرآن ، ويتهكّمون على العقيدة ..
فلقد قال أبو جهل يوماً ساخراً : يا معشر قريش ، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار ويحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عدداً وكثرة ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم .!؟ فأنزل الله : (( وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا)).المدثر(31)،هشام1(313)
ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمه أبي لهب ، وزوجته أم جميل أشد أنواع الأذى ، حتى ان أم جميل كانت تطرح في طريقه الشوك حيث يمر.. فانزل الله فيهما : (( تبت يدا أبي لهب وتبّ ، ما أغنى عنه مالُه وما كسب ، سيصلى ناراً ذات لهب ، وامرأتُه حمالةَ الحطب ، في جيدها حبلٌ من مسد )). هشام1(355 )
ولما سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن ، أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وفي يدها (فِهْر) من حجارة .
فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم تعد ترى إلا أبا بكر . فقالت : يا أبا بكر، أين صاحبك فقد بلغني أنه يهجوني !؟ والله لو وجدته لضربت بهذا الفِهْرِ فاه .!
ثم انشدت : مذمما عصينا .. وأمرَه أبينا .. ودينَه قلينا ..
ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يارسول الله أما تراها رأتك .!؟
فقال صلى الله عليه وسلم: (( لقد أخذ الله ببصرها عني )).!!
ثم بلغت القِحّةُ والنذالة ببعض المشركين ، أن يتجرؤوا فيبصقوا في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقد روى ابن هشام فقال : كان أُبيّ بن خلف وعقبة بن أبي معيط ، صديقين متصافيين ، حسناً ما بينهما ، وحدث أن جلس عقبة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فاستمع منه ، فبلغ ذلك أُبيّاً ، فأتى عقبة فقال : ألم يبلغني أنك جالست محمداً وسمعت منه.!؟ قال بلى .
قال : وجهي من وجهك حرام أن أكلمك ، إن أنت جلست إليه أو سمعت منه ، أو لم تأته فتـتفل في وجهه .
ففعل ذلك عدوُّ الله عقبة بن أبي مُعيط لعنه الله .!
فأنزل الله فيهما : (( ويوم يعضُّ الظالم على يديه ، يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً ، يا ويلتا ليتني لــم أتخذ فلاناً خليلاً ، لقــد أضلني عـن الذكر بعــد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولاً)) الفرقان(27). هشام1 (361 ).
ولم تقتصر المعركة الاعلامية على مكة بل تعدتها الى الجزيرة العربية كلها . فكان من جملة ما يؤذون به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يسخروا منه أمام الضيوف والوافدين الى مكة ، ويشوهوا سمعته بين القبائل العربية .!
فكثيراً ما كان يمشي خلفَه عدوُّ الله أبو لهب ، وهو يطوف على القبائل في موسم الحج ، ويعرض نفسَه عليها ليمنعوه حتى يبلغ رسالة ربه ، وعمُّه أبو لهب وراءه يقول : لا تسمعوا منه فأنه كذاب. غضبان(ص141)
ولقد روى ابن هشام عن ابن اسحق قال : قدم رجل من إراشة (بطن من خثعم) بإبل له مكة فابتاعها منه أبو جهل ، فمطله بأثمانها ، فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناحية المسجد جالس، فقال : يا معشر قريش ، من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام ، فإني رجل غريب ابن سبيل ، وقد غلبني على حقي ، قال : فقال له أهل ذلك المجلس : أترى ذلك الرجل الجالس – وأشاروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم يهزؤون به ، لما يعلمون ما بينه وبين أبي جهل من العداوة – اذهب إليه فانه يؤديك عليه .!
وفعلاً ذهب الإراشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقام معه الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى أنصفه من أبي جهل بتأييد الله وعونه . هشام1(390)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا جلس في المسجد ، وجلس إليه المستضعفون من أصحابه ، من أمثال خباب ، وعمار، وصهيب، وأشباههم من المسلمين ، رضوان الله عليهم ، سخرت منهم قريش .
وقال بعضهم لبعض: أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا ..!؟
لعمرو الله ، لو كان ما جاء به محمّدٌ خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء .!
وكان من جملة ما يؤذونه به صلى الله عليه وسلم ،أن يعيروه بنسله.!
فقد روى ابن هشام عن ابن اسحق قال : كان العاص بن وائل ،اذا ذُكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه قال : دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو مات لانقطع ذكره ، واسترحتم منه. فأنزل الله :
((إنا أعطيناك الكوثر )) . ما هو خير له من الدنيا وما فيها …
ولقد بلغت ذروة التكذيب والتضليل ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عندما أكرمه الله بمعجزة الإسراء والمعراج .
فلما أصبح وحدث الناس بها ، طفِقَ المشركون يجمع بعضهم بعضاً، ليتناقلوا هذا الخبر الطريف ويسخروا منه.
5.الاتهام بالعمالة للأجنبي:
لا يعدم الأعداء في كل زمان و مكان ، أن يجدوا تهمة يلصقونها بالإسلاميين ، ومن أقدم هذه التهم (العمالة للأجنبي ).
فلقد اتهموا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له :
(ولقد علمنا أن الذي يعلمك هذا رجل باليمامة اسمه الرحمن ، ووالله لا نؤمن بالرحمن أبداً ) .غضبان ص 106 …
وهم يعلمون تماماً ، مدى كذبهم في هذا الاتهام ، ومدى تجنيهم عليه في هذا الادعاء …
6. إيذاؤه في عِرْضه :
لقد كانت واحدة من أخس وسائل الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، هي إيذاؤه في بناته.
فقد أمر عدوّ الله ، أبو لهب ، ولديه ، بتطليق بنتي الرسول صلى الله عليه وسلم ، اللتين كانتا تحتهما ، وذلك إيغالاً منه في الأذى لنفس رسول الله الحساسة ، وروحه الشفافة ، صلى الله عليه وسلم .
كما قام أبو سفيان مع مجموعة من رجاله بالتعرض لإحدى بناته ، وهي زينب رضي الله عنها ، ومنعوها من الهجرة واللحوق بأبيها .
ولقد أورد ابن هشام عن ابن اسحق ، أن هبَّار بن الأسود بن المطلب، روّعها وهي في هودجها حتى سقطت على صخرة وهي حامل فطرحت ما في بطنها .
وذكر عن غير ابن اسحق ، أن هبَّاراً نخس بها الراحلة فسقطت على صخرة وهي حامل ، فهلك جنينها ، ولم تزل تهريق الدماء حتى ماتت بالمدينة .!! هشام1(654) وانظر الاستيعاب والروض الأُنف .
ب_ الأذى المادي :
ومن أشكال الأذى المادي الذي تعرض له رسول الله صلى الله عليه وسلم :
أولا : الأذى البدني :
لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في حياته الدعوية إلى أصناف من الأذى البدني لا يصبر عليها إلا أصحاب المبادىء، مثل:
1.القاء التراب على رأسه الشريف .
قال ابن اسحق : ثم إن خديجة بنت خويلد ، وأبا طالب هلكا في عام واحد ، فتتابعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم المصائب بهلك خديجة ، وكانت له وزير صدق على الاسلام ، يشكو إليها .
وبهلك عمه أبي طالب ، وكان له عضداً وحرزاً في أمره ، ومنعة وناصراً على قومه ، وذلك قبل مهاجره الى المدينة المنورة بثلاث سنين . فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم، مالم تكن تطمع به في حياته، حتى اعترضه سفيه من سفهائهم فنـثر على رأسه تراباً ، ولما دخل إلى بيته والتراب على رأسه الشريف ، قامت إليه إحدى بناته ، فجعلت تغسل التراب عن رأسه وهي تبكي ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها: ((لاتبكي يا بنية فان الله مانع أباك)).. ويقول بين ذلك : (( ما نالت مني قريش شيئاً أكرهه ، حتى مات أبو طالب )).هشام1 ( 416 )
2.إلقاء رحم الشاة على ظهره وهو يصلي ، أو رميها في برمته .
قال ابن اسحق : كان النفر الذين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته ، أبو لهب ، والحكم بن العاص بن أمية ، وعقبة بن أبي معيط ، وعدي بن حمراء الثقفي ، وابن الأصداء الهذلي ، وكانوا جيرانه لم يُسلم منهم أحد إلا ابن أبي العاص
فكان أحدهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصلي ، وكان أحدهم يرميها في برمته( قدر من حجر ) اذا نُصبت له .
حتى اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً (حائطاً ) يستتر به منهم إذا صلى .وكان إذا طرحوا عليه الأذى ، يخرج به على العود ، فيقف على بابه ثم يقول :(( يابني عبد مناف ! أي جوار هذا .!؟ )).
ثم يلقيه في القمامة . هشام1 (416) .
ولقد تكرر هذا الموقف المشين أكثر من مرة ، فقد روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم ، ساجد في الحرم وحوله ناس من قريش ، جاء عدو الله ، عقبة بن أبي معيط ، بسَلا جزور ، فقذفـه على ظهـر النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يرفع رأسه ! فجاءت فاطمة رضي الله عنها ، فأخذته فطرحته عنه وهي تدعو على من صنع ذلك بأبيها …
3.ومن الأذى محاولة الخنق .
فقد روى البخاري أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة، اذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط ، فوضع ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه ، حتى أخذ بمنكبه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يقول : أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله .!؟
4.ولعل من أقبح أنواع الأذى البدني ، ما تعرض له النبي صلى الله عليه وسلم ، أثناء رحلته الشهيرة الى الطائف.
وقصة ذلك باختصار : أنه لما نالت قريش من النبي صلى الله عليه وسلم ، ما وصفناه من الأذى ، خرج الى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، ويرجو أن يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله عز وجل .
ولما انتهى صلى الله عليه وسلم الى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف ، هم يومئذ ساداته ، فجلس إليهم ، ودعاهم إلى الإسلام ، وكلمهم بما جاءهم من أجله . فردوا عليه رداً منكراً، وفاجؤوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم ، وهو يرجوهم أن يكتموا خبر مقدمه إليهم عن قريش .
فلم يجيبوه إلى ذلك أيضاً ، ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، يسبّونه ويصيحون به ، وجعلوا يرمونه بالحجارة ، حتى دميت قدماه ، وزيد بن حارثة رضي الله عنه ، يقيه بنفسه ، حتى لقد شُج في رأسه عدة شجاج . بوطي ص 136 ، طبقات بن سعد 1 / 196 .
ولا يمكن أن نتصور هذا المشهد الدامي على حقيقته حتى نقرأ هذه الرواية التي أوردها الشيخ منير في منهجه الحركي نقلاً عن مختصر السيرة ، للشيخ محمد بن عبد الوهاب ، والتي جاء فيها :
أن المجرمين من ثقيف رجموا عراقيبه بالحجارة ، حتى اختضبت نعلاه بالدماء ، وكان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض ، فيأخذون بعضديه ويقيمونه ، فإذا مشى رجموه ، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه حتى لقد شج في رأسه شجاجاً .!
ولنصغ إلى هذا الدعاء الرخيم الذي بثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مناجياً ربه ، وهو في أشد لحظات الكرب:
(( اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي .
إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري .!؟ اللهم إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي ، ولكنَّ عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنـزل بي غضبُك ، أو يحل علي سخطُك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولاحول ولا قوة إلا بك )).
بوطي ص137 ، هشام1( 420)
ثانياً : الحصار الاقتصادي :
كــان الحصار الاقتصادي الذي فرضه المشركون في مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم ، بمثابة اعتقال جماعي ، أو فرض الإقامة الجبرية.!
وقصة ذلك باختصار كما وردت بأسانيد مختلفة : ان كفار قريش لما أبى بنو هاشم وبنو المطلب ، تسليم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ليقتلوه ، أجمعوا على منابذته ومنابذة من معه من المسلمين ، ومن يحميه من بني هاشم وبني المطلب أيضاً . فكتبوا بذلك كتاباً ، تعاقدوا فيه على ألا يناكحوهم ، ولا يـبايعوهم ، ولا يدَعوا سبباً من أسباب الرزق يصل إليهم ولا يقبلوا منهــم صلحاً ، ولا تأخذهم بهم رأفة ، حتى يُسلم بنو المطلب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم اليهم ليقتلوه . وعلقوا الكتاب في جوف الكعبة ، والتزم كفار قريش بهذا الكتاب ثلاث سنوات ، بدءاً من المحرم للسنة السابعة من بعثته الشريفة ، إلى السنة العاشرة منها .
فجهد النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون جهداً شديداً في هذه الأعوام الثلاثة ، واشتد عليهم البلاء ، حتى انهم كانوا يأكلون الخبط وأوراق الشجر .
وذكر السهيلي أنهم كانوا إذا قدمت العير مكة ، يأتي أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الى السوق ليشتري شيئاً من الطعام يقتاته لاهله ، فيقوم أبو لهب فيقول : يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لايدركوا شيئاً مما معكم.
فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتى يرجع الواحد منهم إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يده شيء يعللهم به . بوطي ص118
ثالثاً : محاولات القتل والاغتيال :
لقد تعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفترة لعدة محاولات لاغتياله كان أهمها: طلب قريش من أبي طالب أكثر من مرة تسليمهم محمداً صلى الله عليه وسلم ليقتلوه ، وكان في كل مرة يأبى عليهم ذلك . هشام1 (265) .
محاولة أبي جهل ، رضخ رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد في الحرم ، لولا لطف الله وحفظه . هشام1 (298 ).
محاولة عقبة بن أبي معيط خنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي في الحجر ، لولا تدخل أبي بكر رضي الله عنه ومنعه من ذلك . بوطي ص105 .
محاولة عمر بن الخطاب المشهورة والتي انتهت بإسلامه في دار الأرقم .
وأخيراً المؤامرة الكبرى التي عقدها المشركون بحضور إبليس اللعين، للتخلص من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قبيل هجرته الشريفة إلى المدينة المنورة والتي نجّاه الله منها بفضله وكرمه ، وأنزل فيها قوله تعالى :(( وإذ يمكرُ بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ، ويمكرون ويمكرُ الله ، والله خير الماكرين)). الأنفال (30). ، هشام1 (480 ).
وبهذا يكون الرسول صلى الله عليه وسلم ، قد تعرَّض في حياته الشريفة ، لكل أشكال الأذى والفتنة والابتلاء .
وكان قدوة لأمته في الصبر على البلاء ، وتحمل ألوان الأذى ، وأشكال الفتنة ، من أجل دينه ، وعقيدته ، ومبادئه .
فحري بكل من ابتلي بمهام قيادية ، ودعوية ، وجهادية ، في هذا العصر ، وأخصّ أهلي في سورية الحبيبة ، أن يقتدي به ، ويتأسى بأخلاقه ، وينسج على منواله ، ويسير على نهجه ..