تداعي قحت ووعود البرهان
ليس ينبغي أن ننسى قبل أن نحكم على الخطوة التي اتخذها المكون العسكري في حزم وجد، دون أدنى خشية من تبعاتها، أن نلتفت إلى قوى الحرية والتغيير، التي أبرمت أصول التبعية وعقودها، وحاذت على أمثلة الخزاية وحدودها، تلك القوى التي لم تطع مطلقاً منذ أفول عهد الإنقاذ الممعن في السوء، الرأي الثاقب، والصواب الأصيل، ولم تتمسك بغير الهوى الغالب، والجرم الدخيل، فهي خلاف التشرذم الذي كان أقصى ما يمكن أن تفعله نظير ثورة هادرة لم تكن من كسب يدها، لم نجدها قط تتوخى هذه الخصال التي يحبها الناس، ويحبها أفراد شعبها على وجه الخصوص، فمضت تمهد لينبوع المعاصي، وتهلل لأصل السيئات والفجور، واضعة نظاماً يلتحم بالغرب في نزقه ومجونه، ولولا أن قطع عليها المكون العسكري بثورته التصحيحية تلك صحيح عزمها، لمضت تلك القوى في سعيها وكدحها حتى تتوافق معطيات الثقافة السودانية وتعابيرها الإسلامية، مع ثقافة الإباحية والتهتك، ولظللنا نحن مع حالة الانفصال هذه، وفي حالة هيمنة العهر على مجريات الحياة، حتى ينفخ إسرافيل في الصور، ويعجل الناس بعدها لملاقاة رب العباد.
إن الغاية التي ينشدها الغرب هو إعاقة هذه الشعوب عن التمسك بأهداب دينها، وأن تظل عالقة في مواطن البأس، ومتاهات التخلف، تستنفذ وسعها، وتستغرق جهدها، فيما يقيم أودها، ويدفع عنها غائلة الغرث والجوع، فلا همم رفيعة، أو اختراعات بديعة، تطوف في خلدها، وألاّ يجد ساستها وقرومها صدراً رحباً، واستعداداً فذاً، لغير الخلاف، لأجل ذلك لا تظفر شعوبنا بشيء، أو لا تكاد تظفر بشيء، سوى أن تجزع جزعاً شديداً لغياب من تتعصب له عن الساحة، وتنسى أنها تحمل شكاتها المتصلة الخالدة وهي الفقر والجهل والمرض، وأن الحاكم الذي أزاحته يد المقادير لم يرغب في شيء أشد الرغبة غير أن يباشر مهام حكمه، وأن يمضي في هذا الحكم الذي لا يأمر فيه بمعروف، أو ينهى عن منكر، حتى تنتاشه يد المنون، وتطويه الغبراء، وقوى الحرية والتغيير لم تكن تأبه لسخط الشعب أو رضاه، بقدر اهتمامها أن تحاور وتقصي الخصوم، من أجل أن تبقى في مناصبها القيادية. إذن شعار قحت ودافعها تمحور حول رسم تلك الزخارف الباهرة، والخطوط المدهشة، التي ترغب الناس في الفساد، وتحيلهم عن الركض من أجل الاستحواذ على صولجان الحكم، وإزاء هذه الغاية أبصرنا تلك الخلافات العنيفة بين الأحزاب السياسية والكيانات التي تشكّلت منها "أكذوبة قحت" حتى تمخض عن هذا الكم الهائل من الصراعات والخلافات العميقة بين أطيافها المتعددة، والتي كانت بمثابة أول دليل ناصع على تهافتها على السلطة، هيمنة أحزاب صغيرة ضئيلة على مراكز القرار فيها، ونفضت يدها عن مناصرتها وتأييدها أحزاب عريقة وتجمعات هي من أشعلت أوار الثورة، مثل تجمع المهنيين، والحزب الشيوعي الذي لم يكتفي بالابتعاد بل أعلن أن من أهم أجندته هو العمل على إسقاطها، كما نجد أن أقزام قحت تكالبوا على حزب الأمة وأجهضوا كلما أنجزه الإمام الصادق المهدي رحمه الله، وحكومة الإنقاذ التي لم تقيم من دولة المشروع الحضاري مجتمعاً يحكمه العدل، ويسوده التكافل، نجد بالمقابل أن حكومة قحت قد ضاقت ذرعاً بالحريات فلم تتحها إلاّ بمقدار، وبمقدار ضئيل، كما أنها استعرضت منظومة الكيانات السياسية فطوقت وحاربت كل حزب ينادي بتنظيم المجتمع وفق مبادئ الشريعة، ورداً بالأمر إلى الغرب، واتكالاً في كل أحوالها عليه، أوقعت نفسها في مشارع السيوف، ومراتع الحتوف، حينما أتعبت نفسها وأتعبت الناس لتجاوز الفضيلة إلى الرذيلة، ومن طور القصد والاعتدال إلى معرة الخنا والابتذال، فوقعت على اتفاقيات تشرعن تلك المساحات الواسعة من الممارسات اللاأخلاقية، والتي تتنافى مع الدين والفطرة السليمة، مشيرة إلى أن رحلة صعودها من أجل اكتساب العالم المتحضر يستدعي منها اتخاذ تلك الخطوة، وشاركتها الأنظمة المتماهية مع الغرب هذا الرضا، وشاطرتها دول البغي والاستبداد هذا الرضاء والإعجاب أيضا، لأجل ذلك رأينا دولاً عظمي تلاقي السيد حمدوك ودول أخرى تلح في ملاقاته، لأنه اخترق لهم هو زمرته مراحل لم يكن من اليسير اختراقها، لأجل ذلك لابد للغرب أن يتخذ التدابير المطلوبة التي تمكن لهذا الرجل، وتجعل منه النموذج المبتغى في الحكام الذي يدفعون إلى سدة الحكم من أجل زوال الدين وانهاك الشعوب، ويعد السيد حمدوك مادة صريحة ترفض المشروع الإسلامي، ويرحب بديمقراطية ومناهج متعددة الوجهات والمرجعيات دون قيد أو شرط، والدول الغربية التي يعنيها تنحية الأصل وهو الدين، همست في أذنه هو ورئيس المجلس السيادي الفريق البرهان الذي خطرات مشاعره، ونزعات خواطره، تشرئب للرئاسة وتتعلق بها، أشارت عليهم النظم الإمبريالية بالتطبيع مع الكيان الغاصب الذي لم يدع حاكماً عربياً أو فئة أو جزباً، إلا ودعته لمحاربة الأصولية الإسلامية، والتطبيع معها والتغاضي عن الأوضاع الموروثة، ونسيان القضية الفلسطينية الذي ما زال إيقاعها ينبض في أفئدة الشعوب، وكم كان مؤسفاً أن يتنكر قائداً لعقيدته العسكرية التي ألقمته بغض إسرائيل منذ أول ليلة أمضاها في كليته الحربية بوادي سيدنا، ليت شعري كيف نسى الفريق البرهان أن هذا الكيان البغيض الذي لا يغفل العالم عن إحصاء جرائره، وتعديد جرائمه، في حق الشعب الفلسطيني والأمة العربية جمعاء هو من كدّر صفو شعبه، وضرب مصانعه الحربية في هدأة الليل، ننظر إلى تلطف العدو لدولة عربية تقود ذمام التطبيع وتعلي من شأنه فلا نحتار، ولكن نقع في بيداء الحيرة حينما يرضخ فارساً من فرسان الجيش السوداني لم يوفق في بسطه وقبضه، وحلّه وعقده، إلا حينما غير وبدل المشهد السياسي وأعاق نمو قحت ورقيها، نندهش حقاً حينما ينخرط الفريق البرهان في وشائج مع الصهاينة الأوغاد، ويبرر أن غايته التي ينشدها هي النهوض والرفعة لشعبه، هل شعبك الذي تبتغي رفعته خولك لاتخاذ هذه الخطوة؟ وهل هو سعيداً بها؟ راضياً عنها؟ وما الذي نجم عن هذا التطبيع العريض المخزي؟ هل يعيش السودان في رفاهية ودعة آلان بسبب موادعته للصهاينة وانحرافه عن دول الضد؟ ما هذا البؤس في التفكير؟ إن على ركن الدولة وعضدها ألا يهاب الجيوش الزائدة العدد، والجموع الوافرة المدد، ولقد شاهدنا أكذوبة الجيش الذي لا يقهر وهو يترنح أمام صواريخ فصيل من فصائل الجهاد في فلسطين، كما أبصرنا خيباته وهزائمه عام 2006 وعتاد حزب الله يدك حصونه ومدنه.
بقي أن نقول أن السيد حمدوك رئيس الوزراء المعزول لم يقدم الأكفاء، ولم يعجل بالأمناء، ولم يستثمر إجماع الناس عليه، واستبشارهم بمقدمه بعد ثورة ظافرة، كما أنه لم يقيم صلاته مع الجيش بالشكل الذي يجعل الجيش يحرص عليه، فقد أنجته القوات المسلحة من عدة دواهي وعقابيل، ولكنه لم ينشد غير استئصالها وهيكلتها، وهو في ذلك ينفذ ما طلبته منه دول يعنيها أن تحيط بالسودان الخطب والملمات، ويعني حمدوك وطائفته أن يغالي الغرب في حبهم، ويلحوا في مدحهم، وبما أن هناك أقلام تنفر من أن تقول غير الحق، نقول أن المشاكسة بين المكون العسكري والمدني دفع جهات يعنيها أن تسعى بكل السبل المتاحة لفشل المكون المدني، وتفانت أن تبدع في تعجيزه، وتعظم من مظاهر فشله، هذه الجهات كانت ترتعب إذا غير الشعب نظرته إلى قحت ورأيها فيها، ومن أكبر الشواهد على ذلك الرخاء الذي حدث بعد أن غاب نجم قحت المعتكر عن سماء السودان، ومظاهر الذهول التي سيطرت على الجميع بمشاهدة أسعار السلع التموينية وهي تتهاوى وتنزل من برجها العاجي، ولكن كل هذه المظاهر والسمات لن تغير رأينا المترف الأنيق، وأن ما حدث لا يمكن أن نطلق عليه انقلاباً، بل هي ثورة تصحيحية لخطل كان سائداً، فالانقلاب يقوض حكومة منتخبة، ويعطل جلسات البرلمان و العمل بالدستور، وليس لقحت ولا للمكون العسكري غير وثيقة واهية متداعية يجدداها كل مرة يسفر فيها وجه جديد، ولم يتعاهدا على نصوصها بالحفظ والصون، كما أن قحت لم تسعى جادة في استكمال البناء السياسي بتكوين المجلس التشريعي، نود أن ننوه في خاتمة هذا المقال أن العسف والظلم وتقييد الحريات، ظل قائماً حتى في عهد حكومة الحرية والتغيير، فالاعتقالات تتم دون أدنى مسوغ قانوني، وفصل أبرياء لا تربطهم أدنى شائبة بالنظام السابق، حدثاً أضحى من الظواهر التي لا تثير الدهشة والغرابة، كما أن جحيم الغلاء الذي طحن بكلكله الملايين في عهد الإنقاذ، ظلّ يمسخهم ويشوههم في عهد الحرية والتغيير.
ما علينا فعله الآن أن ننظر للفريق البرهان بعين الشك والربية، لا بعين الرضاء والاستحسان، وأن نمضي في متابعة المعطيات التي ذكرها في خطابه الذي عدد فيه أسباب إزاحته لقحت، ويظل الشعب في نشاطه الثوري المتشوق للانعتاق من الظلم، فإذا أوفى الفريق البرهان بما وعد، وشكل حكومة التكنوقراط التي تمضي بسفينة السودان التي أزرى بها الأصاغر إلى بر الأمان فبها ونعم، وإذا تاق الفريق أول البرهان لمصير يشابه مصير المشير البشير، فإن الكثير من جموع الشعب السوداني تتحرق لتحقيق هذه الأمنية.
وسوم: العدد 955