من الحكايات الأُسطوريَّة في جنوب الجزيرة العَرَبيَّة-2
(الأصول والهجرات والتلقِّي: مقاربات مقارنة)
لعلَّه يَحسُن التوقُّف أمام مصطلح (أُسطورة Legend)، لما يكتنفه من لَبسٍ وتداخلٍ في التداول العام. وأكثر أنواع النصوص تلابسًا والأُسطورة: (الخُرافة). ويُمكن التفريق بين مفهوم الأُسطورة والخُرافة، بالنظر إلى المقوِّمات الآتية للأُسطورة:
1- الأُسطورة قِصَّةٌ مسطورةٌ، أي مكتوبة، أو مرويَّة متوارثة بتواتر.
2- تقوم الأُسطورة على ما تقوم عليه القِصَّة، من: البطل، والمكان، والزمان، والحدث، إلَّا أنَّها تتَّكئ على الغيب والخوارق.
3- يُمكِن أن يحدث في الأُسطورة كلُّ شيء، من دون أن يخضع تتابعُ الأحداث، بالضرورة، لأيِّ منطقٍ واقعيٍّ في التسلسل.
4- الأحداث في الأُسطورة ذاتُ بنيةٍ دائمة، تتعلَّق بالماضي والحاضر والمستقبل. إنَّها ذات بنية مزدوجة، تاريخيَّة وغير تاريخيَّة معًا.
5- إنَّ الأُسطورة تتعلَّق- قياسًا إلى تقسيمات (فرديناند دي سوسير Ferdinand de Saussure) اللُّغويَّة- بمجال (الكلام)، ويمكن تحليلها في هذا المستوى، وبمجال (اللُّغة) في الوقت نفسه. منطويةً على مستوًى ثالثٍ أيضًا، ذي طابع مُطلَق.
6- من أجل ذلك فإنَّ الأُسطورة- بخلاف الشِّعر- تستمرُّ قيمتُها بوصفها أُسطورةً، وإنْ تُرجِمت ترجمةً رديئة، ويستطيع المتلقِّي إدراكها، بما هي أُسطورة، وإنْ جَهِل لُغة الشَّعب الذي أنتجها أو جَهِل ثقافته. ذلك لأنَّ جوهر الأُسطورة لا يكمن في لُغتها، أو أُسلوبها اللُّغوي، أو طريقة سَردها، بل في الحِكاية الرَّمزيَّة التي تعبِّر عنها. إنَّها لسانٌ يعمل على مستوًى رفيعٍ جدًّا، ينفصل فيه المعنى عن الأساس اللُّغويِّ الذي انبثق منه.
7- للأُسطورة أهدافٌ تفسيريَّةٌ في الحياة والكَون، وأهدافٌ تربويَّةٌ تعليميَّةٌ اجتماعيَّة.
وعليه، فإنَّ (الأُسطورة) ذاتُ خصائص نوعيَّة، وذاتُ وظائف مائزة، فوق مستوى العِبارة اللُّغويَّة وأعقد طبيعةً منها. وهي ذات صِلَةٍ خياليَّةٍ شِعريَّةٍ بالواقع وبالتاريخ في آن.(1)
على حين لا ترتبط (الخُرافة) بذلك كلِّه، وإنَّما هي مجرَّد فكرةٍ بسيطةٍ (غير معقولة)، أو (غير مصدَّقة) لدَى نِسبةٍ من المتلقِّين، ولا يلزم أن يكون لها شكلُها القصصي. تُساق للتسلية، أو للإدهاش، أو لتفسير بعض الظواهر الطبيعيَّة. مثال ذلك: بعض تخاريف الأَعراب، كزعمهم أنَّ الضِّفدِع كان ذا ذَنَب، وأن الضَّبَّ سَلَبَه إيَّاه. أو خرافة العَرَب القديمة حول ما أسموه بـ«زمن الفِطَحْل»، زاعمين أنَّ الصُّخور كانت فيه رطبةً وكان كلُّ شيءٍ يتكلَّم!(2) وبناءً على ذلك وَرَدَت الرواية حول قَدَم النبيِّ (إبراهيم) وأنَّها أثَّرت في صخرة المقام، للِين الصَّخر يومئذٍ.(3) ومن ذلك ما ضَربوا به المَثَل من حديث (خُرافة العُذري)، الذي من اسمه اشتقُّوا مصطلح «خُرافة».(4) غير أنَّ مصطلح (الأُسطورة) قد يُطلَق بتوسُّع ليشمل (الخُرافة) أيضًا، كما أنَّ الخُرافة قد تكون ذات جذورٍ أُسطوريَّة، أي متعلِّقة بقِصصٍ أُسطوريَّة.(5)
ولعلَّ كلمة «Story»- في الجذر اللُّغويِّ اللَّاتيني، وما تمخَّض عنه في لغات (أوربا)- هو «الأُسطورة» في العَرَبيَّة. وهي قِصَّةٌ مسطورة، أي مكتوبةٌ، أو مرويَّةٌ متوارثة، محفوظةٌ في الصدور عن الأوَّلين. ثمَّ منها جاءت كلمة «History». غير أنَّ بعض الباحثين يذهبون إلى أنَّ أصل الكلمة «أستوريا Istoryia» باليونانيَّة، وربما اشتُقَّ منها في العَرَبيَّة: سَطر، وتسطير.(6) لكن لِـمَ لا يكون الأمر على العكس: أنَّ الكلمة اليونانيَّة مستقاةٌ عن الساميَّة، التي تحدَّرت منها هذه المفردة اللُّغويَّة إلى العَرَبيَّة؟ وهي ذات تفرُّعٍ اشتقاقيٍّ في اللُّغة العَرَبيَّة، يُرجِّح عراقتها فيها، وأنَّ «الأُسطورة» مشتقَّة من «سطر»، لا بضِدِّ ذلك. أو ربما كان مصدرها مشترَكًا لُغويًّا أعلى؛ وليست مستقاة عن اليونانيَّة. وإذا كان (الإغريق) معروفين بأساطيرهم، فأساطير الساميِّين أقدم، وأوسع انتشارًا، وإنْ اعتمدتْ على الرواية أكثر من التدوين. ولقد كان تأثُّر الإغريق بحضارات المشرق وثقافتهم- وبخاصَّة حضارة (بلاد الرافدين) و(وادي النِّيل)- منذ زمنٍ مبكِّر في التاريخ، غير أنَّها اندثرت الأصول المشرقيَّة في معظمها، وبُرِّزَت الآثار الإغريقيَّة حديثًا، بوصفها أصولًا أُولَى، واشتهرتْ مرجعيَّةً للمؤصِّلين، في غضون التيَّار المؤدلَج بالمركزيَّة الأوربيَّة، في العقل والفلسفة والحضارة، خلال القرنَين التاسع عشر والعشرين. وهو ما بات- في ذاته- اليومَ أُسطورةً من أساطير الأوَّلين! ذلك أنَّ من النتائج التي تحصَّلتْ عن البحوث الأنثروبولوجيَّة أنَّ العقل الإنسانيَّ واحدٌ في كلِّ مكان، يمتلك القُدراتِ نفسَها، على الرُّغم من الفروق الثقافيَّة بين الشعوب.(7)
__________________
(1) انظر: ليفي-شتراوس، كلود، (1977)، الأنثروبولوجيا البنيويَّة، ترجمة: مصطفى صالح، (دمشق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي)، 245، 247- 249.
(2) انظر مثلًا: الثعالبي، (2003)، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (صيدا- بيروت: المكتبة العصريَّة)، 516؛ ابن منظور، لسان العرب، (فطحل)؛ الآلوسي، (1342هـ)، بلوغ الأرب في معرفة أحوال العَرَب، عناية: محمَّد بهجة الأثري، (مصر: دار الكتاب العربي)، 3: 219- 221.
(3) انظر: الثعالبي، 42، 517. جاء هذا روايةً عن (مقاتل، -150هـ= 767م). وهو من المفسِّرين المتَّهمين بالكذب، المتروك الحديث. (انظر: ابن خلِّكان، (1971)، وفـيَّات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 5: 255- 257).
(4) انظر: ابن عبدربِّه، (1983)، كتاب العِقد الفريد، تحقيق: أحمد أمين وأحمد الزين وإبراهيم الإبياري، (بيروت: دار الكتاب العربي)، 3: 75؛ الجاحظ، (د.ت)، الحيوان، تحقيق: عبدالسلام محمَّد هارون، (مصر: مصطفى البابي الحلبي وأولاده)، 5: 528.
(5) انظر مثلًا: وهبة، مجدي، (1974)، معجم مصطلحات الأدب، (بيروت: مكتبة لبنان)، 338- 339.
(6) انظر: ظاظا، حسن، (1990)، الساميُّون ولُغاتهم: تعريفٌ بالقرابات اللُّغويَّة والحضاريَّة عند العَرَب، (دمشق: دار القلم- بيروت: الدار الشاميَّة)، 130.
(7) انظر: ليفي-شتراوس، كلود، (1986)، الأُسطورة والمعنى، ترجمة: شاكر عبدالحميد؛ مراجعة: عزيز حمزة، (بغداد: وزارة الثقافة والإعلام)، 38.
(*) هذا المقال جزء ثانٍ من ورقة بحثٍ حِواريَّةٍ قُدِّمت في (نادي جازان الأدبي)، مساء الأربعاء 3 مارس 2021. للمشاهدة على موقع "يوتيوب": https://bit.ly/3j1diLd
وسوم: العدد 956