عندما تكون السلعة أسمى من الإنسان
«من قال إن المال لا يشتري السعادة لم يذهب إلى بلومنجديلز» تعليق طريف لأحد قراء مجلة «التايم» الأمريكية على موضوع متعلق بسلسلة المتاجر الشهيرة الفاخرة التي تأسست في نيويورك، كان الأطرف منه وصية ذلك الأمريكي أن يحرق جثمانه بعد موته، ويرش رماده في محلات بلومنجديلز حتى يضمن أن تزوره زوجته على الأقل في كل أسبوع مرة.
رغم أن التعليقين حملا روح الدعابة، إلا أن العالم الموسوعي الراحل عبد الوهاب المسيري الذي رصد هذه التعليقات في مجلة «التايم» الأمريكية، كان قد استدل بها على النزعات الاستهلاكية التي سيطرت على المجتمع الأمريكي، كمثال على تلك المجتمعات التي وقعت تحت سيطرة ما سماه بالإمبريالية النفسية، التي استولت على النفس البشرية وجعلتها سوقا ممتدا لا نهاية له ولا حدود له.
المواطن الأمريكي وقع فريسة إعلامه الإمبريالي، الذي ساقه سوقا إلى اعتناق النظرة الاستهلاكية والسلوك الاستهلاكي، وفرغ محتواه القيمي الإنساني، وسطّح وجدانه حتى خضع تماما للآلة الإعلامية التي تملي عليه ما تريده النخبة دون أن يحاول إدارة تروس النقد، وقامت بعزله عن العالم حتى يتسنى السيطرة عليه، خاصة أن هذا الإعلام بارع في اجتزاء الحقائق.
وهذا هو المجتمع الأمريكي في مجمله، مجتمع منغلق غارق في الاستهلاكية، لا يكترث للعالم من حوله طالما يجد ما يفي بمتطلبات إدمانه على التبضع، أو على الأقل يجد فرصته في صيد الصفقات من التعليقات والتخفيضات والهدايا المجانية على السلع، ليستبطن المواطن الأمريكي في النهاية فكرة أن السعادة لا سبيل إليها إلا الاستهلاك، فأصبحت السلعة لديه هي مركز الحياة، بينما لا يمثل الإطار القيمي بالنسبة إليه شيئا ذا بال.
الإمبريالية النفسية التي عناها المسيري والتي هي أقل كلفة من الإمبريالية العسكرية، مكّنت أمريكا ـ ومعها الغرب ـ من فرض النموذج الذي أرادته من إقامة مجتمعات استهلاكية مادية، تسهل السيطرة عليها، ففرضته على العالم تحت قبة النظام العالمي الجديد الذي يعد عولمة للإمبريالية النفسية، بهدف إيجاد إنسان مادي لا يكترث بمفاهيم الوطن والأرض والكرامة والقيم والتقاليد، وإنما هو صاحب نظرة بهيمية لا يكترث إلا بالمتعة والاقتناء والامتلاك.
لقد نجحت الإمبريالية النفسية في فرض نفسها في العديد من المجتمعات، وحولتها إلى مجتمعات استهلاكية مادية، بعيدة عن القيم الدينية والإنسانية والتراحمية، وتبدلت مفاهيم عدة كانت سائدة، فمفهوم «الحاجة أم الاختراع» حل مكانه مفهوم «الاختراع أبو الحاجة» فبعد أن كانت الحاجات تدفع الإنسان إلى الاختراع، صارت الاختراعات هي التي تخلق الحاجات.
فرضت الإمبريالية نفسها في العديد من المجتمعات، وحولتها إلى مجتمعات استهلاكية مادية، بعيدة عن القيم الدينية والإنسانية والتراحمية
وقد أدرك جمع من رموز الفكر والثقافة الغربيين خطورة التحول إلى هذا النمط الاستهلاكي، وحذروا مما يترتب عليه من فقدان الذات البشرية أمام طوفان المادة، فعلى سبيل المثال يقول إريك فيروم في كتاب «الإنسان بين الجوهر والمظهر.. «إن العالم في أزمته الحاضرة يتجاذبه أسلوبان في الحياة، يتصارعان من أجل الفوز بالنفس البشرية، إما التملك أو الكينونة».
إن كانت الإمبريالية النفسية قد استهدفت المجتمعات الغربية، التي نشأت فيها للسيطرة عليها وسوقها وفق توجهات النخب، فإن هذا الغرض يتأكد لها مع المجتمعات العربية الإسلامية، لضمان السيطرة عليها بعد تحويلها إلى مجتمعات استهلاكية، ومن هذا الباب يمكن لها حلحلة هويتنا، ووضع نهاية لكل قضايا التماس مع الغرب وفقا لأطماعهم الاستعمارية. وبالفعل نجحت الإمبريالية في سحبنا إلى هذا الاتجاه وتحويلنا إلى مجتمعات استهلاكية، فقد أصبنا بسعار استهلاكي، وأصبحت دوافع وسلوكيات الشراء في حالة تمرد على ثقافتنا الأم التي تضبط استهلاكنا. والحديث هنا ليس عن تجريم حب التملك والاقتناء والبيع والشراء، فهو أمر فطري عند البشر، لكن هناك فرق بين حب التملك وأن يصبح الاستهلاك محور الحياة، وأن تحل السلعة مكان الإنسان، وأن تتحول الكماليات إلى ضروريات لا يستطيع الإنسان العيش بدونها، وأن يرى في السلعة المصدر الأول والأخير للسعادة، لا تتحقق بدون امتلاكها، واعتبار الاستهلاك هو غاية الحياة، ليتحول الإنسان إلى آلة استهلاكية وكائن اقتصادي.
وعلى الرغم من أن المجتمعات الغربية وصلت إلى هذا النمط الاستهلاكي بعد التشبع وتحقيق الضروريات، فإن مجتمعاتنا وصلت إليه في ظل تردي الأوضاع المعيشية لمعظم الجماهير العربية، بفعل الخضوع للغزو الثقافي والفكري واجتياح الشركات الكبرى لسوقنا الاقتصادية. وتحولت مجتمعاتنا إلى مجتمعات استهلاكية في طبقاتها العليا، ويظهر ذلك في السلوك الشرائي، إذ التوسع المخيف في السلع والخدمات الترفيهية والكماليات، أصبحت تحدد قيمة الشخص بمقدار استهلاكه، فخلق ذلك حالة من التنافس في الاقتناء والشراء، من أجل الشراء ذاته، في معزل عن القيام بأي شكل من أشكال المسؤولية الاجتماعية تجاه الشرائح الفقيرة المحتاجة، فترى ثرياً عربيا لا يعرف شيئا عن الفن التشكيلي يشتري من أوروبا لوحة لا يتذوقها ولا يدرك قيمتها الفنية مثقال ذرة، لكنه يقتنيها في مزاد أو معرض بمئات الآلاف أو الملايين من أجل التباهي والتفاخر لا أكثر، وأكثر منه سذاجة من يتخذ مرحاضا من الذهب يقضي فيه حاجته، وكثير من هؤلاء يذهب للتسوق فقط من أجل كسر الملل. وحتى الطبقة المتوسطة، أصابتها النزعة الاستهلاكية في أحلامها وطموحاتها وإثقال الجيوب بالسلوكيات الشرائية التي لا تتفق ومستواها الاقتصادي، من أجل الاقتراب من الأثرياء، بل إن أسفل السلم الاجتماعي قد تأثر بالنمط الاستهلاكي، فترى المواطن من هذه الشريحة ينال منه الشعور بالفقر لمجرد أنه لا يشتري كمية كافية من الفواكه واللحوم، وتتصاعد رغبته في الاستهلاك متجاوزه حد الضروريات، ويتحول إلى إنسان ساخط حاقد على من حوله. إننا بحاجة إلى إحاطة دوافعنا وسلوكياتنا الشرائية بمنظومتي التصورات والقيم النابعة من ثقافتنا الأم، التي تضع الإنسان في منزلة أسمى من السلعة، وتجعل المرء يسير في توازن واتزان بين متطلبات الروح والجسد، بين المعنوي والمادي، وتصحح نظرته للإنفاق والتملك وتعيد صياغة العلاقة بين المال والسعادة، ولذا نادى الأكاديمي البولندي بوجدان سوشو دولسكي، بأن يشتمل ميثاق النظام الاقتصادي الدولي الجديد على تعريف للاستهلاك، يحمل في طياته برنامجا هائلا للتجديد الاجتماعي، يستطيع أن يواجه ذلك المفهوم واسع الانتشار الذي يرى في الاستهلاك إشباعا أنانيا للمتع بلا حدود، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 956