في معجم التفاؤل
التفاؤل بابٌ من أبواب الثقة بالله سبحانه وتعالى ، فإذا ضاقت النفس بما يعتريها من سوء الحال ، أو تنوع النوازل ، فإنها بلا شك تتأثر وتحزن ، ويختلف الناس في طرق مواجهة هذه الأعباء مهما كانت . فمنهم مَن يمتطي فضيلة الصبر ، ومنهم مَن يبحث عمَّن يعينه ليخرج من الضائقة ، ومنهم مَن يسخط ويتأفف ... إلى آخر مافي مقدور الإنسان أن يعمله . وهنا يُفتح لهذه الضائقة بابٌ يصوغ قالبه الإنسانُ نفسُه ، حسب قدراته ونفسيته وإيمانه ونوع تربيته وعلمه بأمور الحياة . وربما يسعى صاحب كل باب من هذه الأبواب إلى مَن يدله على أفضلها .
فهذا الباب هو التفاؤل ، إذ من نفحاته أن يرضى الإنسان بما قدَّره الله عليه ، بل يشكر الله على السراء والضراء ، وعلى كل مايصيبه في هذه الحياة الدنيا . ثم يأخذ بالأسباب التي يخرجه منها هذا الباب إلى سعة مافي الدنيا من المسرات ، وذلك هو التفاؤل الإيجابي الذي يأخذ بيد صاحبه على مدارج الخلاص من الهم الذي يقلقه في ليله ونهاره . ويعمل على تهدئة خواطره لئلا تُقعده نوائب الدهر عن السعي ، ولئلا يعيش في ظلمة اليأس ، بل ربما جُــرَّ إلى مستنقعات الرذيلة والمخدرات ، ووقع في أسْرِ رفاق السوء ، وبيئتهم القذرة التي يؤدي مسارها إلى الخسران بل والهلاك . بعد أن وقع فريسة للتشاؤم ، تنهش عقله و وعيه أنيابه التي لاترحم . على أن حالة التشاؤم لايمكن أن يطول عمرها ، علما بأن حالة التفاؤل هي أطول عمرا من حالة اليأس والتشاؤم ، وليس للتفاؤل أن يفضي إلى العدم أو الخسران ، وخصوصا إذا كان المتفائل يثق برحمة الله ونجدته لعباده إذا ضاقت بهم الأيام . وللناس مَثَلٌ جميل في هذا المقام حيث يقولون : عُشٌ أفرح بــه خيرٌ من قصر منيف أبكي فيه . وهنا يأتي دور التفاؤل الإيجابي بكل ما فيه من خير وأمل ، يحث صاحبَه للنظر إلى الغد المشرق ، فلا يتصور أن الغد سيأتي عابسا مكفهر الوجه ، منتفخ الأوداج ، بل يكفي هذا المتفائل مكانة واستبشارا أن الأذية التي أصابته لن تقعده أبدا عن فتح باب الأمل والتفاؤل ، ولن تثنيه عن السعي نحو مطلع النور رغم ظلمة الليل ، فلن يخشى العتمة مهما اشتدت ، ولا طول الطريق مهما كانت المسافات . ومن هنا يستمر المتفائل بالعمل والبحث في ميادين الحياة ، وعندئذ لن يُحرم من فضل الله تبارك وتعالى . فهو يتخطى صعوبة الممرات التي تحاول إعاقة مسيرته الإيجابية ، ونظرته الصائبة وهو يدخل من باب التفاؤل ، وتظل نفسُه مطمئنة راضية ، ولا بد لها من فرج قريب . وصدق القائل :
بتفاؤُلي أرجـــــــو وبالثقة التي ... باللـــه لاتُبقي أذىً أو ضُـرَّا
فاللهُ يُبدلُ عُسرَ مَن في شدَّةٍ ... يسرًا ويكلأُ سعيه بالبشرى
وصفحة التفاؤل في ديننا الحنيف مشرقة بالأمل ، مؤيدة من الله سبحان ، فمهما أصاب المؤمن من أسباب الهموم والأحزان يذكر قوله تعالى : ( لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴾ . أي لابد من الفرج بإذن الله ، وصور الابتلاء للمؤمن عديدة ، ولكنها فيها الخير كل الخير : ( أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾
فالفتنة قد تكون في ضيق العيش وقد تكون في مصيبة من المصائب أو في جائحة أو غيرها ، وهنا يتأكد إيمان المؤمن فيرضى بما نزل به ، ويرجو الله الفرج والرضوان . فالأمر كله بيد الله سبحانه ، يؤتي مايشاء لمن يشاء ، وينزع مايشاء عمَّن يشاء ، بيده الملك والأمر والتدبير ، وهو على كل شيء قدير . ومَن يصبر على الابتلاء ويرضى بقضاء الله فقد نال المثوبة ، وجاءه الفرج : ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ . والمصائب مكفرات للذنوب ، وتزيد في ثواب الصابرين ، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : (من يُرِدِ اللَّهُ بِه خيرًا يُصِبْ مِنهُ) . أي إذا أحب الله عبدا ابتلاه ، فصبر ورضي ، فجاءه الخير من الله سبحانه وتعالى . ولقد وردت أحاديث عديدة تؤكد على الأخذ بأسباب التفاؤل الإيجابي ، تلك التي وردت في كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم . تبشر الصابرين بالمكانة العالية عند الله عزَّ وجلَّ . والصبر شعار الأنبياء ، والدليل على أن العبد المبتلَى راضٍ عمَّـــا أصابه . يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَمِ البلاءِ ، وإنَّ اللهَ تعالَى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم ، فمن رضِي فله الرِّضا ومن سخِط فله السُّخطُ) ، والصبر عند البلاء يمحو الخطايا ، ولا يُبقي من الذنوب شيئا ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (ما يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ والمؤمنةِ في نفسِه وولدِه ومالِه حتَّى يلقَى اللهَ تعالَى وما عليه خطيئةٌ).,وإنها لَبشارةٌ عظيمة للصابرين والصابرات ، ولقد تحرَّى الصحابة رضي الله عنهم جلال هذا الباب ، فاستزادوا من نبيِّهم صلى الله عليه وسلم ، فقد جاء في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: (قلتُ يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً قالَ الأَنبياءُ ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ ؛ يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ ، فإن كانَ في دينِهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ).ويبقى المؤمن الصابر في بحبوحة الأمل الوريف والتفاؤل الذي يحيي القلوب حين يقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : (عَجَبًا لِأَمْرِ المؤمنِ؛ إنَّ أمرَهُ كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحَدٍ إلَّا للمؤمنِ؛ إنْ أصابَتْه سرَّاءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خيرًا له).
ولقد وردت أحاديث عديدة في هذا الباب تشرح الصدور ، وتملأ القلوب طمأنينة وسعادة ، بل إن النفس حين تنفحها نسائم تلك الأحاديث تتمنَّى لو تُصاب بأذى حتى تنال الثواب الجزيل والمكانة العالية في جنات الخلود ، وأنقل من تلك الأحاديث الشريفة ماروته أم سلمة رضي الله عنها ، قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها إلا أجره الله تعالى في مصيبته وأخلف له خيرا منها . قالت فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيرا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم )) رواه مسلم .
وسوم: العدد 960