وحين يتقارب الزمان
ها قد انتهت ثلاث مئة وخمسةٌ وستون يوما كما يقولون : كلمح البصر... ولازلتُ أذكر أحداث نهاية العام الماضي ، وبداية أحداث هذا العام الذي لا تفصلنا عن نهايته سوى بضعة أيّام . ولطالما راودتنا الأفكار بشكل جدي بوضع خطط وأهداف وبذل ما بوسعنا لتحقيقها ، أو بلوغ جزء منها . وترك أثر طيّب يُذكر لنا حين تدق ساعة رحيلنا عن هذا العالم، نحن نرغب بذلك فعليًا ولكننا نؤجل فعل ذلك كما يحدث دائما ، ظنّا منّا أننا نملك الوقت أوالحياة ! دائما نشعر أن هناك متّسعًا ولدينا الكثير من الوقت ، ولا نعلم أننا أضعنا الوقت كلّه بما كان بنظرنا أنه المهم أو الأهم. لستُ أدري ، فالأمور تجري بقضاء الله وقدره ، وله الحمد على كل حـال .
ولا يهمنا هذا اللغط الذي أخذ مكانة أوسع مما تستحقه مايسمونها بالأعياد ، بل وتكثر في الجدل العقيم أعدادُ مَن يشرِّعون من عند أنفسهم . فلنا نحن معاشر المسلمين عيدان ، الفطر والأضحى وفيهما تعاليم ربانية وتوجيهات نبوية وعبادات حريٌّ بالمسلم أن يؤديها في أوقاتها ، لينال ثوابها عند الله تبارك وتعالى ، وفي هذين العيدين قيم اجتماعية سامية ، لامجال لحصرها هنا ، ولكن الملفت للنظر هي دعوة بعض البطالين ـــ من المسلمين ـــ لمشاركة غيرهم من الوثنيين في أعياهم هذه وتهنئتهم ، ونسوا أن هذه المبادرات يلفها الباطل بل والكفر الصريح لمَن يؤمن بأن المسيح عليه الصلاة والسلام هو الله ، أو هو ابن الله ... إلى غيرهما من معتقدات وثنية باطلة لا أساس لها . ولا مانع من تهنئة جار أو صديق يهودي أو نصراني يسكن بين ظهراني المسلمين من تهنئته بزواج ابنه أو نجاحه في المدرسة أو في أي مناسبة غير هذه التي يسمونها بالأعياد ، فليس للمسلم أن يفعل مايخالف أوامر الله سبحانه ولا سُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم في أي أمر من أمور الحياة .
وماكنت لأكتب في هذا الموضوع ، فلدينا من علمائنا الأبرار وفقهائنا الأخيار ما يكفي لمَن يريد الحقيقة الناصعة التي لالبس فيها ولا غموض ، وإنما شدَّتني لكتابة هذه الأسطر سرعةُ مرور الأيام ، وتوالي الأعوام ، وسرعة انقضاء النهار ومجيء الليل وإسفار الصباح . ففي ذلك العبرة البليغة ، والموعظة المؤثرة لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، شهيد على مضي أيام العمر ، وعلى مايعانيه الإنسان ويكابده في رحلة الحياة الدنيا ، وفي ذلك درس بليغ أسمى بكثير من اللغط الممجوج في التهنئة الجوفاء ومن الآراء السقيمة التي قد تودي بالمتطفلين على مواقع الفقه والتفسير وليسوا من أهـله ، ويخوضون في الباطل الذي لاجدوى منه .
لطالما قطعنا العهود على أنفسنا ، ووعدناها أن نبدأ من جديد بعد حالات من الفشل أو الخسارة في مضمار الحياة . ولطالما كانت البدايات أكثر إثارة وتشويق وسقف الأمنيات كان عاليًا أيضا ، ولكن وما أن نبدأ خطوات السعي تتلاحق العثرات وخيبات الأمل ، ليخفت الشغف بل قد تنطفئ شعلة الحماس ، ونتراجع خطوات إلى الوراء . فنقف من جديد عند نقطة البداية. لاشيء يتغيّر! عبثًا نحاول رغم أن أحناءَنا ينبض فؤادها بيقين أن الأفضل حتما قادم ، وعثراتنا ووقعاتنا تعادل علوّ ما نصبو إليه . لكنه يحتاج للصبر والثبات ، وهنا يعلم المرء قيمة مرور الأيام ، وقيمة الإنجاز والاستثمار الذي يعود بالخير على الإنسان ومَن يعول ، وعلى وطنه الذي يباهي برفعته ومكانته العالمية بين الناس . ولا بد هنا من القيم التي ورثناها عن الآباء والأجداد ، تلك القيم التي تجعل الإنسان إنسانا بكل مافي كلمة الإنسانية من سُمُوٍّ كما جاء في التنزيل . وهاهم يقولون لنا أن لا وجود للصبر في زمن السرعة ، بل ولا حتى للثبات، تعبث بنا متغيرات الحياة وبهرجها فنضعف مرة تلو مرة ، وقد نستسلم ثم نفشل بتحقيق مانريد ، ونوقع اللوم على الزمن أيًا كان المقصود بهذا الزمن (أشخاص /أماكن/ظروف... متناسين أن الأشخاص بكل عيوبهم وسيئاتهم هم مرآتنا التي تعكس ملامحنا عليهم ، وأن الفشل الذي وقعنا فيه هو من سوء سلوكنا كما اعتدنا من الحياة دائما. إن الابتلاءات طُرقها عديدة ، إما أنها تمنحنا فرصة ، أو أن تكون الفرصة بعيدة وما آن الأوان ، هذه هي الأيام تجعلنا نتألم على مافات ، بل ونبكي على حالات الفقد ، ما أردت قوله أنه كيف للاتزان أن يقع على واقع غير متّزن !
هذه هي المعادلة.. ماذا أفعل حين لا تتاح أمامي أيّ فرصة؟ هل أقف متأملة الحياة وهي تستمر وتمضي وأنا أقف بمكاني بانتظار الفرصة! وهيهات لمخلوق أن يخرج عن إرادة الخالق ، إن مرور الأيام بهذه السرعة المذهلة ، لتبعث الخوف في نفوس أولي الألباب ، لأن الأمر جد ، والنهاية معلومة ، ولا بد من الغد الذي يفتح أبواب الخلود وهنـا المحك ، يقول الله تعالى : ﴿ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ 18/الحشر . لا أظن أن أحدا يجهل المصير المحتوم ، والمأوى الأخير المعلوم ، وصدق القائل :
( والليل فاعلم والنهار كلاهما ...... أَنْفَاسُنا فيها تُعَدُّ وَتُحْسَبُ )
وهكذا يتحقق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لا تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان: فتكون السنة كالشهر، ويكون الشهر كالجمعة، وتكون الجمعة كاليوم، ويكون اليوم كالساعة، وتكون الساعة كاحتراق السعفة أو الخوصة ) رواه ابن حبان .
وسوم: العدد 962