إنسانية الفطرة
فطرة الإنسان تعني بكل بساطة ... الخير للإنسان ، وعدم قبول الضرر له من قِبل أخيه الإنسان ، فالفطرة السليمة ـــ إذا لم يدنسها الإنسان ـــ فهي تصنع المجتمع الفاضل الذي لايرضى الإنسان سِواه ، فإنسانية الفطرة هي للحياة الكريمة التي لاتعرف الخروج عن إنسانيتها ، وعن منزلتها العالية في الوجود ، والخروج من دائرتها إنما هو خروجٌ ظالمٌ للإنسان ولأخيه الإنسان . لأن هذا الخروج سيجلب معه كل الموبقات والمفاسد والاضطرابات بين الأفراد و بين المجتمعات . وسينحرف سلوك هؤلاء الذين خرجوا على الفطرة ، بل حاربوهـا ولم يرضوا بسُمِّو مآتيها الجميلة السعيدة على الإنسانية جمعاء . وبهذا الخروج الأرعن يتم التمكين للفساد بكل أشكاله ، وبكل مايحمل من أذى للناس . وسيخوض رعاعُه وهمجُه في مستنقعات الرذائل والاضطراب والقلق ، واختلال الموازين ، وظهور أنواع الجرائم التي يرعاها إبليس منذ أن أخرجه كِبرُه وكذبُه وعدمُ طاعته لله رب العالمين ... من الجنة ، واستطاع بذلك الكذب والمكر والحيلة أن يخدع آدم وحواء عليهما السلام ، ويخرجهما من الجنة إلى دارِ الابتلاء مدة الحياة الدنيا .
والفطرة السليمة هي كتاب القيم الإنسانية العالية ، وهي مفتاح السعادة التي يسعى إليهـا الإنسان السوي ، وهي البيئة المباركة المحمودة للمجتمع الإنساني في كل زمان ومكان . وأفياؤُها المنشودة هي تلك المزايا التي تؤكد إنسانية الفطرة ، والتي تزهرُ أفنانُها النضرة ، وتتدلى ثمارُهـا اليانعة لكل الناس ، ولا تعني سوى تلك الأخلاق الفاضلة التي لو سادت لجلبت الخير والأنس والرحمة للمجتمع ، مَن مِن البشر لايحب التسامح والتآخي والمودة والصدق والإيثار ، ومَن من البشر لايحب التكافل الاجتماعي والتعاون بين الأفراد وبين الشعوب ، ومن من البشر لاتهفو نفسُه إلى الرحمة الشاملة ، وفيها يُحفظ للخلق أمنُهم واستقرارُهم . ففي هذه الأخلاق دعم أكيد لإنقاذ الناس من حالة بؤس إلى سعادة ، ومن خوف إلى أمن . وصدق الخالق العظيم إذ قال وهو يخاطب نبيَّه صلى الله عليه وسلم : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ، فالتراحم يعني لاوجود لبائس بين الناس ، ولا وجود لصاحب حاجة أثقلت كاهله في الليل والنهار ، فالتراحم يدٌ مباركة تمتد إلى كل إنسان يشكو من أمر معيشي ، قال صلى الله عليه وسلم: ( من نَفَّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدنيـا نَفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه ) .
وهنا يجد الإنسان الواعي أن ماجاء به الإسلام من أخلاق وآداب ، ومن مناهج اجتماعية ضرورة لابد منها لإنشاء المجتمع المثالي ، المجتمع الذي يجد فيه الإنسانُ نفسُه السعادة والطمأنينة ، فالأخلاق الحميدة توجـهُ السلوكَ فيكون حسنا ، والأخلاق يحرسها الإيمان بالله وما أعد الله لأهله ، فلا ترى الإنسان المسلم يطغى على أحد أو يظلم أحدا أو يأخذ مالَ أحد ، بل تراه يسرع في نجدة الملهوف ، وفي إعانة المحتاج ، وتلك هي من الأعمال الصالحات التي تجلب رضوان الله على أصحابها : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ، وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) 67/ النحل . فالأعمال الصالحات ماهي إلا السلوك الصالح الذي يُترجم إلى قيم وآداب ومعاملات ، ويشعر أصحابُها بمسؤولياتهم أمام الله أولا ، ثم أمام ضمائرهم ، وأمام مجتمعهم الذي يعيشون فيه . ولا يسلم المجتمع من أناس لايقيمون للفطرة السليمة أي قيمة ، وهمُّهم إشباع شهواتهم ، والاستجابة لغرائزهم القبيحة ، أينما وُجدت تلك الشهوات ، وكيفما تحركت هاتيك الغرائز . وهنا لابد من وازع يردع أعداء الفطرة السليمة ، إن لـم يخافوا عقوبة الله في الدنيا وفي الآخرة ، ولا بد من الضرب بقسوة على أيديهم الملطخة بالرذائل والقذارات . وشتان بين هؤلاء الذي حملوا رسالة الشر ، واستجابوا لدعوة إبليس . وبين أولئك الناس ممَّن استهوتهم أفياء الفطرة السليمة ، واستجابوا لدعوة الله لهم ، وأطاعوا رسله الكرام . ولقد تعددت الدعوة إلى فعل الخير في دين الله تبارك وتعالى ، في مواطن من آياته البينات ، وفي سُنَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وليس لأحد أن يكابر وينكر هذه الحقيقة الساطعة كشمس النهار . يقول صلى الله عليه وسلم حاثا على فعل الخير لمساعدة الفقير والمحتاج : (مَا نَقَص مَالُ عَبْدٍ مِنْ صدَقةٍ ) . وداعيا إلى صلة الأرحام ، وإلى الترابط الأسري والمجتمعي من خلال بذل المال أيضا : ( مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِيِ أَجَله، وَيُوسَع عَليه فِي رِزْقِهِ، فَلْيَصلْ رَحِمَهُ ) . ومؤكدا على قوة الترابط بين أبناء المجتمع : (تَهَادَوْا تَحَابُّوا ) . ومشاركا أهل بيته صلى الله عليه وسلم فكان : (يَخْصِفُ نَعْلَهُ وَيَخِيطُ ثَوْبَهُ وَيَعْمَلُ في بَيْتِهِ كَمَا يَعْمَلُ أَحَدُكُمْ في بَيْتِهِ ) صلى الله عليه وسلم . وتأتي هذه القيم على جميع حركات الإنسان الاجتماعية وعلى أوسع نطاق ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو لِيَصْمُت . ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) وفي رواية : ( فلا يؤذِ جـارَه ) . عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمُتْ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليُكرِمْ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ) . ونختم هذه المآثر بقول الله تعالى : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ) 215/ البقرة .
وسوم: العدد 963