الخاطرة ٣٠٥ : فلسفة تطور الحياة (الروحي والمادي) الجزء ١٣
خواطر من الكون المجاور
في الأجزاء الماضية من سلسلة مقالات فلسفة تطور الحياة (الروحي والمادي) تكلمنا عن زوايا رؤية إختصاصات مختلفة من العلوم والفنون وشرحنا دور الرمز الإلهي (١٨) في خلق المادة من بداية ولادة الكون وحتى تكوين الحجر الأساسي في بناء الحياة وهو الـ DNA والذي يحوي على هوية أو الشيفرة الوراثية لكل كائن حي . وذكرنا أن جميع تلك التطورات التي حصلت في تكوين المادة كانت تنتج من شيفرة إلهية وضعها الله في الرمز الإلهي (١٨) ، حيث من الأوتار الثلاثة (\ / | ) التي يتألف منها هذا الرمز تم في البداية تشكيل الجسيمات الأولية (الألكترونات ، الليبتونات ، البوزونات) والتي منها تم تكوين الذرات بأنواعها المختلفة . حيث تركيب الذرة هو أيضا يتألف من قسمين : الأول وهو النواة والتي تتألف من نوعين من الجسيمات البروتونات والنيترونات وتمثل الرمز (٨) ، والقسم الثاني يتألف من الألكترونات ويمثل الرمز (١) ، وهذه الذرات بدورها ستتفاعل مع بعضها البعض لتكوين المركبات الكيميائية العضوية واللاعضوية اللازمة في بناء المادة الحية والوسط المناسب الذي ستعيش به . وذكرنا أيضا أن أهم جزيء في تكوين الأجسام الحية هو الماء والذي يعتبر هو أيضا صورة أخرى للرمز (١٨) حيث أنه هو الآخر يتألف من قسمين : الأول ويتألف من ذرتي هيدروجين ويمثل الرمز (٨) ، والثاني ذرة واحدة من أوكسجين ويمثل الرمز(١) . وأن الـDNA أيضا تم تكوينه على مبدأ الرمز الالهي (١٨) حيث أنه يتألف من شريط مضاعف يلتف حول نفسه بشكل حلزوني ، حيث كل شريط يتألف من سلسلة متتالية من مركبات عضوية تسمى نيوكليوتيدات مرتبطة ببعضها البعض على شكل درجات السِّلم ، حيث نجد كل نيوكليوتيد منها هو الآخر يتألف من قسمين : القسم الأول هو النيوكليوزيدات والتي تتألف من مركبين (أساس+سكر) ، فالنيوكلوزيد رمزيا يمثل الرمز (٨) . أما القسم الثاني فهو حمض الفوسفور والذي يمثل رمزيا الرمز (١) . أي أن الشريط المضاعف للـDNA يشكلان معا الرمز (١٨) ونظيره (٨١) ، الموجودين في شكل خطوط كف اليد اليمنى واليسرى ، حيث مجموعهما كشكل رقمي يعادل (٩٩) وهو عدد الأسماء الحسنى .
السؤال الذي يشغل اليوم فكر علماء الأحياء هو : هل تكوين الخلية الأولى في الحياة وظهور الأنواع المختلفة من الكائنات الحية قد حصل بتدخل إلهي أي خلق مباشر ، أم أنها ظهرت من تلقاء نفسها ؟ هناك عدة نظريات تحاول الإجابة عن هذا السؤال منها : النظرية الخلقية ، نظرية التطور الداروينية الحديثة ، نظرية التطور الموجه ، حركة التصميم الذكي .
عندما ظهرت نظرية داروين كانت المجاهر المستخدمة في دراسة الخلية بحالة بدائية (مجاهر بقوة تكبير حوالي ٢٥٠ مرة) عاجزة عن كشف حقيقة ما يجري داخل الخلية من تفاعلات وعمليات حيوية ، فكانت الخلية بالنسبة لهم عبارة عن كتلة هلامية بسيطة التعقيد ، لهذا كان علماء الآحياء المؤيدين لنظرية داروين يعتقدون تماما بأن الخلية الحية الأولى التي هي أصل جميع أنواع الكائنات الحية هي أيضا نشأت بالصدفة (تخليق لاحيوي) أي أن الحياة نشأت في بداية الأمر من الجماد ، وأنها عملية طبيعية لا تحتاج إلى تدخل من خالق أو غيره. ولهذا حاولوا في المختبرات محاكاة الظروف البدائية للكرة الأرضية على أمل خلق مادة حية من مواد غير حية . ولكن مع ظهور المجهر الإلكتروني (له قوة تكبير ٢٠٠٠،٠٠٠ مرة ) والمجهر الذري ، عندها تبين لمعظم مؤيدي نظرية التطور الداروينية كم هي تلك التعقيدات الهائلة من التفاعلات البيولوجية التي تحدث في داخل الخلية الواحدة، وأن محاولة صنع مادة حية من مواد غير حية مخبريا هو مجرد فكرة خرافية . فنجد اليوم أن معظمهم يؤكدون على أن نظرية التطور الداروينية الحديثة ليست مهمتها تفسير نشوء الحياة ولكن تفسير ما حدث فقط بعد نشوء الحياة ، رغم أن المبدأ العام الذي تستند عليها نظريتهم (الصدفة - الإحتمالات) يجب أن ينطبق أيضا على نشوء الأصل الأول للحياة . فطالما أن تطور الحياة حدث بشكل عشوائي وعن طريق الصدفة فيجب أيضا على العشوائية أن تكون قادرة على تخليق الحياة . وبسبب فشل جميع محولات تخليق مادة حية مخبريا لهذا نجد اليوم أن بعض العلماء يعللون ظهور الحياة على سطح الأرض بأن الخلايا البدائية أتت من خارج كوكب الأرض (نظرية البذور) .
في الحقيقة أن نشوء الحياة يتم محاولة تفسيره اليوم بحسب المبادئ التي تعتمد عليها كل نظرية من نظريات التطور (الخلقية ، الداروينية الحديثة ، التطور الموجه ، التصميم الذكي ) ، لهذا لابد من فهم المبادئ الأساسية في كل نظرية من هذه النظريات .
شرح هذه النظريات بشكل مفصل سيحتاج إلى صفحات عديدة ، ومن يريد المزيد من التفاصيل عنها يمكن العودة إلى المراجع الموجودة في آلاف المواقع سواء كانت كتب أو مقالات أو فيديوهات في الإنترنت . ولكن هنا سنعرض بعض الملاحظات عنها لتساعدنا في شرح موضوع فلسفة تطور الحياة.
رأي النظرية الخلقية في نشوء الحياة وظهور الأنواع المختلفة من الكائنات الحية وكذلك الإنسان تعتمد على مبدأ أساسي وهو الخلق المباشر من الخالق ، أي أن كل نوع من الكائنات الحية ظهر بشكل مستقل عن غيره بمبدأ (كن فيكون) . وحسب رأي مؤيدي هذه النظرية أن فكرة تطور الحياة كما يؤمن بها سواء كانوا مؤيدي النظرية الداروينية أو مؤيدي التطور الموجه أو التصميم الذكي ، هي أفكار إلحادية هدفها إلغاء أو تشويه الدين والكتب المقدسة.
هناك قسم كبير من الناس العامة المؤمنيين بوجود الله تؤمن بالنظرية الخلقية ، فكما قرأت في إحدى المقالات أن نسبة المسلمين الذين يؤمن بها تعادل ٤٥% . المشكلة في تصديق صحة هذه النظرية أن المنطق الذي تعتمد عليه هو مشابه تماما لذلك المنطق الذي سيطر على فكر العلماء المسلمين في القرن السابع الهجري والذي كان نتيجته إنهيار الحضارة الإسلامية ودخولها في عصر الإنحطاط ، فهولاء ال ٤٥% من المسلمين هم الحقيقة من بقايا عصر الإنحطاط . ولهذا نجد أن مؤيدي النظريات الأخرى يطلقون عليهم لقب (السلفية) . فالنظرية الخلقية بشكل غير مباشر تحاول إلغاء الأبحاث العلمية وكذلك تحاول تنمية الإيمان بفكرة (الله يفعل ما يشاء) بمفهومها السلبي وليس الإيجابي الذي كان ملائما جدا في العصور القديمة وذلك بسبب إنخفاض المستوى العلمي الذي لم يكن يسمح لأي عالم أن يخوض في البحث في أعماق الأمور بهدف دراستها . فهي تنظر إلى الإنسان وكأنه كائن ثابت في تكوينه الروحي ، وكأن إنسان العصر الحجري يماثل تماما في تكوينه تكوين إنسان العصر الحديث . وهذا غير صحيح كونه يعارض القوانين الإلهية المذكورة في النصوص الدينية ، فالحديث الشريف يذكر ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) وكذلك الحديث الشريف (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) . أساس الدين هو الأخلاق ، والأخلاق ليست معلومات فكرية فقط وإلا لكانت نزلت من البداية دفعة واحدة ولا حاجة لها لكي تتطور ، فالأخلاق هي سلوك . والسلوك هو تعبير عن هوية التكوين الروحي للكائن الحي . لا يوجد شيء ثابت ، كل شيء في الكون هو في حالة تطور . فالآية القرآنية تقول {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ ... (١٦)النمل} ، فكل شيء لم يظهر دفعة واحدة ولكن بشكل تدريجي وهذا هو المعنى الحقيقي للتطور . والنصوص الدينية تفرض على المؤمن طلب العلم (...وإنَّ فضلَ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ ليلةَ البدرِ على سائرِ الكواكبِ ....) فالعلم المقصود به هنا ليس فقط العلوم الدينية وتلك العلوم المادية التي تؤمن حاجات الإنسان المادية كعلم الطب والهندسة وغيرها ، ولكن أيضا تلك العلوم التي تمكن الإنسان من معرفة نفسه وتكوينه وعلاقة ما يجري حوله ليأخذ صورة واضحة (مادية وروحية) عن هويته وعن السبب الحقيقي لوجوده على سطح الأرض .
بالنسبة لنظرية التطور الداروينية الحديثة ، فحتى نفهم حقيقة منطق أتباع هذه النظرية ، يجب أن نعود إلى الوراء قرون عدة . فأحد أهم أهداف ظهور الإسلام كان القضاء على منطق الفرقة الدهرية الذي إنتقل إلى الجزيرة العربية من فلاسفة إنحطاط الحضارات المجاورة وخاصة الحضارة اليونانية . فالدهرية هي فرقة ظهرت ما قبل الإسلام وكانت تؤمن أن الزمان (الدهر) بمفهومه المادي هو السبب الأول للوجود وأنّه غير مخلوق ولا نهائي ، حيث اعتقد الدهريون بإسناد الحوادث إلى الدهر، فنسبوا كل شيء إلى فِعل القوانين الطبيعية العشوائية التي أثرت على العالم وعلى الإنسان وحياته ، فهي تعتبر أن المادّة هي أصل كل شيء وهي غير فانية وأن الإنسان لا يختلف منزلة عن سائر الحيوانات فهو ليس إلا أحد أنواع الكائنات الحية التي ظهرت بالصدفة .
لو تأملنا جيدا في مضمون منهج النظرية الداروينية الحديثة سنجد أنها تعتمد تماما منطق فكر الفرقة الدهرية وهي تستخدم جميع أنواع التقدم العلمي في البحث في محاولة إثبات صحة هذه النظرية . فرغم العيوب فيها والتي يعترف بها الكثير من مؤيدي هذه النظرية وأهمها تلك الفجوة بين النوع والنوع المشابه له ، ولكن دائما ما كانوا يعللون سبب عجز نظريتهم بأنه مع مرور الزمن ومع تطور العلوم وإزدياد عدد المستحاثات الجديدة سيؤدي إلى حل تلك الألغاز التي تعاني منها النظرية .
المشكلة في سبب ازدياد نسبة عدد مؤيدي نظرية التطور الداروينية الحديثة هو أن المنهج العلمي الحديث هو منهج مادي بحت يعاني من عمى البصيرة ، ونظرية التطور الداروينية الحديثة هي في الحقيقة لا تزال في مرحلة (الفرضية) ولم تصل إلى منزلة تستحق أن تسمى (نظرية) ، فتعريف النظرية هو : تفسير لحقيقة علمية بأدلة عديدة تصل إلى أعلى درجات اليقين ، وهذا لم يحصل حتى الآن في (نظرية) التطور الداروينية الحديثة ، فهناك أدلة عديدة أخرى هامة جدا يتطلب وجودها والتي يراها معارضوا هذه النظرية ولكن لا يراها أو يشعر بأهميتها مؤيدي نظرية التطور الداروينية بسبب شدة تغلغل منطق المنهج العلمي الحديث في عقلهم ا لباطني . فالمشكلة هي أننا نعيش في عصر تسيطر عليه منطق الفرقة الدهرية ، فهناك رغبة شديدة لا إرادية في نفوس الكثير من العلماء اليوم تدفعهم على إثبات عدم وجود الله . فالمنهج العلمي الحديث تم تأسيسه على يد علماء ومفكرين وفنانين من القرن التاسع عشر استطاعوا عن طريق استخدام بعض المبادئ الإنسانية مثل الفكر الإشتراكي وحرية المرأة وحقوق الإنسان وغيرها كنوع من الخديعة لرش الرماد على العين من أجل ضمان تقبل هذا المنطق المادي البحت من قِبل الآخرين . وقد تكلمنا عن هذه الخدعة في مقالة سابقة تحمل عنوان (خدعة القرن التاسع عشر) . وربما أفضل مثال نذكره عن هذا النموذج من العلماء ، هو العالم الكوني ستيفن هوكينج الذي استغلت دور النشر ودور الإعلام مرضه الجسدي (شلل كامل) ليجذب شفقة الجميع عليه ، وجعلت منه نجم عالمي ، أذكى إنسان في العالم وأشهر عالم في فيزياء الكونية ، رغم أنه لم يقدم أي معلومة أو نظرية فيزيائية مفيدة للعلم والإنسانية ، حيث أنه فقط حاول أن يستخدم علوم الفيزياء في إطار فلسفي مزيف من أجل إثبات فكرة أن ولادة الكون وظهور الحياة لا يحتاج إلى خالق وأن قانون الإنتروبيا (الفوضى) كفيل بإحداث جميع التغيرات والتطورات التي حصلت منذ ولادة الكون وحتى الآن ، هذا المنطق تماما هو منطق الفرقة الدهرية الذي كان ظهور الإسلام هدفه القضاء عليها.
لو تمعنا جيدا في مضمون ما يجري اليوم نجد أن سبب تزايد نسبة مؤيدي منطق الدهرية في تطور الكون والنظرية الداروينية الحديثة ، هم أنفسهم مؤيدي النظرية الخلقية ، فرغم أن مؤيدي هذه النظرية يهاجمون بشراسة نظرية التطور الداروينية الحديثة باستخدام النصوص الدينية ، ولكنهم بشكل غير مباشر ومن دون علمهم يتعاونون مع مؤيدي نظرية التطور الداروينية في خلق نفور الكثير من الناس من الدين وكذلك يساهمون في تشويه معاني النصوص الدينية ليتحول الدين إلى عقيدة لا تنفع في حل أي مشكلة من المشاكل التي تعاني منها الإنسانية اليوم تماما كما حصل في بداية عصر إنحطاط الحضارة الإسلامية عندما شنوا هجوما عنيفا ضد العلماء والفلاسفة فاختفى العلماء من دور التعليم وحل محلهم علماء الدين فقط .
أكبر مشكلة في النظرية الخلقية هي أنها تجعل قصة الخلق قصة فقيرة يمكن إختصارها بعبارة واحدة (الله يفعل ما يشاء) ، فمؤيدي هذه النظرية لا يعلمون أن هذه الطريقة في الخلق تعتمد أسلوباً بدائيا في صناعة الأشياء وتجعل الإنسان متفوقا على الله في طريقة صناعة الأشياء . فالإنسان اليوم قد استطاع أن يصل إلى مرحلة من التقدم العلمي والتكنولوجي أن يصنع مصنع مبرمج بحيث يحتاج إلى لمسة زر واحدة ليجعل عدد كبير من الآلات تعمل من تلقاء نفسها لتنتج من أشياء بسيطة منتوجات معقدة الصنع كعلب الكونسرفا أو الألبسة أو الساعات أو الأجهزة الكهربائية وغيرها. بينما الخلق في النظرية الخلقية يتم بشكل منفصل يحتاج إلى تدخل إلهي مستمر لينتج كل نوع بمفرده كل فترة وفترة ، حيث عدد أنواع الكائنات الحية التي ظهرت منذ ظهور الحياة وحتى اليوم تقدر بالملايين أو المليارت . فهذا الأسلوب البدائي في الخلق سيفرض مباشرة الإيمان بوجود تدخل إلهي مباشر مستمر أيضا في التحكم في الأحداث التي حصلت مع الأنبياء والرسل أو حتى مع كل إنسان مؤمن وغير مؤمن . فحسب هذه النظرية كأن الله عز وجل جالس على عرشه يراقب كل مكان وفي كل لحظة ليتدخل ويمنع أي تغيير يحصل في مخططه الإلهي . هل من المعقول أن يستخدم الله هذا الأسلوب البدائي الذي يؤمن به علماء وأتباع النظرية الخلقية ؟ حاشاه ذلك فهو يعتمد مبدأ (كن فيكون) ولا حاجة له أن يتدخل في أي شيء فكل شيء تم تشفيره في الرمز (١٨) ومن البداية ليعمل الكون منذ بدايته وحتى نهايته على ذلك المخطط الذي حدده الله في هذه الشيفرة الإلهية.
أما تلك الآيات والأحاديث التي يستخدمها مؤيدي النظرية الخلقية ومنها :
{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ {٧٥) ص} وكذلك الحديث الشريف (إن اللهَ خلَقَ آدمَ مِن قبضةٍ قَبَضَها مِن جميعِ الأرضِ ....) ، فاستخدم المعنى الظاهري لها هو أيضا يقلل من شأن القدرة الإلهية ، فاليد هي عضو يستخدمه الإنسان ليؤدي وظيفة معينة ، والله عز وجل ليس بحاجة لمثل هذا العضو المادي لأن وجود هذا العضو في التكوين الإلهي يدل على نوع من النقص ، فهو يكفيه أن يقول للشيء (كن فيكون) فلماذا سيحتاج إلى يد . فالمقصود في الآية القرآنية هو الرمز (١٨) الموجود في يد الإنسان، والذي خلق الإنسان على صورته ، والمقصود ليس صورته المادية ولكن الروحية كونه يحمل جزء من روح الله في تكوينه . فكما ذكرنا أن خطوط اليد (١٨) والنظير له (٨١) تشكل الرقم (٩٩) الذي هو عدد أسماء الله الحسنى ، هذه الأسماء الحسنى قادرة على تكوين أي شيء داخل الكون من دون أي تدخل إلهي ، لأنها موجودة في الشيفرة الإلهية منذ البداية .
أما كلمة (قبض) المذكورة في الحديث الشريف ، وهنا أيضا لا يقصد به معناه المادي ولكن معناه الرمزي ، فمعنى قبض له عدة معاني منها جمع عدة أشياء في مكان صغير وهو قبضة اليد {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } ، وكذلك له معنى قَبَض على زمام الأمور أي تحكَّم فيها وسيطر عليها ، قَبَّضَ الشيءَ يعني جَمَعَهُ في قبضته . فمعنى الحديث لا علاقة له بذلك المفهوم المادي الفقير الذي يعتمد عليه أتباع النظرية الخلقية.
المشكلة في أدلة أتباع النظرية الخلقية أنهم لا يفرقون بين النصوص التي تتكلم عن خلق آدم في الجنة وخلق الإنسان خارج الجنة بعد طرده منها حيث عندها وصل تكوينه إلى أسفل سافلين {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) التين} بسبب الخطيئة . فأتباع النظرية الخلقية بهذه التفسيرات الظاهرية الفقيرة يُشبهون -دون علمهم- الله بالإنسان من الناحية الجسدية ومن ناحية نوعية التفكير ، بينما الآية في سورة الإخلاص تنفي ذلك (وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ) . إن الإيمان بفكرة أن الله خلق آدم على سطح الأرض بشكل مباشر ومن قبضة من الطين ، سيجعل آيات القرآن تخسر قدسيتها وتتحول إلى جمل من تأليف عقل بشري لا يتقبلها عقل إنسان يعيش في قرن الواحد والعشرين .
بسبب وجود ذلك التعصب الديني عند أتباع النظرية الخلقية وكذلك التعصب الإلحادي عند الكثير من أتباع نظرية التطور الداروينية الحديثة ، دفع بعض العلماء في البحث عن نظريات أخرى تفسر نشوء الحياة وظهور الأنواع المختلفة من الكائنات الحية بشكل علمي وبشكل لا يُحدث إنفصال بين الدين والعلم ، فظهرت نظرية التطور الموجه وحركة التصميم الذكي . حيث أنهما تعتمدان على مبدأ هام جدا وهو محاولة توضيح ضرورة وجود (خالق) في خلق الحياة والأنواع المختلفة من الكائنات الحية ، فهي تلغي بشكل نهائي مبدأ الصدفة والعشوائية في ظهور الأنواع الحية .
نظرية التطور الموجه تنظر إلى النظرية الداروينية الحديثة من شقين : الأول وهو كثرة الأدلة العلمية التي تقدمها النظرية والتي تؤكد على وجود تطور قد حصل على الأنواع المختلفة من الكائنات الحية ، لهذا نظرية التطور الموجه هي أيضا تعترف بصحتها صحتها . الشق الثاني وهو العشوائية الذي يعتبر مبدأ أساسي في النظرية والذي ليس عليه أي دليل علمي . فنظرية التطور الموجه تحاول أن تلغي مبدأ العشوائية لتضع بدلا منه مبدأ وجود خالق يصنع هذا التطور . وهذه النظرية تعتمد بشكل أساسي على علم المعلومات ، فحسب هذه النظرية أن كل شيء يتكون من مكونين أساسيين وهما : المكون المادي والمكون المعلوماتي . وأصل كل شيء بالنسبة لهم هو المكون المعلوماتي بعكس مؤيدي نظرية التطور الداروينية الذين يعتقدون بأن المكون المادي هو الأول . فمثلا وجود عدد كبير من الأحرف المتفرقة في مطبعة لن تشكل قصيدة لشكسبير إذا حدث زلزال مثلا وحرك مكان وجود هذه الأحرف ، فلا بد من مصدر واعي يعطي معلومات معينة لتصطف هذه الأحرف بجانب بعضها بطريقة محكمة لتعطي معاني معينة . وهذا المصدر الواعي بالنسبة لنظرية التطور الموجه هو الإله الخالق . فكل تطور يؤدي إلى تغيير كائن حي إلى كائن حية آخر يحتاج إلى عدد هائل من المعلومات لتقوم بهذا التغيير . لهذا لا يمكن وجود هذه المعلومات بدون وجود إله خالق . فنظرية التطور الموجه بشكل عام تقبل أسس نظرية التطور الداروينية كالأصل المشترك لجميع الكائنات الحية، وشجرة الحياة ، ولكنها ترفض بشكل قطعي مبدأ العشوائية .
بالنسبة لحركة التصميم الذكي فهي بدأت في الظهور في أوائل الثمانينات كمحاولة في التشكيك في كفاية الآليات التطورية في النظرية الداروينية الحديثة في تفسير التنوع الحيوي الهائل . ولكن بعد ذلك قامت بتأسيس برنامج بحث علمي كمحاولة يصبح فيه التصميم الذكي حجر أساس لفهم تنوع وتعقيد الحياة كنظرية بديلة للنظرية الداروينية . في البداية لم تلقى هذه الحركة الجديدة إهتمام الوسط العلمي ، ولكن بعد نشر مايكل بيهي لكتابه (صندوق داروين الأسود) في عام 1996 ، الذي عرض فيه لأول مرة شرح علمي لآلية عمل التصميم الذكي في العالم البيولوجي. هذا الكتاب أحدث ضجة قوية ، حيث بعض الأمثلة التي تم طرحها في كتابه كأدلة على شدة التعقيد غير القابل للاختزال ، أربكت ثقة الكثير من مؤيدي النظرية الداروينية بنظريتهم . وهذا ما جعل الوسط العلمي والثقافي يقتنع تماما بمدى جدية آرائهم العلمية والفلسفية حول أصل وتنوع الحياة .
التطور حسب النظرية الداروينية الحديثة ، يتم بالصدفة وبشكل عشوائي وبدون وجود لا غاية ولا ذكاء ولا تصميم ، أما التطور حسب التصميم الذكي ، فإن المصمم (الإله الخالق) له طرقه الخاصة التي سيصمم بها كل قفزة كبيرة أسفرت عن مرحلة جديدة من الحياة.
الجدير بالذكر هنا أنه رغم أن السبب الحقيقي لرفض علماء التطور الموجه والتصميم الذكي للنظرية الداروينية هو في الأصل تناقضها مع الدين ولكن رغم ذلك لم يستخدموا أي نص ديني بل فقط الحجج العلمية. واليوم نجد أن عدد أتباع نظرية التطو ر الداروينية - وخاصة المتخصصين بعلم الأحياء أو القريبة منه - وكذلك أتباع النظرية الخلقية، الذين قد تخلوا عن النظرية التي يؤمن بها (الداروينية والخلقية) لينضموا إلى مؤيدي نظرية التطور الموجه والتصميم الذكي يتزايد باستمرار ولا يحدث العكس .
للمزيد عن نظرية التطور الموجه والتصميم الذكي وعن الأدلة التي تعرضها كلا النظريتين يمكن العودة إلى الكتب والمقالات ومقاطع الفيديو الموجودة في الإنترنت ، وربما من أهم وأبسط الأدلة في الفهم هو شدة تعقيد تركيبة سوط البكتيريا flagellum الذي يساعدها في عملية الدفع والحركة والذي يؤكد أنه من المستحيل أن يكون قد ظهر بشكل تدريجي نتيجة تعديلات متعاقبة وطفيفة . حيث يقول داروين في كتابه أصل الانواع "إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد لا يُرجَّح أنه قد تشكل عن طريق العديد من التعديلات المتعاقبة والطفيفة، فسوف تنهار نظريتي تماما" .
فكرة وجود تطور هي فكرة قديمة قبل داروين بقرون عديدة ولكن الذي حصل وجعل فكرة التطور تشغل بشدة أبحاث العلماء من مختلف الإختصاصات هو أن داروين حاول وضع آليات مادية في تفسير هذا التطور وهذا ما أعطاها منطق إلحادي ، وهذه هي أكبر مشكلة في نظرية داروين. أما نظرية التطور الموجه وحركة التصميم الذكي ، فرغم أنها لاتقدمان أي تفسير في فهم آليات التطور ولكنهما تفتحان زاوية رؤية جديدة في المنهج العلمي الحديث في دراسة التطور كان قد أغلقها داروين وماركس وغيرهم وهي دور الإله الخالق .
كل شيء حصل داخل الكون يتطور وهذا التطور يعتمد على مبدأ واحد تسير عليه جميع القوانين الكونية وهو " أن الشيطان أغوى حواء وحواء بدورها أغوت آدم لإرتكاب الخطيئة فكانت النتيجة طرد الإنسان من الجنة وانهيار تكوينه إلى أسفل سافلين ، فوجب على الإنسان خارج الجنة تصحيح هذا الخطأ ليستطيع العودة إليها . فكل ماحصل من تطورات من بداية الكون وحتى اليوم ليس إلا عمليات تصحيح لذلك التشويه الذي حصل في التكوين الإنساني بسبب تلك الخطيئة " . وهذا المبدأ الإلهي تم تشفيره في الرمز (١٨) لصنع كل ما يلزم لتطور كل شيء في داخل الكون ...... في المقالات القادمة إن شاء الله سنتابع شرح دور الرمز الإلهي(١٨) في نشوء الحياة وظهور الأنواع المختلفة من الكائنات الحية..... والله أعلم.
وسوم: العدد 964