أليكسا والنبك

د. محمود نديم نحاس

د. محمود نديم نحاس

حصار مدينة "النبك" السورية ثم المذبحة التي حصلت فيها لا يمكن أن تمر مروراً عابراً دون أن يكتب عنها الكُتّاب، ليتركوا للمؤرخين مادة غزيرة ربما تجعلهم يفقدون البوصلة من كثرة المعلومات والأحداث. وفي أحداث سوريا مهما كان الحدث اليوم شنيعاً سنجد في الغد ما هو أشنع منه. ويؤكد كثيرون أن وسائل الإعلام لا تذكر كل ما يحدث. فهذه رسالة وصلتني من صديق يقول: استشهدت عمتي وابنتها في مدينة النبك. فقد كان في قبو منزلها أكثر من أربعين من أهالي الحي، فحوصر المنزل، ثم أشعلت النار فى القبو، فقُتل جميع من كان فيه!.

لقد سمعنا عن حصار الجاهليين لآل هاشم في الشِّعب، لكننا لم نسمع أنهم أضرموا النار ليقتلوهم. وسمعنا عن حصار بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لمنعه من الهجرة، لكننا قرأنا أن أبا جهل عندما اقترح عليه بعض من كان معه اقتحام المنزل رفض! لماذا؟ خوفاً من أن تعيّره العرب بقيامه بعمل نذل وخسيس! لكن الشبيحة اليوم لا يهمهم أن تعيّرهم الدنيا كلها بقتل بني وطنهم.

وتخبرنا وسائل الإعلام بارتفاع حصيلة الوفيات بين السوريين النازحين في بلادهم واللاجئين في بلدان مجاورة، بسبب "أليكسا"، العاصفة الثلجية التي تضرب المنطقة، حيث توفي اثنا عشر طفلاً نتيجة البرد القارس في أحد المخيمات، وتُوفي ستة أطفال حديثي الولادة في مخيمات أخرى، وتُوفيت سيدة مسنَّة في مخيم إثر انهيار خيام تحت الثلج، وتُوفي لاجئان في مخيم آخر. نعم هذه حصيلة وفيات "أليكسا"! فهل تقارن مع مذبحة واحدة مما يقوم به الظالمون؟ أو مع عدد القتلى بالبراميل المتفجرة التي تقذفها الطائرات فوق حلب؟

لماذا نتهم أليكسا ولا نسأل لماذا وُجد هؤلاء الضحايا في العراء؟ وهل كان بالإمكان نجدتهم قبل فوات الأوان؟ ففي أحدث تقدير لمفوضية اللاجئين بلغ عدد النازحين في الداخل حوالي 6.5 ملايين شخص، وعدد اللاجئين إلى الدول المجاورة أكثر من 2.3 مليون، ويؤكد ناشطون ميدانيون إن مئات الأطفال مهددون بالموت برداً داخل المخيمات، إضافة إلى بعض أفراد الأسر في الأحياء المحاصرة في حمص وريف دمشق والتي تعاني نقصا حادا في الحاجات الأساسية كالأغذية والأدوية والألبسة الصوفية ومواد التدفئة، مما يؤدي إلى انتشار الأمراض، وقد تُوفي بعض المصابين بأمراض ناتجة عن سوء التغذية وغياب الأدوية.

يتساءل بعض الناس: لماذا الإكثار من الحديث عن مأساة السوريين؟ ولم أجد جواباً أبلغ مما قاله الشاعر السوري زكي قنصل، من مهجره في الأرجنتين، عندما حلّت نكبة فلسطين:

يا منكراً شكوايَ عُذرُكَ بَيِّنٌ *** وقعُ الأنينِ على السليمِ ثقيلُ

أتسومني مرحَ الطليقِ وموطني *** بين السلاسلِ والقيودِ ذليلُ

لهفي على أحراره غصّت بهم *** بيد وضاقت أنجدٌ وسهولُ

مليونُ عانٍ في العراءِ تشرَّدوا *** لم يختلجْ لهوانِهم مسؤولُ

نصبوا على درب الرياح خيامَهم *** يذكي جراحَهم غدٌ مجهولُ

ولا أدري ماذا كان سيقول لو امتدت به حياة ورأى ملايين السوريين قد تشردوا، ورأى مذبحة "النبك" التي تبعد أقل من عشرة كيلومترات عن بلدته "يبرود"، التي خرج منها مهاجراً.

وأختم بقصة يقول كاتبها بأنه كان يمشي فيما تبقى من شوارع حمص، والجو شديد البرد، فرأى طفلا يبيع غزل البنات، وقد احمرّت يداه ووجهه من شدة البرد. فأراد صاحبنا أن يشتري منه ستة قطع، لكنه فوجئ أن الطفل لا يعرف حساب قيمتها، فهو يعرف سعر الواحدة فقط! ثم تبين له أن الولد نازح من منطقة القلمون (وهي الجبال التي فيها النبك ويبرود) ولا يذهب إلى المدرسة، وأنه اضطر للعمل لأن والده لم يجد عملاً! والعجيب أن الطفل لم يرضَ أن يقبل أي مبلغ زائد عن حقه، فقد أراد الكاتب أن يساعده ليذهب وينعم بالدفء بين أهله، لكن الولد رفض قائلاً: لا آكل إلا من عرق جبيني! ثم يعلّق الكاتب بأن هذا الطفل أشرف من الذين يأكلون الأموال بالحرام ويتاجرون بدماء الناس، وهم يرتعون في الدفء والنعيم!