الغرب الرأسمالي ونيلسون مانديلا
د. ضرغام الدباغ
أمام مشهد درامي يعبر عن الحزن العميق والتعاطف الشديد مع شعب جنوب أفريقيا في وفاة القائد نيلسون مانديلا، ولا أتحدث هنا عن تعاطف الأفراد في الدول الأوربية وأميركا، فلربما هناك ثمة ضرب من عطف حيال مشهد الموت الذي له ثقل نفسي كبير على الأفراد بغض النظر عن أي شأن آخر، ولكني هنا معني بموقف الحكومات الغربية، الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وسائر الدول الغربية الأخرى، التي كانت ولا تزال، تمزق أفريقيا شر ممزق، استعباداً، ونهباً وسلباً، وتقتيلاً، بل حتى بلغ شدة التأثر أن حضر رؤساء هذه الدول مراسم التشيع والدفن وما رافقها من احتفالات جماهيرية.
ولما كان الرجل قد توفي، فالأمر ليس في إبداء تعاطف معه شخصياً ولا مع أفكاره، وفي هذه الأمور السياسية لا مجال البتة لعواطف والأخلاق، فما هو إذن لب وجوهر هذا التعاطف المثير للدهشة، وربما الاشمئزاز..
الغرب الرأسمالي حاول بل أقام نظاماً عنصرياً يعتمد على الأقلية البيضاء من المستعمرين، في جنوب أفريقيا، (وفي زمبابوي ـ روديسيا التي سقط نظامها العنصرية بسهولة بسبب الحماقات التي أرتكبها حاكمها أيان سمث)، ليس فقط بدوافع اللون والمزاج والهوى، بل لأن حكم الأقلية البيضاء كان ذيلاً للنظام الرأسمالي العالمي، ودعموه بكل القوى والامكانات، وساعدوه، ليكون ذيلاً وتابعاً بكل أبعاد الكلمة ومعانيها، أرادوا له أولاً أن يلعب دور قاعدة الارتكاز المركزية في القارة السوداء بالأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية لهذا التوجه، وحقاً كان هذا النظام يلعب هذه الأدوار، فسمحوا له بأمتلاك الأسلحة النووية، وأن يبقى خارج اتفاقية حظر أنتشار الأسلحة النووية ووكالة الطاقة النووية، وأرتكب النظام سياسة الفصل العنصري، ومارس جرائم عنصرية، دون أن يرف للغرب جفن، ودون إثارة ولا حتى نسمة، ناهيك بالزوبعة، وكانت قد لعبت دور الداعم الرئيس لحكم الأقلية البيضاء في روديسيا (زمبابوي لاحقاً) حتى سقوطه، فتحولت زميابوي ورئيسها موغابي إلى كابوس للغرب لأنه أعاد البلاد لأصحابها، وأنهى احتكاراتها، ولكنهم وعندما أيقنوا تمام اليقين أن نظام الفصل العنصري في برتوريا ماض لا محالة، أمام إصرار شعب جنوب أفريقيا على أستعادة بلاده، فعلوا كل شيئ ليكون هذا التحول تحت السيطرة (Under Control) ، فابتدأت الأوركسترا الغربية بالعزف، فحاولوا تنصيب القس الكاثوليكي الأسود ديزموند توتو رئيساً للبلاد، ولما فشل هذا الخيار جاءوا بالرئيس الأنتقالي دي كليرك، الذي دمر الأسلحة النووية والاستراتيجية، وأنظم لمعاهدة حظر الأسلحة النووية، وأضطر حتف أنفه الذهاب إلى مانديلا في سجنه ليخاطبه خطاب العقل لا القوة التي استخدموها بوحشية مفرطة طوال عشرات السنين.
هدف التخاطب كان: انتقالا سلساً للسلطة، لا يقاضي الإجرام العنصري، ولا يقصي الأقلية البيضاء من المجتمع، الاقتصاد والدولة، ويضمن لدولة جنوب أفريقيا أن لا تكون في قلب المعسكر المعادي للاستعمار الذي وقف مع شعب جنوب أفريقا خاصة وشعوب أفريقيا المناضلة عامة، وأن لا يسمح بالتحولات السياسية والاقتصادية أن تمضي إلى آخر مداها ومسارها، ومقابل ذلك ليخرج السجين السياسي إلى سدة الحكم مباشرة، فليس سوى مانديلا يمكن أن يوحد البلاد ويحدد بوصلتها السياسية، وسوى ذلك الفوضى وفقدان المرجعيات، والغوص في الدماء، ومجازفات الحكومات الوطنية وتطلعاتها الثورية.
مانديلا أدرك بثاقب بصره وبصيرته، أيضاً الوجه الآخر للمسارات المحتملة، وقدرها تقديراً دقيقاً، وقبل بنصف أنتصار، على أحتمال الهزيمة والفوضى وغياب الحكمة في تقدير الأمور، قبل أن يتسلم الحكم ليس كما كان يريد حقاً، على أمل تطور تدريجي سلمي قد يأخذ عقوداً من الزمن كما أخذ الصراع عقوداً طويلة دامية، ولكنه يجنب بلاده خراب لا يعرف حجمه ومداه.
ولكن هل أذعن الغرب للإرادة الشعبية الأفريقية أو أحترمها .......؟
ليس هناك دليل واحد على أحترام الغرب للإرادة الشعبية، أما مظاهر الحزن فلا تدل على شيئ جوهري، فالرأسمالي يفعل كل شيئ لترويج بضاعته، يرقص ويغني ويبكي ويمثل، بل أن الغرب يخطط لأستلام أفريقيا بدون سكان، وهنا نجد أنفسنا مضطرين لأستعادة وتصديق ما نشر في وسائل إعلام الدول الاشتراكية في مطلع الثمانينات أن جرثومة الآيدز إنما هي جرثومة مهجنة من لوكيميا الدم عند القرود الأفريقية طورتها مختبرات الاستخبارات الأمريكية، إلى هذا الجرثوم الفتاك، وها هو فعلاً يفتك بألافارقة فتكاً لا يرحم، وليقول أحد الرؤساء الأمريكيين أنهم سيستلمون أفريقيا بلا سكان، وها هي دولة جنوب أفريقيا ينتشر الآيدز بين أكثر من نصف السكان، ومثلها دولاً أفريقية أخرى، وخاصة بلدان جنوب أفريقيا ووسطها. وعندما اجتمعت الدول الأفريقية وقررت وبتمويل ليبي إقامة مصنع ينتج العلاجات المضادة للإيدز، سارعت الدول الرأسمالية إلى رفض هذا القرار وأكدت أنها ستعمل ضد إقامته، ووضعت أمام تنفيذه العراقيل والعقبات، وفعلاً نجحت بعدم إقامة هذا المصنع ليتواصل فتك المرض بالسكان.
شاهدنا وقوف رؤساء هذه الدول في مأتم مانديلا يذرفون الكلمات ومثلها الدموع، ومن يمثل أفضل منهم، إليسوا هم من ينتج طرزان وفلاش كوردن وسوبرمان وجيمس بوند وبات مان، ورامبو ...؟
وهكذا مصائب قوم عند قوم أفلام ......!